من منكم الملك المطاع كأنه
تحت السوابغ تبع في حمير
فيجيبه لسان حالهم قائلا:
القائد الخيل العناق شوازبا
خزرا إلى لحظ السنان الأخزر
قلب الأسد المفدى، ذلك هو قائدنا وإمامنا إذا التطم القنا بالقنا، وفيما سوى ذلك فلكل فريق ملك أو أمير له يخضع وبأمره يصدع.
وكان الملك ريكارد راكبا على جواد مطهم وعلى رأسه تاج مرصع بالدر والجوهر وهو يرد التحية للقواد على حسب رتبهم، ويلتفت إلى العلم الخافق فوق رأسه كأنه يقول: «إن هذه التحية لك وأنا أردها عنك.» وكلما مر قائد من القواد الذين يظن فيهم السوء يلتفت إلى العبد والكلب. ولما مر ملك فرنسا ووقف مقابل الأكمة وهم بصعودها لاقاه ريكارد فالتقيا في منتصف الطريق التي بينهما وتصافحها، فضجت العساكر كلها بأصوات الفرح والحبور، ثم مر فرسان الهيكليين وتحتهم الخيول العربية تخطر كالعرائس، وفي مقدمتهم رئيسهم العظيم، فنظر إلى الملك ريكارد ورفع يده وباركه؛ لأنه من رؤساء الدين، ثم مر دوق النمسا فالتفت الملك إلى العبد، وقال له: «كن على حذر ودع الكلب يراه جيدا.» فلم يبد الكلب حراكا، ثم تقدم مركيز منسرات، وكان قد قسم جنوده إلى ثلاث فرق وركب في فرقة منها وعليه حلل مزخرفة بالذهب والفضة ومرصعة بالحجارة الكريمة، وبجانبه رجل شيخ محلوق اللحية والشاربين، لا أثر للعظمة عليه مع أن مقامه رفيع جدا، فقد كان مرسلا من قبل البنادقة لمراقبة أحوال المركيز، فلما دنا المركيز من الملك ريكارد مشى الملك نحوه خطوتين أو ثلاثا ليلاقيه وقال له: «أرى خيالك يتبعك حيثما ذهبت.» فتبسم وفتح فاه ليجاوب الملك، ولكن قبل أن ينطق بكلمة هجم الكلب عليه كالأسد الضاري وأمسك بخناقه ورماه على الأرض. فالتفت الملك إلى العبد وقال: «قد أصاب كلبك المحز، فأبعده عن هذا الخائن لئلا يقتله.» فبذل العبد كل قوته حتى أبعد الكلب عنه، فأسرع كثيرون من قادة الجيش إلى المركيز ورفعوه عن التراب وهم يقولون: «قطعوا العبد والكلب تقطيعا.» فنادى الملك ريكارد بأعلى صوته وقال: «كل من يلمس العبد أو الكلب يموت موتا. وأنت يا مركيز منسرات رجل خائن فاستعد للمحاكمة.» فقال المركيز: «ما هذا الصنيع؟ وما هذا الاحتقار؟ أهذه هي العهود التي عاهدتنا بها بالأمس؟!» ثم تقدم رئيس الهيكليين وقال: «هل صار ملوك الصليبيين أرانب حتى يصطادهم ملك الإنكليز بالكلاب؟» وتقدم ملك فرنسا وقال: «لا بد من خطأ فيما حدث.» فقال رئيس أساقفة صور: «أرى أن هذه مكيدة من العدو، فيجب أن نقتل الكلب ونعذب العبد.» فقال ريكارد: «كل من يمسهما موتا يموت. وأنت يا مركيز، قف وأنكر إن استطعت ما يدعي عليك به هذا الحيوان الأبكم، وهو أنك أهنت شرف إنكلترا وحاولت قتل هذا الحيوان.» فقال المركيز: «إني لم ألمس علم إنكلترا بيدي.» فقال الملك: «وما أدراك أني أردت علم إنكلترا؟! ولكن أنت تعرف جريمتك وهي التي قادتك إلى القول بما قلت.» وكان الشغب قد اشتد، فنادى ملك فرنسا وقال: «أيها الأمراء والأشراف، احقنوا دماء عباد الله واصرفوا جنودكم إلى أماكنها، ونحن نجتمع في نادينا ونتذاكر في هذا الأمر.» فقال ريكارد: «كنت أحب أن نستنطق هذا الخائن وهو معفر بالتراب، ولكن ليكن كما قلت أيها الملك.» وحينئذ ضربت الأبواق واجتمع كل فريق حول قائده وانصرفوا إلى أماكنهم، وهم نادمون على ما اعتقدوه في ريكارد من الشهامة ومضمرون له السوء.
وانعقد نادي الأمراء ودخل المركيز بعد أن غير أثوابه التي كانت عليه، ودخل معه دوق النمسا ورئيس الاسبتارية وغيرهم من الرؤساء كأنهم منتصرون له، ثم دخل ريكارد وهو بالثياب التي كان راكبا بها ونظر إلى الرؤساء المحيطين بالمركيز نظر الازدراء وادعى عليه بأنه سرق علم إنكلترا، وجرح الكلب الذي كان يحميه. فقام المركيز وأنكر هذه التهمة، وكان ملك فرنسا جالسا في مجلس القضاء، فقال مخاطبا ملك إنكلترا: «أيها الأخ، إن هذه الدعوى غريبة لم يسمع بمثلها، وأنت قد بنيت حكمك على الظن وعلى هجوم الكلب على المركيز، فلا يليق بنا أن نكذب قول أمير ونصدق هذا الحيوان الأعجم!» فأجابه الملك ريكارد قائلا: «لا يغرب عن فطنتك أيها الأخ أن الله القدير قد منح الكلب طبيعة لا تعرف الخداع، فهو يذكر العدو والصديق والسيئة والإحسان، ويماثل الإنسان في الفطنة ولا يماثله في الخداع. فقد يمكنك أن ترشي الإنسان حتى يقتل سيده والقاضي حتى يعوج قضاءه، ولكن لا يمكنك أن ترشي الكلب حتى يسيء إلى من أحسن إليه. ألبس هذا المركيز ما شئت من الحلل، وادهن وجهه بما شئت من الأدهان، وأخفه بين مئات من الناس، وأنا أراهنك على تاجي وصولجاني أن الكلب يعرفه من بينهم ويعامله كما عامله على الأكمة، وهذه الحادثة ليست نادرة على غرابتها، فقد اتخذت شهادة الكلب دليلا كافيا على إثبات التهمة على القتلة واللصوص، وحدث شيء من ذلك في بلادك أيها الملك، وتبارز الناس مع الكلب، وإني أؤكد لك أن الجماد نفسه قد يكون كافيا لكشف الجرائم وإثباتها.»
فقال الملك فيليب: «نعم، جرى ذلك في أيام أحد أسلافنا حينما كان الناس يتحاربون بالعصي، أما الآن فلا يليق بنا أن نجعل أميرا يرمي سيفه ورمحه وينازل كلبا بالعصا.» فقال الملك ريكارد: «وأنا أيضا لا أرضى أن أخاطر بحياة هذا الكلب الأمين ولكن هو ذا قفازنا
1
Unknown page