ولا أضمرت حسوا في ارتواء
ولست من الذين يرون خيرا
بإبقاء الحقيقة في الخفاء
هو ذا معروف الرصافي في شعره، وفي نثره، وفي مجلسه. فالحقيقة، كيفما تراءت له، أحسناء فتانة كانت أم عجوزا درداء، هي هي محبوبته المعشوقة على الدوام. ولكن للمعشوقات ألوانا وأشكالا، وللرصافي في حبهن جميعا جميل الأقوال والأفعال. أما تذبذبه في بعض الأحايين بين حقيقة وأخرى؛ فذلك لأن للفضيلة أخوات يسكن في شارع التهتك، ولحب الوطن إخوان يكرهون الإقامة في شوارع الكلام، فقد نظم في قديم الزمان قصيدة في الأخلاق لا يزال مطلعها يرن في الآذان، ويروى في كل مكان.
هي الأخلاق تنبت كالنبات
إذا سقيت بماء المكرمات
ما عرفت أمة تحسن رواية الأشعار ولا تكترث مثل الأمة العربية. فهي تروي الحكم نثرا ونظما وتمضي في سبيلها.
أعود إلى الرصافي فأقول إن شهرته لا تقوم بحب الفضيلة، وليس حب الوطن من أساطين بيتها. إنما الاثنان من الحجارة والتراب في أساس البيت، وللأساس قيمته في البناء.
إذا لم يكن معروف بدوي المولد فهو بدوي الإرث. إني أذكر اجتماعنا الأول سنة 1910، يوم كان يلبس العباءة والعقال، ويلقي الشعر بلهجة بدوية ساحرة.
ثم سافر إلى الأستانة، ولبس هناك الجبة والعمامة، وانضم إلى الأتراك في نهضتهم المدمرة، فحمل اللواء والمصحف ليلة ونهارا ثم وثب وثبة واحدة من المسجد إلى الحانة. خلع معروف العمامة والجبة، وكل ما ترمزان إليه، وجعل المقاهي محط رحاله، فنظم من الشعر ما يفصح عن الحقيقة الجديدة في حياته. هي حقيقة التحضر وظلالها.
Unknown page