الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الخاتمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الخاتمة
قلب الأسد
قلب الأسد
تعريب
يعقوب صروف
الفصل الأول
زحف الإفرنج منذ سبعمائة سنة زحفة ثالثة على بلاد الشام لاستخلاصها من قبضة المسلمين. وحدث أن فارسا من فرسانهم ذهب إلى غور الأردن لمهمة لهم، فلما دنا من البحر الميت خطر له ما فعل الله بسدوم وعمورة والمدن المجاورة لها حين عصته قديما؛ فأمطر عليها نارا وكبريتا من السماء وشق الأرض ودحرها فيها، ثم أجرى على آثارها مياه البحر الميت فلم يزل آية من آيات الله في مرارة مياهه وخلوها من الأحياء. ولما تذكر ذلك كله اقشعر بدنه وارتعدت فرائصه. وكانت الشمس قد تكبدت السماء أو كادت وأرسلت أشعتها كالسهام المحرقة.
بيوم من الشعرى يذوب لعابه
أفاعيه في رمضائه تتململ
فخيل له أن الجحيم فتح فاه فاستعرت الأرض بلظاه، ولولا رداء رث كان ملتحفا به فوق أسلحته لأعياه حر الهواء، وأضناه وهج الصحراء، وكان على الرداء صورة نمر رابض وهي شعار عائلته، وكانت مرسومة أيضا على ترسه وأسلحته، ولكنها تثلمت من ضرب السيوف ووقع السهام، وكأن الطبيعة التي أفرغت أعضاء هذا الفارس في قالب القوة والبأس منحته بنية لا يضنيها التعب ولا يتغلب عليها تقلب الأقاليم. وكانت أخلاقه نظير بنيته، فجعل الحزم له شأنا والثبات ديدنا وهذا الذي ميز أهل الشمال على غيرهم من الشعوب وبوأهم أرائك الملك في أوروبا كلها.
ولم يأت هذا الفارس من بلاده بمال كثير، ولذلك نفد ماله سريعا ولم تسمح له نفسه الأبية أن يغتصب أموال السكان ولا أن يفدي أسراه الذين كان يأسرهم بالمال كما فعل غيره من الفرسان؛ ولذلك هجره رفاقه ولم يبق معه إلا رجل واحد وهو الذي كان يحمل له سلاحه، وكان مريضا في ذلك الوقت، فاضطر الفارس أن يسير وحده في تلك القفار ولسان حاله يقول:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمر به الوحول
وكان يعلم أن في طريقه نبع ماء وبجانبه أشجارا من النخيل، فلما صار بمرأى منها حباها تحية العطاش للماء الزلال منتظرا دنو وقت الراحة، وكأن جواده علم ذلك فصر أذنيه وحمحم وأسرع في عدوه. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن؛ لأن هذا الفارس لم يلبث أن رأى النخلات حتى رأى بجانبها شبحا يتحرك، ثم رآه يقترب نحوه ولم يكن إلا هنيهة من الزمان حتى انجلى عن أمير من أمراء المسلمين راكب فرسا عربيا يسابق الرياح وبيده رمح قد سدده نحو الفارس يريد أن يختطف به روحه، فتربص في مكانه لأن التجارب علمته أن مطاردة الخيول العربية ضرب من الحماقة، وكأن الأمير لحظ ذلك ورأى خصمه راغبا عن الكر والفر، فدنا منه حتى صار على قيد رمحين، ثم دار حوله دورتين لكي يجد منه مقتلا غير حريز فيطعنه فيه، فكان الفارس يدور معه كيفما دار حتى أعيت الأمير الحيل، فأبعد عنه رمية سهم ثم انقض عليه كالعقاب، فرآه مستعدا له متأهبا لملاقاته.
فأوسع في عرض البيداء ثم انقض عليه ثالثة كصاعقة منقضة من السماء، فابتدره الفارس برمح قناته كالسارية رشقه به رشقا قاصدا رأسه، فاستلقى الأمير الرمح بترس له من جلد الكركدن فرجع الرمح عنه خائبا، ولكنه لم يستطع الثبات على ظهر جواده من عنف الضربة وثقل الرمح فوقع على الأرض، ولم يصل إليها حتى وثب إلى ظهر جواده وأبعد عن خصمه متعوذا من شره، ثم أوتر قوسه وجعل يرميه بالنبال حتى رماه بست أصابته كلها، ولكنها لم تأته بمكروه؛ لأنه كان غائصا هو وجواده في الحديد والزرد النضيد، ثم رماه بسهم سابع أصاب منه مكانا غير حريز، فسقط على الأرض مجندلا. فأسرع الأمير وترجل ليرى ما حل بخصمه، فلم يشعر إلا وهو قابض على نجاد سيفه وسير جعبته يحاول أن يصرعه بقوة ذراعه، فقطع الأمير بنود السيف وسير الجعبة وتملص منه واستوى على ظهر جواده، والتفت إليه قائلا: «نحن وإياكم في هدنة، وقد خبرت قوتي وخبرت قوتك، فهلم نتصالح ونتصاف.» فقال الفارس: «لا أكره الصلح إذا كان لي منك ما آمن به غدرك.» فقال الأمير: «ليس الغدر من شيمنا؛ لأن الشجاعة والغدر لا يجتمعان في إنسان.» فندم الفارس على ما فرط منه وقال له: حسبي. وأقسم أنه لا يغدر به ما دام في رفقته، فأقسم الأمير له كذلك، ثم جريا معا نحو الينبوع ليبردا غليلهما ويستظلا من حر الظهيرة.
الفصل الثاني
لم تخل أوقات الحرب والعدوان من أويقات يتسلط فيها الأمن وينشر السلم لواءه، حتى في العصور التي كان لسان الحال يقول فيها:
المجد في صهوات الخيل مطلبه
والعز في ظبة الصمصامة الخذم
ولهذا كان عرب الجاهلية ينزعون أسنة رماحهم في الشهر الحرام وينقطعون عن الحرب والصدام. وكانوا هم وغيرهم من الأمم يتهادنون إذا ملوا من ضوضاء الحروب ليتبصروا في إطفاء نارها. وكان الخصوم يلتقون اليوم في ميدان الوغى، ثم يتهادنون في الغد ويتصافون ويقيمون على ولاء وتصاف إلى أن تنقضي أيام الهدنة، فيعودون إلى المبارزة والمناجزة.
وكانت أخلاق العرب والإفرنج في العصر الذي حدثت فيه الحوادث التالية قد تدمثت باختلاطهم بعضهم ببعض في الشام والأندلس، وانتشر بينهم حفظ الذمام ورعاية العهود، فإذا تهادنوا أبعدوا الغدر عن خيامهم واعتصموا بالمروءة والشهامة إلى أن تنقضي أيام الهدنة، وعلى ذلك سار الأمير والفارس نحو الينبوع وكل منهما آمن غدر رفيقه. وكان فرساهما متعبين من المجاولة، وأشدهما تعبا فرس الفارس الإفرنجي؛ لأنه لم يكن معتادا على الحر ولا على المشي في الرمال، فترجل عنه وقاده بلجامه، فالتفت إليه الأمير وقال له: «نعم ما تفعل؛ لأن جوادك كريم لا يحسن التفريط فيه، ولكن ما هذا الجواد لمثل هذه الرمال، ألا تراه يغوص إلى الوصيف في كل خطوة يخطوها؟» فاغتاظ الفارس من كلامه وطعنه على جواده، وقال له: «إن هذا الجواد قد سار بي فوق بحار أوسع من هذا البحر، ولم تبتل شعرة من قوائمه.» فرمقه الأمير بعين المرتاب وقال له: «صدق المثل القائل: «أصغ إلى الإفرنج تسمع الغرائب».» فحملق الفارس فيه وقال: «أترتاب في قول فارس مجرب؟ ولكن لا عتب عليك؛ فإنك تجهل حقيقة قولي، ولولا ذلك لانقضت مدة المهادنة بيننا، فاعلم أنني أنا وخمسمائة فارس سرنا على الماء بخيولنا أميالا عديدة وكان الماء جامدا كالبلور؛ لأنه كما أن الحر يلطف التراب في هذه البلاد حتى يصير سهل الانهيار كالماء، فالبرد يجمد الماء في بلادنا حتى يصير صلبا كالصخر، ولكن دعنا من هذا الحديث لأن ذكر بحيرات بلادي يهيج أشجاني ويشدد علي وطأة الحر في هذه القفار.» ثم وصلا إلى الينبوع فأشغلهما طلب الراحة عن استطراد الكلام.
من غرائب الله في خلقه أن ترى رجلا صالحا بين قوم أثمة، كما كان صالح في ثمود. ولكن ما ذلك بأغرب من وجود هذا الينبوع في تلك القفار، والظاهر أن عين البشر اكتشفته لما كانت البلاد في بسطة من العيش، فبنوا عليه قبة لكي لا يجف بحر الشمس ولا تسفي الرياح الرمال عليه. وقد تشعثت هذه القبة وتهدم بعضها، ولكن بقي منها ما يقيه من أشعة الشمس وثوران الرمال، والماء يصب من الينبوع في جرن من المرمر خدشته مخالب الدهر، ولكنه لم يزل شاهدا على أن كثيرين من أبناء السبيل قد ارتشفوا من مائه، ثم يجري من الجرن فيسقي ما حوله من النخل والنبات، فيجعل تلك البقعة جنة في جهنم الصحراء.
ولما بلغ الفارسان الينبوع نزع كل منهما لجام فرسه وسرجه وسقاه وتركه يرعى في ذلك المرج، ثم شربا وجلسا على بساط من العشب، وأخرج كل منهما مزوده وجعل يأكل وينظر إلى رفيقه ويتأمل في بنيته ليعلم مقدار قوته.
وكان الفارس الإفرنجي طويل القامة ضخم الأعضاء، أشقر الشعر أجعده، أبيض الوجه أحمره، أزرق العينين واسعهما، كبير الشاربين محلوق اللحية، دقيق الأنف صغير الرأس، تلوح على وجهه أمارات الشهامة والأنفة وعزة النفس. وكان الأمير العربي فوق الربعة في القامة، صغير العضل مجدوله، خاليا من آثار الترهل، كأنه عظم وعصب، أسود الشعر أجعده، مشحوذ اللحية دقيق الأنف، أسمر اللون أسود العينين براقهما، على وجهه أمارات المهابة وعلو الشأن.
وكان طعام الفارس من لحم الخنزير المقدد، وشرابه من النبيذ المعتق. وطعام الأمير من الخبز والتمر، وشرابه من الماء القراح. فالتفت إلى الفارس وقال له: «لا يحسن بمن يحارب حرب الأبطال أن يأكل طعام الوحوش، فلو وقف بك يهودي لاشمأزت نفسه من رؤية هذا الطعام الذي تلتهمه كأنه من سدرة المنتهى.»
1
فعجب الفارس من هذا الكلام وقال له: «إننا - نحن معاشر النصارى - لنا من الحرية ما ليس لليهود.» قال ذلك وكرع كرعة من الخمر. فقال الأمير: «أتأكل كالوحوش وتشرب ما تعاف الوحوش شربه وتدعو ذلك حرية؟!» فقال الفارس وقد قدحت عيناه الشرر: «اعلم أيها الغبي أن عصير الكرمة يفرح قلب الإنسان، وينفي عنه الهموم والأحزان، فمن استعمله بالاعتدال يشكر الله عليه، كما يشكره على الخبز الذي لا غنى عنه.»
فوضع الأمير يده على قبضة حسامه وهم باستلاله، ولكنه عاد فذكر قسمه وقوة خصمه، فترك الحسام وعاد إلى الكلام، فقال: «اعلم يا هذا أن الشريعة التي تفتخر أنت بأنها أعتقتك من نير الناموس قد قيدتك بقيود لا يتقيد بها العبد الذليل، وأي قيد أشد من أن يرتبط الرجل بامرأة واحدة مهما كانت أطوارها، ويضطر أن يساكنها مدى الحياة؟! أما نحن - معاشر المؤمنين - فقد حررنا نبينا بحرية إبراهيم أبينا، وأباح لنا التمتع بما ملكت أيماننا.»
فقال الفارس: «وحق مالكة فؤادي إنك في ضلال مبين. ألا تباهي بهذه الجوهرة التي في خاتمك؟!» فقال الأمير: «كيف لا أباهي بها وهي يتيمة بغداد والبصرة؟!» فقال الفارس: «أحسنت، ولكن لو ضربتها بمطرقة حتى تكسرت كسرا صغيرة ما كان لكل قطعة منها قيمة كما لها، ونحن يقف الواحد منا محبته على امرأة واحدة، فتبقى المحبة سليمة كالجوهرة، وأما أنتم فتنقسم محبتكم بين نسائكم.»
فقال الأمير: «لقد أسأت التشبيه؛ فإن هذه الجوهرة محاطة بجواهر أخرى أصغر منها كما ترى، فهي بمثابة الرجل والجواهر الصغيرة التي حولها بمثابة نسائه، فهو رأسهن وهن تزداد قيمتهن بانضمامهن إليه.» فقال الفارس: «لو رأيت نساءنا ما نطقت بمثل هذا الكلام؛ فإن جمالهن يثقف رماحنا، ويحدد سيوفنا، فباسمهن نحارب ومن أجلهن نتجرع كأس الحمام كأنها كأس الحياة، وما من فارس من فرساننا اشتهر بين أقرانه إلا وله حبيبة يحارب من أجلها.»
فقال الأمير: «قد سمعت كثيرا عن هذا الجنون الشائع بين فرسانكم، وما هو إلا من نوع الجنون الذي جاء بكم إلى هذه البلاد، وكنت أود أن أرى هؤلاء الجميلات اللواتي يختلبن قلوب الرجال ويصيرنهم أبطالا في مواقف القتال.»
فقال الفارس: «لو لم أكن ذاهبا في هذا الطريق لأخذتك إلى ريكارد ملك الإنكليز الذي يكرم كل شجاع، ولو كان من ألد أعدائه، وأريتك هنالك جمال نساء فرنسا وبريطانيا الذي يفوق بهاؤه بهاء هذه الجوهرة، كما يفوق نور الشمس نور الحباحب.»
فقال الأمير: «هلم معي إلى ملك الإنكليز، ولا تلق بنفسك في التهلكة؛ لأن الطريق الذي أنت فيه كثير المخاطر، ولا سيما إذا لم يكن معك إجازة من السلطان.»
فقال الفارس: «وما أدراك أن ليس معي إجازة؟» ثم أخرج رقعة من جيبه عليها ختم صلاح الدين سلطان مصر والشام. فتناولها الأمير من يده وقبلها ووضعها على رأسه ثم ردها إليه، وقال: «لقد أخطأت إذ لم ترني هذه الإجازة حالما التقيت بك.»
فقال الفارس: «إنك قابلتني مشرعا رمحك، وأنا لو هجمت علي كتيبة من كتائبكم كما هجمت أنت ما لاق بي أن ألتقيها بغير الحسام والقنا.»
فقال الأمير: «مهلا يا صاح، فإن واحدا من الكتيبة قد صدك عن مسيرك.» فأجابه الفارس: «نعم، ولكن هذا الواحد نادر المثال.»
فانشرح صدر الأمير وقال: «لقد أنصفتنا، فالحمد لله أننا لم نتمكن من إراقة دمك، وأنت حامل أمر ملك الملوك بيدك، وإلا لكان القتل جزاءنا لا محالة.»
فقال الفارس: «يسرني أن أراكم تحترمون أمر السلطان هذا الاحترام، فقد بلغني أن في الطريق قبائل كثيرة شأنها القتل والنهب.» فقال الأمير: «إذا نابك مكروه من هؤلاء القبائل زحفت عليهم بخمسة آلاف فارس وقطعت دابرهم.» فشكره الفارس، وطلب إليه أن يهديه إلى مكان كان يريد المبيت فيه. فقال الأمير: «أنت ضيف علي، ولا بد من نزولك في خيمة أبي.» فأجابه الفارس: «كلا، فإني عازم أن أبيت عند رجل ناسك في مكان يقال له عين جدي.» فقال الأمير: «أنا أمضي معك إلى هذا الناسك.» فقال الفارس: «أخاف أن تعلم بمقره فلا يسلم من شركم.» فأجابه الأمير: «اعلم يا هذا أن كل من رعى ذمامنا من أهل ذمتنا رعينا ذمامه طبقا لسنتنا، ولكن من حمل الناس على حربنا حملنا عليه بخيلنا ورجلنا، وحكمنا فيه سيوفنا.»
الفصل الثالث
لما ارتاح الفارسان من مشقة الطريق وفرغا من الطعام، ألبسا فرسيهما عدتيهما وتعاونا على لبس سلاحهما، ثم شرب الفارس وقال: «حبذا لو علمت اسم هذا الينبوع؛ لأنني لم أر مثل مائه لتبريد ظمأ العطاش.» فقال الأمير: «اسمه عندنا درة القفر.» فقال الفارس: «نعما، فقد وافق الاسم المسمى.» ثم ركبا فرسيهما وانسابا في تلك الفيافي، وكانت الشمس قد مالت عن الزوال وخفت وطأة الحر. فالتفت الأمير إلى رفيقه وقال له: «سألتني عن اسم الينبوع، أفلا يليق بي أن أسأل عن اسم من شاركني اليوم في السراء والضراء؟!» فقال الفارس: «إن اسمي لا يستحق أن يشهر الآن، ولكن إذا كان لا بد لك من معرفته فهو وليم صاحب النمر الرابض، هذا هو الاسم الذي أدعى به بين الجنود، وأما في بلادي وبين قومي فلي اسم آخر وألقاب أخرى. وأنت من أي قبائل العرب تكون؟ وما هو اسمك بين قومك؟» فأجاب الأمير: «أنا لست من العرب بل من الأكراد، واسمي شيركوه (أي أسد الجبل).»
فتأمله الفارس ثم قال له: «بلغني أن سلطانكم صلاح الدين كردي الأصل أيضا، فهل ذلك صحيح؟» فأجاب الأمير: «نعم، وذلك فضل من الله علينا؛ فقد شرف جبالنا حتى أخرج منها من عقد النصر باسمه. وأنت بكم من الرجال خرجت من بلادك؟» فقال الفارس: «بعشرة فرسان وخمسين راميا، وهذا كل ما بلغت إليه مقدرتي ومعونة أصدقائي، ولكن لم يبق معي إلا رجل واحد والبقية فارقوني قتلا وموتا وهجرا.»
فنظر إليه الأمير متعجبا وقال: «هو ذا خمسة سهام في جعبتي، فإذا أرسلت سهما منها إلى خيامي خرج إلي ألف فارس، وإذا أرسلت سهما آخر خرج إلي ألف آخر، وهكذا إلى السهام الخمسة. وإذا أرسلت قوسي خرج إلي عشرة آلاف فارس. فكيف أتيت بخمسين رجلا لتتغلب على بلاد أنا من أقل حماتها؟! بل كيف تأمن لي دمي في معسكر قومك وأنت لا مال معك ولا رجال؟!»
قال الفارس: «إذا نال الواحد منا رتبة فارس، أو كان من الأشراف ساوى الملك مرتبة في كل شيء إلا الملك. فلو أن ريكارد ملك الإنكليز نفسه أهان فارسا منا، ودعاه ذلك الفارس إلى المبارزة لاضطر أن يبارزه.»
فقال الأمير: «أود أن أرى كيف تعطون الواحد منطقة من جلد ومنخاسين فيتساوى مع ملوك الأرض؟» (أشار بذلك إلى الوسم بسمة الفرسان الذي كان يوسم به أبطال الإفرنج.)
فقال الفارس: «اعلم أنه لا ينال هذه الرتبة إلا من كان حرا باسلا.» فقال الأمير: «أيستطيع بهذه الرتبة أن يرى نساء أسياده وبناتهم؟» أجاب الفارس: «نعم، ويحق لكل فارس أن يهوى أية أميرة كانت، ولو من بنات الملوك، ويقف لها سيفه وشهرته وعواطف قلبه.» فقال الأمير: «يظهر لي أنك علي الهيام، فهل لك أن تبوح لي باسم التي أنت هائم بها؟»
فاحمر الفارس خجلا وقال: «ما الإباحة من مذهبي، وحسبك أن تعلم أني علي الهيام كما قلت، فإذا أردت أن تزيد علما عن الحب والهيام فادخل مخيم الصليبيين تسمع ما يلذ به مسمعك وتر ما يقر به ناظرك:
تر الظبي خاطرات في معالمنا
والأسد تحمي الحمى بالبيض والسمر»
فلما سمع الأمير هذا الكلام، قال: «حبذا الأسد وحبذا البيض والسمر.» ثم ترنح طربا وأنشد قول عنترة العبسي:
أحن إلى ضرب السيوف القواضب
وأصبو إلى طعن الرماح اللواعب
ويطربني والخيل تعثر بالقنا
حداة المنايا وارتهاج المواكب
وضرب وطعن تحت ظل عجاجة
كجنح الدجى من وقع أيدي السلاهب
لعمرك إن المجد والفخر والعلى
ونيل الأماني وارتفاع المراتب
لمن يلتقي أبطالها وسراتها
بقلب جسور عند وقع المضارب
ويبني بحد السيف مجدا مشيدا
على فلك العلياء فوق الكواكب
وكان للفارس سنتان في بلاد الشام، فكان يفهم كلام العرب وأشعارهم، فقال للأمير على سبيل المزاح: «ذكرت السيف والرمح ولم تذكر فأس الحرب، فلو رأيت فأس الملك ريكارد ما ذكرت غيرها من أدوات الحرب والجلاد.»
فقال الأمير: «طالما سمعت عن هذا الملك، فهل أنت من رعيته؟»
فأجاب الفارس: «أنا من رفاقه في هذه الحملة ومن خدمه أيضا، ولكني لست من رعيته مع أني مولود في جزيرته، بل أنا من الشعب الاسكتسي.» فسأله الأمير: «أيملك عليكم ملكان في جزيرة واحدة؟» فقال: «نعم، والحرب بين هذين الملكين لا ينطفئ سعيرها، ولكنهما يد واحدة على العدو، ولذلك خرجنا معا لنخلص هذه البلاد من أيديكم.»
فقال الأمير: «يمين الله إنكم لفي ضلال مبين، وإني لأعجب من هذا الملك، كيف أنه يجرد جنوده لمهاجمة هذه القفار ويترك في بلاده ملكا آخر ينازعه الملك؟! فلا بد من أنكم قد خضعتم له جميعا قبل مجيئه إلى هنا.»
فاعترضه الفارس قبل أن يتم كلامه، وقال له: «لا وحق نور السماء، بل لو أراد ريكارد إخضاعنا قبل قيامه على الشام لبقيت الشام في حوزتكم أبد الدهر.» قال ذلك ثم ندم على ما قال متمثلا بقول القائل:
أبحت العدى سمعا فلا كانت العدى
إذا وجدوا خرقا أرادوا اتساعه
فعلم الأمير من هذا الكلام أن ملوك النصارى منقسمون فيما بينهم كملوك المسلمين، ولكن أبت شهامته وعزة نفسه أن يتخذ ذلك فرصة لتوسيع الخرق، فتغاضى عما سمع كأنه لم يفهم منه شيئا. ثم قطعا الغور ووصلا إلى نجد من الأرض كثير الآكام والحزون والشواهق والكهوف، فأخذ الأمير يقص على الفارس نوادر الضواري واللصوص التي تسكن تلك المغاير، فلم يحفل الفارس بها كثيرا؛ لأنه حسب نفسه بمأمن منها كلها، ثم خطر له أنه في القفر الذي جرب فيه السيد المسيح أربعين يوما فأفزعته أفكاره، وخيل له أن الأرض مسكونة بالجن والشياطين، فجعل يصلي ويتعوذ بالله.
وكان الحر قد زال وعاد الهواء إلى الاعتدال، فطابت نفس الأمير وتحركت فيه الشجون، فجعل ينشد الأشعار الغرامية ويشبب بربات الجمال ومخدرات الحجال، فتعوذ الفارس من شره وقال في باله: «ما رفيقي إلا شيطان مريد قد اقتفى أثري ليحول أفكاري عن التقوى ويحبب إلي حطام هذه الدنيا.» فحار في أمره ولم يدر كيف يتخلص منه؟ ولما رآه يزداد تصببا وتشبيبا قال له: «أيها الغبي، أما علمت أن إبليس اللعين يرصد الناس في هذه الكهوف والمغاير؟! فارعو عن غيك، ودع ذكر هواك وزهوك.» فأنكر الأمير هذا الخطاب ولكنه كظم الغيظ ولطف الجواب، فقال له: «أظنكم لا تتعلمون اللطف والأدب في بلادكم؛ فإنك التهمت أمامي فخذا من لحم الخنزير وكرعت زقا من النبيذ، وكلاهما رجس في شريعتنا، فلم أردعك عن ذلك ولا شددت عليك النكير، وأنت يثقل عليك أن أخفف مشقة الطريق بنشيد الأشعار، والشعر ريحانة النفوس.»
فقال الفارس: «اعلم يا صاح أني لا أذم الشعر ولا الغناء؛ فإن لهاتين الصناعتين المقام الأرفع عندنا، ولكن الصلاة والتسبيح أجدر بهذا المكان من التصابي والتشبيب؛ لأنه ملجأ للجن والأبالسة.»
فقال الأمير مازحا: «أوتحتقر الجن ونحن من أبنائهم؟» قال الفارس: «وكيف ذلك؟!» فجعل الأمير يقص عليه قصة ملفقة، فقال: «إن ملكا من ملوك الفرس طغى وتجبر وأكره رعيته أن تضحي له الضحايا من دماء الناس، وكان لأحد الحكماء سبع بنات كأنهن الدراري السبع فأصابتهن النوبة وجيء بهن إلى هذا الملك، فلما وقفن في الدهليز المؤدي إلى مسكنه انشقت الأرض وخرج منها سبعة رجال من مردة الجان، فحملوا البنات وأخذوهن إلى قصر مسحور في جبال كردستان وأولدوهن سبعة صبيان، فولدوا قبائل الأكراد السبع بين الإنس والجن.»
فلما سمع الفارس هذه القصة لم يشك في صحتها؛ لأن الأوهام كانت سائدة على عقول الناس في تلك الأيام، فقال للأمير: «هذا الذي ظننته من أمركم فإنكم أبطال أشداء كأبيكم إبليس! ولكنكم تفسدون في الأرض مثله.» فضحك الأمير من كلامه، وقال: «صدقت، فإن الشريعة المطهرة لم تغير من طباعنا شيئا، وعندنا أن الله سبحانه سوف يرضى عن الجن والأبالسة ويردهم إلى المقام الذي سقطوا منه.» ثم أخذ يترنم بقصيدة من قصائد الفرس القدماء يمدح بها إله الخير وإله الشر، ومنها قوله:
إني أنادي بمدح السيد العلم
أهور مزد لمن يصغي إلى كلمي
وأهرمان إله الشر أمدحه
مخافة الشر أو حفظا من الألم
1
فقال الفارس: «إن الأمير يتغنى بمدح إبليس!» فاحتار بين أن يتركه ويبتعد عنه أو يدعوه إلى المبارزة ويغادره طعاما لوحش الفلا. وبينما هو يزن الأمرين في باله إذا شبح طويل القامة نحيف الجسم مرتد بجلود الحملان، يثب من صخر إلى صخر كأنه خيال من الأخيلة أو مارد من مردة الجان. فقال: «ما هذا إلا إبليس اللعين، بعينه قد سمع مدح رفيقي له في أشعاره فأقبل علينا.» فثارت فيه الحمية الاسكتسية واستل سيفه وعزم أن يوقع بالاثنين معا. وللحال وقف الشبح أمام جواد الأمير وقبض على نضوه ودفعه دفعة تزحزح الجبال فسقط الجواد على الأرض، ووثب الأمير عن ظهره قبل أن يسقط فلم ينله مكروه، ثم إن الشبح ترك الجواد وقبض على الأمير كأنه يريد خنقه، فناداه الأمير باسمه وقال له: «تنح أيها المجنون من طريقي وإلا قبضت روحك بهذا الخنجر.» ثم التفت إلى الفارس وقال له: «هو ذا الناسك الذي أنت تطلبه.»
فنظر الفارس إلى الشبح ثم قال للأمير: «أما يكفي أنك تثير علينا أبالسة الجحيم حتى تهزأ بي أيضا؟» فقال الأمير: «أتشك في صدق قولي؟ سله يخبرك.»
فقال الشيخ: «نعم، أنا الناسك المقيم بعين جدي. أنا نصير الحق وعدو البطل. أنا سيف النقمة على أعداء الله.» قال ذلك وأخرج من تحت ثوبه نبوتا كبيرا، وجعل يضرب الصخور به فيفتتها تفتيتا. فالتفت الأمير إلى الفارس وقال له: «هاك الولي الذي تطلبه.» فقال الفارس: «ما هذا إلا مجنون!» قال الأمير: «أولا تعلم أنه إذا اختل عقل الإنسان صار من أولياء الله؟» وحينئذ سمعا الناسك يترنم ويقول:
أنا الحبيس وعين الجدي لي وطن
والليث والنمر في غاري مبيتهما
ثم جعل يثب أمامهما كالظبي. فاحتار الفارس في أمره وظن نفسه في أرض مسحورة. فقال له الأمير: «إنه يدعونا لنبيت عنده، فأنا الليث لأن معنى اسمي ليث الجبل، وأنت النمر لأن النمر شعارك.» فتبعاه في ذلك الشعب، وكان قد سبقهما إلى غاره وأضاء لهما مشعلا ليهتديا بنوره إليه، فبلغا الغار بعد مشقة شديدة وربطا فرسيهما عند بابه، ثم دخلاه فوجداه غرفتين كبيرتين منحوتتين في الصخر، وفيه مائدة معدة لهما. فترحب الناسك بهما، وكان قد غير أطواره وثاب إلى السكينة والوقار كأنه ملك من أجلاء الملوك منقطع إلى الزهد والعبادة. فجلسا حول المائدة وأكلا، والناسك واقف في خدمتهما لا ينطق بكلمة، ولما فرغا من الطعام قدم للأمير جاما من الحلوى وللفارس كأسا من الخمر وقال لهما: «كلا واشربا يا ولدي من عطايا الله واشكراه في قلبيكما.» ولما قال ذلك خرج إلى الغرفة الخارجية من الغار، فلحظ الفارس أن الأمير من معارفه فجعل يستخبره عن شأنه، ولم يكد يصدق أن هذا هو ثيودرك الشهير ناسك عين جدي الذي يكاتب البابوات والمجامع ببلاغة تفوق الوصف، وينهض همة ملوك أوروبا للزحف على الأرض المقدسة.
وكان الفارس مرسلا إلى هذا الناسك بمهمة سياسية، فرأى من أطواره ما جعله يتردد عن تبليغه الأمر الذي جاء لأجله. وجملة ما أخبره به الأمير عنه أنه كان من الأبطال العظام الذين جاءوا بيت المقدس للإقامة فيه، ثم انفرد بنفسه إلى هذا المكان وعاش عيشة الزهد والتقشف، وأن جميع الأهالي من مسلمين ونصارى يكرمونه ويجلونه وأنه يظهر تارة بمظاهر الجنون وطورا بمظاهر العقل والحكمة فيقصده الأمراء والعظماء ليرتشدوا بإرشاده. وإن السلطان صلاح الدين أصدر أمرا يمنع كل الناس من التعدي عليه. فلم ينجل الأمر للفارس وقال في نفسه: «قد يكون جنون هذا الناسك تظاهرا منه لكي يقي نفسه من العدوان وقد يكون حقيقة، فالأجدر بي أن لا أكاشفه بشيء حتى أكون على يقين منه.» وزاد ارتيابه فيه أنه رأى الأمير عارفا من أمره أكثر مما أظهر، وسمع الناسك يدعوه باسم آخر غير الاسم الذي سمى نفسه به. وفيما هو يتأمل في ذلك دخل الناسك وقال: «سبحان من جعل لكم الليل لتسكنوا فيه!» فأجاباه: «سبحانه على كل حال!» ثم أشار إلى فراشين بسطهما لهما فخلعا أسلحتهما وصلى كل منهما إلى قبلته وانطرح في فراشه وأخذتهما سنة النوم.
الفصل الرابع
وفيما كان الفارس مستغرقا في نومه شعر بثقل على صدره كأن عدوا قويا يشد خناقه، ففتح عينيه فوجد الناسك جالسا أمامه وقد وضع يده على صدره. فخاطبه الناسك باللغة الإفرنسية وقال له: «لي كلام أقوله لك ولا أريد أن يستمعه صاحبك، فقم والبس رداءك واتبعني.» فقام وأخذ سيفه، فقال له الناسك: «لا حاجة بنا إليه لأننا ماضون إلى حيث لا ينفعنا إلا الأسلحة الروحية.» فترك السيف ووضع خنجره في منطقته، وسار وراء الناسك وهو يظن أنه يرى رؤيا حتى بلغا مدخل الغار، فقال له الناسك: «بم أتيتني من ملك إنكلترا؟» فقال الفارس: «لم أره لأنه مريض، ولكن مجمع الملوك أرسلني إليك.» ففتح الناسك بابا في جدار الكهف وقال: «اعصب عيني بهذا المنديل واتبعني في هذا الطريق.»
وكان داخل الباب درج منحوتة في الصخر، فعصب عينيه وتبعه، فصعدا من درج إلى درج إلى أن بلغا بابا من الحديد، فانفتح لهما، وإذا داخله كنيسة صغيرة بديعة النقش والإتقان، فيها مصابيح من الفضة يوقد فيها الزيت المطيب. فركع الفارس على ركبتيه ساجدا، ثم التفت إلى الناسك فوجده خارج الباب لا يستطيع الدخول فرجع ليكلمه، فأغلق الباب في وجهه ولم يهتد إليه، فأمسى وحده وليس معه من السلاح إلا خنجره. فاحتار في أمره وجعل يمشي في الكنيسة ذهابا وإيابا إلى أن قرب الفجر، فانفتح باب ودخل منه ست راهبات لابسات ثيابا بيضاء ومبرقعات ببراقع سوداء، ووراءهن ست نسوة مبرقعات ببراقع بيضاء وحاملات طاقات من الورد الأحمر والأبيض. فطفن حول المذبح وهن يرتلن بأصوات رخيمة فركع الفارس على الأرض وقد ظنهن ملائكة من السماء. ولما طفن الطوفة الثانية وهن يمررن بجانبه وقعت وردة من إحداهن بين يديه فأجفل منها كأنها صاعقة وقعت عليه، ثم عاد إلى نفسه فقال: «قد كان ذلك اتفاقا عن غير قصد.» ولكنه شعر بجاذب يجذبه نحو الفتاة التي وقعت الوردة منها ولم يكن في لباسها ولا في قامتها شيء يميزها عن رفيقاتها إلا أن قلبه كان دليله عليها، فميزها من بينهن وكان يخفق لرؤيتها حتى كاد يشق صدره ويقع على قدميها كلفا بها، وكذا تكون مصارع العشاق، ثم مرت بجانبه في الطوفة الثالثة وهو لا يصدق ما يرى، ولما دنت منه أخرجت يدها فظهرت من خلال ردائها كالقمر من خلال الغيوم ورمت له وردة ثانية، فخفق فؤاده حتى كاد ينصدع، وتيقن أنها رمت الوردة بالقصد لا بالاتفاق، ورأى في يدها خاتما من الياقوت ولما وقع نظره عليه علم أنها هي اليد التي رآها غير مرة وقبلها، ولم تبق عنده ريبة في أنها هي الفتاة التي تعلق بهواها ووقف لها نفسه، ولكنه لم يعرف كيف وصلت إلى هناك، ولا ما هي الغاية التي جاءت لأجلها إلى مكان لا يدخله إلا الحبساء المتوحدون، فحسب أنه يرى كل ذلك في حلم.
وفيما هو غائص في بحار الأفكار انفتح الباب الذي دخلت منه العذارى فخرجن واحدة وراء الأخرى، وكانت عينه لم تزل محدقة بتلك الفتاة فرآها تدير رأسها نحوه وهي خارجة، ثم احتجبن عن عينيه وأغلق الباب وراءهن وانطفأت مصابيح الكنيسة وسدلت الظلمة ستارها على نفسه، ولكنه لم يعبأ بالظلمة ولا بقيامه في مكان لا يعلم أين بابه، بل أخذ يتلمس على الأرض حتى وجد الوردتين فجعل يقبلهما ويقبل الأرض التي داست حبيبته عليها، وما هو أول محب فعل ذلك، ولا سيما في العصر الذي كان فيه، ثم زفر زفرة طويلة وتأوه من كبد حرى.
هذه هي الفتاة التي أحبها وحارب باسمها ولأجلها ولم يكن قد سمع صوتها في حياته، مع أنه رأى وجهها الصبوح مرارا، أما هي فكانت قد رأته في ميدان الصراع وسمعت الشعراء يتغنون بمدحه ويصفون بسالته. وكان أمراء المملكة ورؤساؤها يفتخرون إذا نظرت إليهم، ولكنها لم تحفل بأحد منهم، بل انقادت عن غير إرادتها إلى هذا الفارس، وكانت كلما رأته أو سمعت عنه يزداد اعتباره في عينيها، وكان الجميع يلهجون بمدحه حتى أن الشعراء الذين لا يمدحون إلا من يصلهم بالصلات السنية كانوا يتغنون بشجاعته وهم لا ينتظرون منه شيئا، فلم يعد يهنأ لها عيش إلا إذا سمعت الناس يتحدثون عنه ويتباهون بشجاعته على حد قول القائل:
حديثه أو حديث عنه يطربني
هذا إذا غاب أو ذاك إذا حضرا
ولكنها لم تطمع بحديثه؛ لأن بينها وبينه درجات لا يمكنه أن يتخطاها فهي من بنات الملوك وهو من آحاد الفرسان الذين لا ناصر لهم إلا سيفهم. ولما زاد هيامها به شعرت من نفسها أنه هو هائم بها أيضا، وأنه هو الرجل المعين بالقدر المحتوم ليقاسمها نعيم الحياة وبؤسها، ولكنها لم تر وجها لذلك لما بينهما من بعد المنزلة.
ولا يخفى على القارئ أن هذه الأميرة، واسمها الأميرة جوليا، لما شعرت أن هذا الفارس واقع في هواها ومتدرع به على اقتحام الأهوال اعتزت وافتخرت، ولكنها كانت تتذمر بعض الأحيان من البعد الشاسع الذي بينها وبينه، وكأنها تلومه لاتضاعه وعدم توخيه الترفع إلى مقامها، مع أن هذا الترفع كان ضربا من المحال على من في منزلته. وكان يخطر لها أحيانا أنه يجب عليها هي أن تخاطر بنفسها وتمد يدها له لترفعه إلى منزلتها، ثم يتراءى لها علو حسبها ونسبها فتطأطئ محبتها لكبريائها حاسبة أن كل تنازل تتنازله يحط قدرها في عينيه، ومع كل تحفظها وتوقيها لم تقدر أن تخفي عنه ما بها من الغرام، وإلا فكيف قدر أن يميز يدها في الكنيسة وهو لم ير منها إلا أصبعين؟! وكيف علم أن الوردتين رمتهما له عن قصد منها؟
ولكنه لم يزل مرتابا في أمرها، وكان كلما رأى علامة تدل على محبتها له يقوم في نفسه ألف شك على أنها ربما فعلت ذلك عن غير قصد، أو ربما خدعته عيناه أو أرته المخيلة ما لا حقيقة له، ولا سيما لأن دلائل المحبة لم تكن متواصلة، بل كان بينها فترات طويلة، كأن هذه الأميرة كانت تخاف أن يعرف أحد حبها له فيحسده ويسعى في هلاكه، أو أنه هو يظن بها التعرض له فيحتقرها على حد قول القائل:
عرضنا أنفسا عزت علينا
عليكم فاستخف بها الهوان
ولو أنا حفظناها لعزت
صدقتم كل معروض يهان
الفصل الخامس
وأقام الفارس ساعة من الزمان في الظلام الدامس، لا يرى إلا صورة حبيبته ولا يسمع إلا صوتها، ولم يخطر بباله أنه في بلاد كثيرة المخاطر، ولا كان يحسب لشيء حسابا ما دامت حبيبته على مقربة منه. وفيما هو غائص في بحار الأفكار سمع صفيرا خارجا من تحت الأرض، فنهض على قدميه ووضع يده على خنجره فانفتح باب من الأرض، وخرج منه رجل قصير القامة كبير الرأس دميم المنظر، لابسا ثوبا أحمر وفي منطقته خنجر مذهب، وعلى ذراعيه أساور من الذهب وفي يمينه مصباح وفي يساره مكنسة. فلما رآه قال في نفسه: «ما هذا القزم إلا جني من الجان التي تسكن المغائر والكهوف في هذه البلاد!» فوقف مندهشا لا خوفا منه، بل هيبة لظنه أنه فوق البشر مقدرة.
ثم إن القزم صفر فأجيب صدى صفيره بصفير آخر من تحت الأرض، وصعد من الباب امرأة قزمة حاملة بيدها مصباحا آخر ولابسة ثوبا أحمر، وهي تفوق الرجل في قبح الصورة. فلما صارت بجانبه مشيا معا وجعلا يكنسان الكنيسة، وكان يبديان من الحركات والإشارات ما يضحك الثكلى. ولما قربا من الفارس أخذا يتفرسان فيه ويرددان المصباحين حولهما كأنهما يقولان له: «تفرس فينا جيدا.» ثم قهقها قهقهة أدوت لها الكنيسة. فذعر الفارس وأقسم عليهما أن يخبراه من هما. فقال الرجل بصوت كنعيق الغراب: «أنا القزم نكتبانس.» وقالت القزمة بصوت بين النعيق والصفير: «وأنا زوجته كوانفرا.» فقال الفارس: «وما قصتكما؟ وكيف أتيتما إلى هذا المكان؟» فقال القزم: «أنا سلطان جوج وماجوج، وقد أتيت لأتجسس هذه الأرض قبل الإغارة عليها.» فقالت له القزمة: «كذبت يا خبيث، أنت ملك بريتني الذي سرقته الجان، وأنا السيدة كوانفرا المشهورة بجمالها!»
فالتفت القزم إلى الفارس وقال له: «إن أردت الحق فنحن كلانا من الأمراء، وكنا عائشين في كنف الملك غالي ملك القدس.» ولم يتم هذا الكلام حتى سمعوا واحدا يقول من خارج الكنيسة: «اصمتا أيها الأحمقان واخرجا من هذا المكان.» فلما سمعا هذا الكلام جعلا يتساران فيما بينهما، ثم أطفأ كل منهما مصباحه ونزلا من حيث صعدا وتركا الفارس في الظلام الدامس. ولكنه تيقن من كلامهما أنهما من الأقزام الذين يعيشون في دور الملوك والعظماء. ولو جرى مجرى أهل عصره لسر برؤيتهما وطرب من حركاتهما، ولكنهما دخلا عليه حينما كان يتأمل في أسمى المواضيع وأحبها لديه، فاغتاظ من رؤيتهما وسر بانصرافهما.
وبعد أن انصرف القزمان بقليل انفتح الباب الذي دخل الفارس منه، فرأى وراءه مصباحا صغيرا وبجانب المصباح شبحا أسود، فدنا منه وتوسمه، فإذا به الناسك وهو راكع على ركبتيه. فقال الناسك: «خذ المصباح وانزل أمامي؛ لأني لا أقدر أن أرفع المنديل عن عيني ما دمت في هذا المكان الطاهر.» فنزل الفارس وهو لا يفوه ببنت شفة؛ لأن المرائي التي رآها أدهشت عقله، وما زال سائرا حتى وجد نفسه في الغار الذي صعد منه. فقال الناسك: «قد عدت إلى هذا السجن وسأبقى فيه أتقلب على جمر الغضا إلى أن يقضي علي الديان العادل.» قال ذلك ونزع المنديل عن عينيه وتفرس فيه طويلا ثم رده إلى مكانه، وقال للفارس: «امض إلى فراشك ونم، أما أنا فقد حرمت النوم.»
فدخل الفارس إلى المخدع والتفت إلى الخارج قبل أن ينام، فرأى الناسك قد عرى كتفيه وجعل يجلدهما بالمجاليد! فقال في نفسه: «لا بد من أن هذا الرجل قد ارتكب جريمة فظيعة وهو يقمع جسده ويعذبه لكي يتطهر من وصمة ذنبه.» ولما نهض في الصباح تكلم معه في الأمر الذي جاء لأجله، واضطر أن يقيم عنده يومين آخرين.
الفصل السادس
«دع ذكر سلمى وبانات بذي سلم»
واقصص علينا حديث السيف والقلم
هلم أيها القارئ اللبيب، من غور الأردن إلى معسكر الملك ريكارد ملك الإنكليز بين عكاء وعسقلان، وانظر الخيام المضروبة كأنها الأفلاك والجنود المبثوثة في عرض البر كأنها عراجل الأسود. بهؤلاء الأبطال جاء قلب الأسد
1
من بلاده عازما على افتتاح أورشليم وردها للنصارى، ولكن خانه السعد وأحبطت الخيلاء مساعيه، فاغتاظ منه أمراء الإفرنج وغلوا يديه وأيديهم عن العمل، ثم انكفئوا راجعين إلى بلادهم موغرين الصدور بالأحقاد والضغائن. وكانت الأمراض قد فتكت بجنودهم، والشهوات قد أفسدت آدابهم وأضعفت أبدانهم، وسيف صلاح الدين نكلهم تنكيلا فرجعوا إلى بلادهم شرذمات متفرقة، بعد أن خرجوا منها يجرون أذيال المجد والفخار ويتباهون بعددهم وعددهم. ولولا قلب الأسد وشدة بأسه وبأس فرسانه ما أبقى صلاح الدين على أحد منهم.
ولكن مهما اشتد بأس الإنسان لا يقوى على الأمراض الخبيثة، فقد أصابت ريكارد قلب الأسد حمى من الحميات الشديدة المضعفة طرحته في فراشه وجعلته كأضعف البشر، فمنعته من الحضور في المؤتمرات الحربية التي كان أمراء الصليبيين يعقدونها. وغلت أيدي الجنود كلهم فأبطلوا الحرب والصدام، وتهادنوا مع صلاح الدين ولم يستعدوا في هذه الهدنة للزحف على بيت المقدس، بل حصنوا معسكرهم كأنهم استبدلوا بالهجوم الدفاع. فلما بلغ ريكارد ذلك اسودت الدنيا في عينيه، وكان رجاله يخافون منه خوفا شديدا، حتى أطباؤه لم يكونوا يجسرون أن يخالفوا له أمرا. ولم يكن بين حاشيته إلا رجل واحد قادر أن يقف أمامه إذا غضب وهو البارون توما ده فو، فإن هذا الرجل كان يحبه محبة شديدة ويفضل سلامته على كل ثمين، وينهاه عما به ضيره ولو خاطر بنفسه، وكان بطلا محنكا جبارا في قوته، خشنا في طباعه لا يعرف التمليق ولا التدليس، يخدم مولاه ويسهر عليه لا كما يخدم العبد سيده، بل كما يخدم الصديق صديقه، قياما بشروط الصداقة والمحبة.
وذات يوم كان الملك نائما في سريره يتقلب متأففا من شدة الحمى، وقد نحل جسمه وطال شعره، والبارون ده فو واقف بجانبه وهو طويل القامة ضخم الأعضاء، كث الشعر، وجهه مغطى بآثار الجراح، وموقفه بجانب سرير الملك لا يتغير إلا حينما يجرعه الدواء. والخيمة التي فيها الملك أشبه بمعرض حربي منها بفسطاط ملك رفيع الشأن، فإنها كانت مفروشة بأنواع الأسلحة وغنائم الحروب وجلود الحيوانات، وفيها ثلاثة كلاب من كلاب الصيد الكبيرة وهي محدقة بسيدها كأنها تقول له: «متى تقوم وتمضي بنا إلى الصيد والقنص؟» وترسه المثلث على مائدة صغيرة بجانب السرير، وهو من الفولاذ الصقيل وعليه رسم ثلاثة أسود رابضة، وبجانب الترس فأسه المشهورة التي كان يضرب بها الفارس فيشطره شطرين، وعلى باب الخيمة ثلاثة من رؤساء الحرس تلوح عليهم أمارات القلق وانشغال البال خوفا على مولاهم وعلى نفوسهم إذا طال مرضه. وخارج الخيمة كثيرون من الخدم والحشم، وكلهم كاسف البال مبلبل الأفكار. فقال الملك بعد أن سكت عن الكلام وقتا طويلا بسبب شدة الحمى: «هل صار فرساننا نساء ونساؤنا راهبات وانمحت الشجاعة من معسكر فيه نخبة فرسان أوروبا؟»
فقال له البارون ده فو: «الهدنة تمنعنا عن الحرب والجلاد يا مولاي، أما النساء فلا أعلم من أمرهن شيئا إلا أن الجميلات منهن ذهبن برفقة الملكة والأميرة إلى دير عين جدي لإيفاء نذر نذرنه لأجل سلامتك.»
فقال الملك: «وكيف خاطرن بأنفسهن وذهبن إلى مكان لا مأمن للرجال فيه؟» فأجابه البارون: «هن في مأمن من كل خطر؛ لأنهن أخذن إجازة من صلاح الدين.» فقال الملك: «صدقت، ولهذا السلطان منة علي ومن لي بأن أفيه إياها في ميدان النزال.» ولما قال ذلك أخرج ذراعه من تحت الدثار وهزها كما يهزها وهو قابض على سيفه أو على فأسه، فقبض عليها البارون ده فو وردها إلى تحت الدثار، وقال له: «أفرغ صبرك من هذه الحمى؟»
فقال: «أنا مريض، ولكن ما مرض ملوك النصارى؟ ماذا أصاب ملك فرنسا ودوق النمسا؟ ماذا أصاب مركيز منسرات ورئيس الاسبيطارية والهيكلية؟ ما هذا الداء العياء؟ وما هذا الفالج الذي منعهم من الحركة والكلام؟ وما هذه الآكلة التي أكلت قلوبهم ونخرت عظامهم حتى نسوا إلههم وداسوا شرفهم؟!»
فقال البارون: «بالله عليك يا مولاي أقصر عن هذا الكلام؛ فقد تناقلته عنك الألسن وكاد شملنا يتمزق بسببه، أولا تعلم أنهم بدونك لا يقدرون أن يفعلوا شيئا؟»
فقال الملك: «دعنا من التمليق.» وألقى رأسه على وسادته وصمت طويلا ثم قال: «يا للعار! أتتضعضع أحوال هؤلاء الملوك والرؤساء بمرض إنسان واحد؟! علام يكون مرض ريكارد، بل موت ريكارد، مانعا يمنع ثلاثين ألفا من الزحف على أورشليم، وكل منهم بطل مجرب مثله؟! إذا صرع قائد الوعول اختارت الوعول قائدا آخر في الحال ليقوم مقامه، وإذا ضرب الشاهين قائد الكراكي قام منها قائد آخر في الحال، فعلام لا ينتخب هؤلاء الرؤساء قائدا آخر عوضا عني؟»
فقال البارون: «العفو يا مولاي، فقد بلغني أنهم قد تآمروا في هذا الأمر وفي نيتهم أن ينتخبوا قائدا.»
فاتقدت غيرة ريكارد وقال: «أنسيني حلفائي وحسبوني ميتا وأنا حي أرزق؟ لقد أصابوا. ومن ينتخبونه عوضا عني؟» فأجاب البارون: «ينتخبون ملك فرنسا؛ فإنه أحق بذلك من كل أحد.»
فقال ريكارد: «ملك فرنسا ونافار نخبة ملوك النصارى، ولكني أخاف أن يبدل كلمة التقدم بكلمة التأخر، ويرتد بنا إلى باريس بدلا من الزحف على أورشليم.»
فقال البارون: «بل ربما ينتخبون دوق النمسا.»
فقال الملك: «لماذا؟ ألأنه ضخم الجسم مثلك؟ هذا لا يصلح لقيادة الجيوش، بل لأكل اللحوم وشرب الخمور.»
فقال البارون: «وما قول جلالتك في رئيس الهيكليين فإنه شجاع ماهر في فنون الحرب، صاحب حكمة ودهاء وله مأرب في تخليص الأرض المقدسة؟»
فقال الملك: «لا ريب في مهارته، ولكن ليس من العدل أن تؤخذ الأرض المقدسة من صلاح الدين الملك العادل الكثير الفضائل والفواضل، وتعطى لهذا الساحر الذي يعبد الشيطان ويرتكب المحارم في معابد الله.»
فقال البارون: «وما قول جلالتك في رئيس الاسبيطارية، فلا لوم في سيرته؟»
فقال الملك: «ولكنه بخيل منتن، يبيع بالمال كل ثمين. أولم يبع أعداءنا بالمال ما لم يستطيعوا امتلاكه بالسيف؟»
فقال البارون: «عندي إنسان آخر وهو المركيز كنراد منسرات، فهو حكيم وشجاع معا.»
فقال الملك: «هو حكيم داهية، ولكنه ذئب في جلد خروف. وأما من جهة كونه شجاعا فلا يغرنك ركوبه جياد الخيل ولبسه دلاص الدروع، فما كل مصقول الحديد يمانيا. أولا تذكر أني قلت له مرة: «لو كان أمامك ستون رجلا من العدو ومعك اثنان من الفرسان، أما كنت تهجم بهما عليهم؟» فماذا كان جوابه لي؟»
فقال: «أجابك أن أعضاءه من لحم لا من حديد، وأنه يفضل أن يكون له قلب إنسان على أن يكون له قلب وحش، ولو كان ذلك الوحش أسدا. وعليه فلا رجاء من أخذ بيت المقدس إلا إذا كنت قائدا لنا.»
فقال الملك: «ليس الأمر كذلك يا ده فو، بل في معسكر النصارى كثيرون من الفرسان، وهم أفضل مني لقيادة الجيوش، ولكن كل فارس يرفع علمه على البيت المقدس، وأنا مريض ويحرمني من هذا الفخر الذي أتيت لأجله لا يسلم من يدي حينما أشفى، وأظنني أسمع صوت البوق، فانظر ما هذا الصوت.»
فقال البارون: «هذه أبواق ملك فرنسا.»
فقال الملك: «ألم تعد تسمع؟! هذا صوت العدو وهذا تهليله.» قال ذلك وحاول القيام من فراشه، فحاول البارون منعه بكل قوته ولم يستطع حتى استعان ببعض الخدم، فلما رأى الملك نفسه عاجزا عن المقاومة قال: «أتمنعني عن النهوض أيها الخائن؟! لو كنت في صحتي لطيرت دماغك.»
فقال البارون: «يا حبذا لو كنت في صحتك ولو طيرت دماغي!»
فمد الملك يده له وقال: «يا خادمي الأمين، سامحني على ما فرط مني؛ فإن الحمى هي التي أنطقتني بما نطقت. والآن أطلب منك أن تمضي وترى ما سبب هذه الضوضاء.»
فخرج البارون من خيمة الملك بعد أن أوصى الخدم والحشم أن ينتبهوا أشد الانتباه إلى سيدهم، وهددهم بالعقاب الشديد إذا بدا منهم تقصير، وكانوا يخافون منه كما يخافون من الملك.
الفصل السابع
لما خرج ريكارد ملك الإنكليز من بلاده قاصدا الأرض المقدسة تبعه جمهور من الأمراء الاسكتلنديين هم ورجالهم، وكانوا يركبون لركوبه وينزلون لنزوله ويحاربون تحت لوائه، ولكنهم كانوا ينصبون خيامهم وحدهم مستقلين بأنفسهم كأنهم من أمة أخرى وشعب آخر. وكذا كان الفرنسيون والإيطاليون والجرمانيون والدانماركيون والأسوجيون. بل كثيرا ما كان هؤلاء الشعوب يعاملون بعضهم بعضا بالجفاء والقسوة في غير وقت الحرب. وكان البارون ده فو أشد الناس كرها للاسكتلنديين، ولكن ارتباطه معهم في الجهاد ألجأه إلى كتم ما في صدره من الكره، بل كثيرا ما كان يبعث لهم بالطعام والدواء من عنده سرا لا علنا؛ عملا بوصية الكتاب القائل: «أحسنوا إلى مبغضيكم.» وقد تقدم في الفصل السابق أن الملك ريكارد أمره أن يخرج ويرى ما سبب صوت البوق والتهليل، فلم يبعد عن خيمة الملك حتى رأى جمهورا من العرب بجمالهم وخيولهم واقفين في قلب المعسكر وهم يضربون الأبواق والطبول، والجنود الإنكليزية متجمعة عليهم. وأول شخص التقى به كان السر وليم الفارس المتقدم ذكره في الفصول السابقة فتأفف من رؤيته، وكان قاصدا أن يمر به ولا يسأله عن سبب هذه الجلبة، لكن الفارس دنا منه وقال له: «لي معك كلام يا مولاي.» فقال البارون: «اختصر ما أمكنك؛ لأنني ذاهب بأمر الملك.» فقال الفارس: «أنا غرضي الملك؛ لأنني أتيته بالشفاء.»
فنظر إليه البارون ده فو من رأسه إلى قدمه كأنه يقيس طوله وعرضه، ثم قال له: «كان الأجدر بك أن تأتي الملك بالغنائم.» فاغتاظ الفارس من هذا الجواب ولكنه كظم الغيظ، وقال: «إن شفاء ريكارد هو الغنيمة الكبرى لنا ولكل النصارى، فهل لك أن تسمح لي بالدخول عليه؟»
فقال: «كلا، ما لم تخبرني بغرضك أولا؛ لأن خيام الملوك ليست مباحة لجميع الناس.»
فقال الفارس: «إن أمر الجهاد الذي يجمعني معك يضطرني أن أغضي الطرف عما تقول، وجلية الأمر أنني أتيت بطبيب من أطباء العرب، وهو قادر أن يشفي الملك.»
فقال البارون: «ومن يكفل لنا أن هذا الطبيب لا يدس السم للملك مع الدواء؟»
فأجابه الفارس: «إن حياته الكفالة.» فقال البارون: «إن كثيرين من هؤلاء الحمقى لا قيمة عندهم لحياتهم، فيسرعون إلى الموت كما يسرعون إلى الوليمة.»
فقال الفارس: «نعم، ولكن صلاح الدين المعروف عندنا بالشهامة وكرم الأخلاق قد بعث بهذا الحكيم، وبعث معه موكبا كبيرا يليق بشأنه، وهدايا للملك، وبعث إليه برسالة يرجوه فيها أن يستعمل علاج الحكيم لكي يشفى سريعا ويستعد لزيارته، فهل لك أن تأمر برفع الأحمال عن هذه الجمال واستقبال الحكيم بما يليق بمقامه.»
فقال البارون: «ومن يكفل لنا صدق صلاح الدين في هذا الأمر وموت ملكنا كاف وحده لتخليصه من مشقة الحرب كلها؟» فقال الفارس: «أنا أكفل أمانة صلاح الدين، أنا أكفلها بشرفي ودمي.»
فقال البارون: «وهذا أغرب من ذاك، ابن الشمال يكفل ابن الجنوب! الغربي يكفل الشرقي! ألا تخبرني يا مولاي كيف اتصلت إلى صلاح الدين والحكيم؟»
فقال الفارس: «كنت مرسلا إلى ناسك عين جدي برسالة سرية ...» فقاطعه البارون عن الكلام، وقال له: «أما تطلعني على الرسالة وجواب الناسك؟» فقال: «كلا، لا أستطيع ذلك.» فقال البارون: «أما تعلم أني من مشيري ملك الإنكليز وأهل سره؟»
فقال: «بلى، ولكن أنا لست من رعايا ملك الإنكليز، وقد أرسلني مجمع الملوك والأمراء والقواد العظام، ولهم وحدهم أرد الجواب.»
فقال البارون: «كن رسول من شئت، أما أنا فلا أدع أحدا يدنو من خيمة الملك ريكارد إلا برضاي.» قال ذلك ودار وجهه وهم بالانصراف، فوقف الفارس في طريقه وقال له: «ألا تعلم أنني فارس مجرب ومن بيت شريف؟» فقال البارون: «كل الاسكتلنديين يدعون بالشرف من طفوليتهم. أما من جهة كونك فارسا مجربا، فهذا لا أنكره عليك.»
فقال الفارس: «قد اعترفت أنني فارس مجرب، فأنا أقسم لك بتربة أجدادي وبالجهاد المقدس الذي أتينا لأجله لننال الفخر في هذه الحياة وغفران الخطايا في الأخرى؛ أنه لا غرض لي إلا شفاء ريكارد قلب الأسد.»
فتخشع البارون ده فو من هذا القسم، وقال له بلطف: «هب يا مولاي أنك مقتنع بصدق هذا الحكيم وأمانته، فهل يجب علي أن أقتنع نفس هذا الاقتناع وأسلم ملكنا لهذا الحكيم في بلاد صناعة التسميم فيها رائجة؟»
فقال الفارس: «يا مولاي، لا دليل عندي على أمانة هذا الحكيم إلا هذا، وهو أن خادمي الذي أبقته لي الحروب من كل رجالي مريض بالحمى المصاب بها الملك، وهذا الحكيم أعطاه دواء منذ ساعتين والآن قد خفت الحمى كثيرا. فلا ريب عندي أنه قادر على شفاء الملك، ولا ريب عندي أيضا بسلامة نيته؛ لأنه مرسل من قبل صلاح الدين الذي لا يرتاب أحد منا في صدق طويته، هذا والحكيم في أيدينا، فلا يعقل أنه يلقي بنفسه في التهلكة وهو قادر أن يخرج من عندنا بأوفر الصلات.»
فأطرق البارون إلى الأرض مترددا بين الشك واليقين، ثم رفع رأسه وقال: «ألا تسمح لي برؤية خادمك؟» فاحمر وجه الفارس خجلا ثم قال: «الأمر إليك يا مولاي، ولكن لا تنس حينما ترى خادمي أن أشراف اسكتلندا وأمراءها لا يعيشون عيشة الترفه مثلكم معاشر الإنكليز.» قال ذلك ومشى أمام البارون كأنه عن غير رضاه.
فلم يرد البارون أن يظهر ما يدل على شماتته بفقر الاسكتلنديين بل قال: «لا كان من يهمه الترفه في هذا الجهاد، ومهما تكن حالنا فنحن أصلح حالا من الشهداء والأبرار الذين داسوا هذه الأرض قبلنا.» وحينئذ بلغ مخيم الفارس فوجده بقعة من الأرض تسع ثلاثين خيمة على عدد رفاقه الذين كانوا معه، وفيها أكواخ حقيرة من أغصان الأشجار، وفي وسطها كوخ أرفع من غيره قليلا، وعليه العلم الاسكتسي. ودخل الفارس هذا الكوخ وتبعه البارون فوجد في الكوخ سريرين: أحدهما سرير الفارس، كما يظهر من الأسلحة الملقاة بجانبه، والآخر سرير خادمه المريض وهو مغطى بثياب الفارس وأرديته. وأمام الباب خادم آخر يضرم النار ويصلح الطعام وبجانبه قطعة كبيرة من لحم الغزال، وهناك كلب من كلاب الصيد رابض على الأرض، وهو أكبر من كلاب الملك ريكارد وأجمل منها منظرا وأجود أصلا. فلما رأى البارون هر عليه بصوت جهير كأنه صوت الأسد، ثم رأى سيده فكف عن الهرير.
وكان الحكيم جالسا بجانب سرير المريض وهو لابس قلنسوة من عمل استرخان، وعيناه تتلألآن في وجهه كأنهما سراجان موقدان. فوقف البارون برهة طويلة لا يسمع إلا زفير المريض وهو نائم. وحينئذ قال له الفارس: «قد مضى على خادمي ستة أيام لم يذق فيها النوم كما أخبرت.» فقبض البارون على يده وقال له: «يظهر لي أن خادمك غير ملتفت إليه الالتفات الواجب.» قال ذلك بصوت عال على جاري عادته، فاستيقظ الخادم وقال لمولاه: «ألا ترى ماء الكليد
1
باردا حلوا بالنسبة إلى الماء الناقع الذي كنا نشربه بفلسطين؟» فقال الفارس للبارون: «ها هو مرتاح في نومه ولذلك يحلم ببلاده ...» وقبل أن يتم كلامه نهض الحكيم ووضع يد المريض على السرير، وكان قابضا عليها يجس نبضها، وأمسك بالبارون والفارس وأخرجهما إلى خارج الكوخ وقال لهما: «أقسمت عليكما بعيسى بن مريم ألا توقظا المريض؛ لأنه إن لم ينم مات لا محالة! فاذهبا الآن وارجعا عند صلاة المساء، فإن نام إلى ذلك الوقت نجا من الخطر وأمكنه حينئذ أن يتكلم معكما.» قال ذلك ورجع إلى مكانه.
أما هما فلبثا واقفين أمام الباب وكأن شيئا منع البارون عن الانصراف، وكان الكلب قد قام من مكانه ودنا من سيده وجعل يثب عليه ويبصبص بذنبه، ثم يعدو في الأرض عدوا سريعا ويعود إلى سيده. وكان الاثنان ينظران إليه وكلاهما عارف بالصيد مولع به فقال البارون: «هذا الكلب نادر المثال وليس عند الملك ريكارد كلب مثله، ولكن ألم يبلغك أمر الملك وهو أنه لا يحق لأحد دون رتبة الأرل
2
أن يقتني كلب صيد في مخيم الملك إلا بإذن منه؟ والأرجح عندي أنك لم تنل هذا الإذن، وأنا أقول ذلك بصفة كوني مير ياخور الملك .»
3
فقال الفارس: «وأنا أجيبك بصفة كوني فارسا اسكتلنديا أني لم أبايع ملك الإنكليز الملك علي ولا أقسمت له يمين الطاعة. نعم، إنني في الوقت الحاضر إذا بوق بوق الحرب أكون أول من ركب وآخر من نزل، ولكن في غير ساعة الحرب لا سلطة لملككم علي.»
فقال البارون: «ومع هذا لا يليق بك أن تخالف أمر الملك، فاسمح لي أن أرسل لك حماية لهذا البطل.» قال ذلك مشيرا إلى الكلب.
فقال الفارس: «هو يعرف حماي ولا يخرج منه، وفي حماي أنا أحميه بنفسي.» وكأنه ندم على هذا الكلام فاستتلاه قائلا: «لا يحسن بي أن أجيبك بمثل هذا الجواب، فقد يرى أحد رجالكم رزول (وهو اسم الكلب)، ويسيء إليه فيتصل الأمر بنا إلى ما لا نحب. ولا أخفي عليك أن رزول معتمدنا في هذه البلاد، وما كان الملك ليحرمنا مما لا نذوق طعم اللحم بدونه.»
فقال البارون: «أحسنت، فإنه أكرم من أن يفعل ذلك، والآن لا بد لي من الانصراف وسأرجع نحو المساء.» ثم ودعه وخرج.
الفصل الثامن
لما سمع الملك ما قصه عليه البارون قال له: «إن في الأمر عجبا، أمتأكد أنت أن هذا الاسكتلندي حر صادق؟» فأجاب البارون: «لا يخفى على مولاي أن بلادي تجاور بلاد الاسكتلنديين، وقد خبرت هؤلاء الناس وعرفت مكرهم، ولكن يظهر لي أن هذا الرجل صادق، ولو كان شيطانا.»
فقال الملك: «وهل هو فارس مشهود له؟» فقال البارون: «أنت أخبر مني بذلك.»
فقال الملك: «نعم، نحن رأيناه يثبت ثبوت الأبطال؛ لأننا نقف في مقدمة جيوشنا لا لنفتخر بشجاعتنا كما يزعم البعض، بل لنرى كيف يحارب رجالنا ونشجعهم على الثبات، وقد رأينا هذا الفارس وسرنا بأسه وإقدامه، ولكننا لم نغفل عن كبريائه واعتداده بنفسه.»
فقال البارون: «وأنا أرجو منك العفو؛ لأنني جاريته اليوم على كبريائه.» فعبس الملك وقال له: «وكيف ذلك؟»
فقال البارون: «يحق لي بمقتضى وظيفتي أن أسمح لمن كان شريف النسب أن يقتني كلبا أو كلبين من كلاب الصيد، وعند هذا الرجل كلب لا يجوز التفريط فيه، ولم أر أحسن منه خلقا، فإنه كبير الجسم أسود اللون مجدول العضل يسبق الظبي ويصرع الثور.»
فضحك الملك وقال له: «الظاهر أنك سمحت له باقتنائه، فحسنا فعلت، ولكن لا تطلق يدك في السماح لغيره؛ لأن هؤلاء الأمراء كثار فلا يبقون لنا صيدا. أما من جهة الحكيم فهل صادفه هذا الاسكتسي في القفر؟» فقال البارون: «كلا، بل إن الاسكتسي كان مرسلا إلى ناسك عين جدي.»
فرفع الملك رأسه وقال: «من تجاسر أن يرسله إلى عين جدي، والملكة قد ذهبت إلى الدير الذي هناك؟!»
فقال البارون: «مجمع الملوك أرسله وهو لم يشأ أن يخبرني عن الغرض من ذهابه، أما ذهاب الملكة فالأرجح أن الملوك لا يعرفون شيئا عنه.»
فقال الملك: «وأين التقى بهذا الحكيم؟»
فقال: «أخبرني أنه التقى بأمير عربي في الطريق فتبارزا، ثم تصالحا وذهبا معا إلى عين جدي، وهنالك علم الأمير بمرض الملك، فمضى إلى صلاح الدين وأخبره بالأمر، فبعث بهذا الحكيم وشيعه بموكب عظيم كأنه من الأمراء الكبار، وبعث معه رسالة ودية وقد ترجمها لنا الترجمان وها هي.»
فأخذها الملك وقرأها فإذا هو يقول فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من صلاح الدين ملك الملوك سلطان مصر والشام وعماد الدنيا والدين إلى الملك ريكار ملك الإنكتار. أما بعد، فقد بلغنا أن الله تعالى ابتلاك بمرض شديد، وأن الأطباء الذين عندك من النصارى واليهود عجزوا من شفائك؛ لأنهم لا يعتمدون على الله سبحانه وتعالى، ولذلك بعثنا إليك بطبيبنا الخاص. فنلتمس منك أن تكرم مثواه وتعتمد على علاجه لكي تنال الشفاء، فنستطيع أن ننهي هذه الحرب، إما بالصلح وإما بالاحتكام إلى السيف، وهو أعدل حاكم بيننا، فإني أضن ببطل كريم مثلك أن يموت حتف أنفه، وأسيافنا ظمآنة إلى دماء الأبطال، والسلام على من اتبع الهدى.
فلما أتم قراءة الرسالة قال: «علي بهذا الحكيم لعلي أشفى، فأقابل صلاح الدين في ميدان النزال وأنصفه بسيفي ورمحي.»
فقال البارون: «اذكر يا مولاي أن صلاح الدين عدو لنا.»
فقال الملك: «نعم، ولهذا السبب لا يريد أن أموت بالحمى، بل أن أقوم وأقابله في ميدان النزال، وأؤكد لك أنه يحبني كما أحبه وكما يحب الأبطال بعضهم بعضا، فعار علي أن أرتاب في إخلاص نيته.»
فقال البارون: «مهما يكن من الأمر، فلا يحسن أن تسلم نفسك لهذا الحكيم قبل أن نرى فعل علاجه بالخادم الاسكتسي.»
فقال الملك: «ما أكثر ظنونك! اذهب وانظر فعل العلاج بالرجل، وأما أنا فقد سئمت الحياة فهي والموت عندي سيان.»
فخرج البارون وفي نيته أن يطلع أحد رؤساء الدين على ما في نفسه؛ لأنه كان مرتابا من أمر هذا الطبيب، فمضى إلى رئيس أساقفة صور، وكان في المعسكر، وقص عليه الخبر فطيب هذا قلبه وأقنعه بجواز الاعتماد على الأطباء مهما كان مذهبهم. ثم قال: «أما هذا الطبيب ففي أمره ريب؛ لأن أهالي هذه البلاد ماهرون في دس السموم، فيدسها بعضهم لبعض في الطعام والشراب واللباس، بل في الرسائل التي يتراسلون بها، فلا يليق بنا أن نأتمنه على الملك قبلما نرى فعل دوائه بالخادم الاسكتسي، فقم بنا إلى خيمته، ولكن لا بد من استعمال شيء يقينا من العدوى، وأنا أشير عليك أن تستعمل حصى اللبنى منقوعة بالخل.» فقال البارون: «أشكر فضلك إلا أن الحمى لا تفعل بي، وإلا لسرت العدوى إلي من الملك.»
ثم سارا سوية، فلما بلغا خيمة الفارس الاسكتسي قال الأسقف: «هو ذا فارس شريف معدود من الأبطال، يأتمنه الملوك في أمور ذات بال، وهو يضع خادمه في مكان لا تبيت الكلاب فيه.» فقال البارون: «من ساواك بنفسه ما ظلمك؛ فإن هذه الخيمة يبيت فيها الفارس نفسه.»
وكان الأسقف شيخا جليلا أبيض الشعر جميل المنظر طويل القامة واللحية، لابسا جبة من الحرير قد لبست أهدابها بالفرو الثمين، وبجانبه خادمان: واحد رافع فوق رأسه مظلة من سعف النخل، والآخر يروح له بمروحة من ريش الطاووس. فدخل الكوخ وهو على تلك الحالة فوجد الطبيب جالسا بجانب المريض حيث تركه البارون ده فو، فلم يحفل الطبيب بدخوله ولم يقم له، فاغتاظ من ذلك ولكنه كظم الغيظ وطارحه السلام باللغة العربية المتفرنجة، فرد له السلام ولم يزد. فقال الأسقف: «إذا كنت أنت الطبيب فلي مسائل أطرحها عليك لأنني أنا طبيب أيضا.» فأجابه: «لو كان لك أدنى إلمام بالطب لعلمت أن الأطباء لا يتباحثون في غرف المرضى.» وحينئذ هر الكلب من داخل الكوخ، فقال الطبيب: «اسمع، حتى الكلاب تعلم بالغريزة أنه لا يجوز رفع الصوت بجانب المرضى، فإن كان لك شيء تسألني عنه فهلم بنا إلى خارج الخيمة.» قال ذلك ونهض وخرج أمامه، فتبعه الأسقف وتفرس في وجهه طويلا، ثم سأله عن عمره. فقال: «سنو الجاهل تعد بأسرة جبهته، وسنو العالم بغزارة علمه، فأنا لم يكر علي أكثر من مائة عام.» ولما قال ذلك نظر البارون ده فو إلى وجه الأسقف مبهوتا، وأنغض الأسقف رأسه كأنه لم يفهم معنى الطبيب. ثم قال له: «أين الشهادة التي تشهد أنك طبيب؟» فقال: «حسبك أن صلاح الدين الذي لا يرتاب صديق ولا عدو في صدق مقاله قد شهد أني طبيب، فماذا تطلب فوق ذلك؟» فقال البارون: «نطلب أن نرى شيئا بأعيننا، وإلا فلا أدعك تدنو من سرير الملك.»
فقال الطبيب: «لا يليق بالإنسان أن يشهد لنفسه، ولكن هذا المريض قد أذابت الحمى لحمه وجففت ماء الحياة من عروقه، فلم يبق بينه وبين الموت إلا خطوة، وسترون كيف أنه يقوم معافى بعد قليل. فهذه هي الشهادة التي تطلبان، وبذا يقضى الأمر الذي فيه تستفتيان.» ثم أخرج إسفنجة من إناء فضي ووضعها على أنف المريض فعطس، واستيقظ وجلس في فراشه هيكلا من عظام. فقال له البارون: «أتعرف من نحن؟» فأجاب: «كلا يا مولاي، ولكن يظهر لي أنك أنت أمير من أمراء الإنكليز، وهذا من الأساقفة العظام.» وحينئذ قال الطبيب: «إن هذا أعدل شاهدي وقد صار نبضه منتظما مثل نبضكم.» وقرب يده إلى الأسقف ليجسها، فابتعد الأسقف عنها، وأما البارون فجسها وقال: «إن الرجل قد شفي من الحمى! فهلم أيها الطبيب إلى خيمة الملك.» ثم التفت إلى الأسقف وقال: «ما قول سيادتكم ؟» فقال الطبيب: «أمهلوني ريثما أجرع هذا الرجل الجرعة الأخيرة من الدواء.» ثم أخرج كأسا من الفضة وصب فيها قليلا من الماء ووضع في الماء شيئا موضوعا في خرقة أبقاه فيه خمس دقائق، ثم أخرجه وسقى الماء للمريض وقال له: «نم الآن وقم معافى بإذن الله تعالى.»
فقال الأسقف: «أتشفي الملك بهذا العلاج البسيط؟» فقال الحكيم: «نعم، إن لم يكن ملوككم من طينة غير طينة بقية الناس.» فقال البارون: «قم بنا سريعا إلى خيمة الملك فإن شفيته فبه، وإلا أصابك من يدي مرض لا يقبل الشفاء.» وقبل أن يخرجا رفع المريض رأسه، وقال: «بالله عليكما أخبراني أين سيدي.»
فقال الأسقف: «إن سيدك قد أرسل بمهمة ولا يرجع قبل بضعة أيام.»
فقال البارون: «لماذا تخدع الرجل؟ يا صاح، إن سيدك قد رجع وستراه عن قريب.»
فألقى المريض رأسه على الوسادة ونام، وفيما هم خارجون، قال الأسقف للبارون: «أحسنت؛ فإن تطمين المريض لازم لشفائه.» فقال له البارون: «ما تعني يا مولاي؟ أتظن أنني أتكلم بالكذب ولو أحييت بكلامي عشرة مثل هذا الرجل؟!»
فقال الأسقف: «ألم تقل إن سيده؛ أي الفارس صاحب النمر الرابض، رجع من سفره؟»
فقال: «نعم، قلت ذلك، وقد رأيت هذا الفارس منذ بضع ساعات، وتكلمت معه، وهذا الطبيب أتى بصحبته.» فقال الأسقف: «ولماذا لم تخبرني قبل الآن برجوعه؟»
فقال البارون: «ألم أقل لك إن الطبيب جاء مع هذا الفارس؟! ولكن ما دخل رجوع الفارس بحذاقة الطبيب وشفاء الملك؟»
فرفس الأسقف الأرض برجله وقال: «له دخل كبير.» ثم قال: «ولكن أين ذهب، فلا بد من أن خطأ قد حدث؟»
فقال البارون: «هو ذا خادم آخر، فلنسأله عن سيده.» فنادياه ولما وقف بين أيديهما سألاه عن سيده، فقال: «إن قائدا من القواد دعاه ليمضي إلى الملك قبل مجيئكما.» وحينئذ بلغت حيرة الأسقف أشدها فاستأذن من البارون بالانصراف، فتبعه البارون بنظره مستغربا أمره إلى أن غاب عنه، ثم سار هو والطبيب نحو خيمة الملك.
الفصل التاسع
لكل داء دواء يستطب به
والطب واسطة والبرء لله
فيما كان البارون سائرا نحو خيمة الملك تردد في باله ما رآه من انزعاج الأسقف، فلم ير لذلك سببا، ثم كثرت عليه الظنون، فقال: «لعل الأسقف والأمراء والملوك متواطئون على مولاي وفي نيتهم أن يوقعوا به، وقد استخدموا هذا الحكيم لهذه الغاية.» فعزم أن يكاشف الملك بما جال في خاطره، وكان يعتقد أنه أحكم الناس كما أنه أبسلهم.
وحدث أن الملك ريكارد اشتدت عليه الحمى بعد خروج البارون من خيمته، فاضطربت أفكاره وفرغ صبره، فأرسل واستدعى السر وليم ليسأله عن سبب ذهابه من المعسكر وعن كيفية التقائه بالطبيب. فأتى السر وليم ودخل خيمة الملك كأنه أحد أتباعه وسجد له ووقف بين يديه، فتفرس فيه وقال له: «أأنت وليم صاحب النمر الرابض؟ ممن أخذت رتبة الفروسية؟» فأجاب: «من سيف وليم الأسد ملك اسكتلندا.» فقال الملك: «أنعم به سيفا لمنح الشرف، وأنت أهل لذلك؛ فإننا قد رأيناك تثبت في مواقف القتال وتحمل على الأعداء بعزيمة صادقة، ولكن مطامعك كبيرة فلا جزاء لك عندنا أعظم من العفو عنك.»
فحاول السر وليم أن يتكلم ولكنه حصر عن الكلام؛ لأنه لم يقدر أن يخفي ما به من لوعة وغرام. فقال الملك: «إنا وإن كنا ننتظر الطاعة التامة من كل الذين يحاربون تحت لوائنا، إلا أننا نتغاضى عن بعض الذنوب مثل اقتناء فرساننا لكلاب الصيد، ولو كان ذلك مخالفا لأمرنا.» قال ذلك مسرورا؛ إذ وجد بابا لتحويل التهمة التي اتهم بها هذا الفارس إلى اقتنائه لكلب الصيد.
فقال السر وليم: «العفو يا مولاي، فإننا - نحن معاشر الاسكتلنديين - ليس عندنا من المال والميرة ما عند أمرائك الأغنياء، والعدو لا يرى منا شدة في الحرب إذا اقتصرنا على أكل البقول، فلا بد لنا من لحم الصيد لتبقى قوتنا فينا إذا أذن مولانا.»
فقال الملك: «لا داعي لطلب الإذن مني فقد أذن لك ده فو بالصيد والقنص.» فقال السر وليم: «إنه أذن لي بالصيد فقط يا مولاي، ولكن إذا كنت تأذن لي بالقنص أيضا وتسمح لي بباز من بزاة الملك، قدمت لمائدتك أطيب طيور الماء لحما.»
فقال الملك: «لو كان عندك البازي ما انتظرت الإذن، ولكن ما لنا ولهذا؟ هات أخبرني بأمر من ذهبت إلى غور الأردن وعين جدي؟» فقال: «بأمر مجمع الأمراء.»
فقال الملك: «وكيف تجاسروا أن يرسلوك وهم لم يطلعوني على ذلك؟»
فقال: «إن معرفة ذلك لا تتعلق بي، فإنني كأحد أفراد الجند وأراني مضطرا في هذا الجهاد أن أطيع رؤساءه أيا كانوا، وإلا اقتدى بي عامة الجند وفسد نظامنا وساءت حالنا.»
فقال الملك: «أحسنت، واللوم ليس عليك بل على الذين أرسلوك، وسأطالبهم بما فعلوا حينما يمن علي الله بالشفاء. أما أنت فماذا كان الغرض من ذهابك؟»
فقال: «يا حبذا لو طرح مولاي هذا السؤال على الذين أرسلوني؛ فإنهم يخبرونه بالغرض وبالأسباب الداعية إليه.»
فرفع الملك رأسه، وقال له: «اصدقني الخبر، وإلا فلا تأمن على حياتك.»
فقال: «لم أنتظم يا مولاي بين أهل الجهاد وأنا أطلب أن تؤمن حياتي، فإني قد صرفت نظري عن هذه الحياة الفانية ونظرت إلى الباقية.»
فتفرس فيه الملك وقال له: «لقد أصبت فيما قلت، فاسمع أيها الفارس الكريم، أنا أحب الاسكتلنديين؛ لأنهم أبطال ولو كانوا أهل عناد، وأنتظر منهم أن يحبوني أيضا؛ لأنني خولتهم من الحقوق ما لم يخولهم أسلافي.»
فسجد الفارس له وقال: «نعم، نحن لا ننكر أفضالك علينا ولولا ذلك ما أتينا لنحارب تحت لوائك، بل كنا الآن نعيث في حدود مملكتك. وإن كنت ترى عددنا في معسكرك قليلا فذلك لأننا قد جدنا بأنفسنا ولم نبخل بها.»
فقال الملك: «لا أنكر عليك شيئا من ذلك، وبما أنك تحت لوائي الآن، وبما أنني من رؤساء هذا الجهاد فلي الحق بمعرفة كل ما يدور بين حلفائي من المذكرات المتعلقة به؛ فلذلك أطلب منك أن تخبرني كل ما لي الحق في الاطلاع عليه.»
فقال الفارس: «إنك حتمت علي هذا الحتم يا مولاي، فأنا لا أخفي عنك شيئا مما اؤتمنت عليه، لا سيما وإني عالم أنك مقدام هذا الجهاد، وأكثر الناس إخلاصا فيه. فالغرض الذي ذهبت به إلى ناسك عين جدي هو عقد صلح دائم وانسحاب جنودنا من هذه البلاد.» فأقسم الملك بالله وقال: «خطر على بالي خواطر كثيرة ولكن لم يخطر عليه هذا الخاطر الذي يعود علينا بالعار والشنار. فقل لي هل ذهبت برضاك؟»
فقال: «ذهبت برضاي يا مولاي؛ لأننا إذا حرمنا قائد جيوشنا - لا سمح الله - فليس لنا من يخلفه، والصلح خير من الهزيمة.»
فقال الملك: «وما هي شروط الصلح؟» قال ذلك وفؤاده يكاد ينصدع من شدة الغيظ. قال: «لم أطلع عليها لأنني سلمتها مختومة، وأمرت أن أسلمها للناسك مختومة.»
فقال الملك: «وما ظنك بهذا الناسك؟ أأحمق هو أم مجنون أم خائن أم قديس؟»
فقال: «أظنه يدعي الجنون ليتخلص من كيد أعدائه.»
فألقى الملك رأسه على وسادته، وقال له: «وما قولك في سياسته؟»
فقال: «يظهر لي أنه قانط من استخلاص الأرض المقدسة إلا بأعجوبة من السماء ما دام الملك ريكارد غير قادر على الحرب.» فقال الملك: «فإذن هو يذهب مذهب هؤلاء الجبناء الذين أرسلوك إليه ناسين عهدهم ودائسين شرفهم.»
فقال: «أرى هذا الحديث يا مولاي يزيد مرضك الذي تخاف منه ممالك النصارى أكثر مما تخاف من جنود العدو.»
وكان الغيظ قد أخذ من الملك ريكارد كل مأخذ، فاحمرت وجنتاه وتقطب حاجباه وطار الشرر من عينه، فقال للفارس: «دعنا من التمليق، وهات أخبرني هل رأيت الملكة في عين جدي؟»
فاضطرب الفارس وقال: «لم أكن عارفا بوجودها هنالك يا مولاي.»
فقال الملك مشددا صوته: «ألم تدخل كنيسة الراهبات الكرمليات في عين جدي؟ أولم تر فيها الملكة ومن معها؟»
فقال: «أخذني الناسك إلى كنيسة صغيرة رأيت فيها جمهورا من المرتلات، ولكنني لم أر وجوههن ولم أسمع أصواتهن إلا في الترتيل، وكن يرتلن معا فلم أفرق بين أصواتهن، ولا يمكنني أن أقول إن الملكة كان هناك بينهن.»
فقال الملك: «ألم تعرف أحدا منهن؟»
فتلعثم لسان الفارس عن الجواب.
فرفع الملك رأسه واتكأ على ذراعه، وقال: «أسألك بشرفك وبرتبة الفروسية التي معك أن تقول لي ألم تعرف أحدا ممن كان هناك؟»
فاحتار الفارس في أمره وتوقف مدة عن الجواب، ثم قال: «عرفت بالحزر يا مولاي.» فعبس الملك ونظر إليه طويلا كأنه يقول له:
هي الشمس مسكنها في السماء
فعز الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها صعودا
ولن تستطيع إليك نزولا
ثم قال: «احذر عرين الأسد ولا تلق بنفسك في التهلكة، ولا تتطاول إلى ما لا تطوله.» ولما قال ذلك سمع ضجة خارج الخيمة، فغير صوته وقال: «امض وقل لده فو أن يسرع إلي بالحكيم. أواه لو كان صلاح الدين ينبذ معتقده فأساعده بسيفي على طرد هؤلاء الفرنسويين والنمسويين من بلاده، وأرجع إلى بلادي مطمئن الخاطر؛ لأنه يحكم هذه البلاد بالعدل والإنصاف!»
ولما انصرف السر وليم دخل أحد الخدم وقال: «إن بباب الملك رسولين من قبل مجمع الأمراء.» فقال الملك: «ألم يعدونا بين الأموات حتى الآن؟!» ثم قال: «من هذان الرسولان؟» فقيل له: «رئيس الهيكليين ومركيز منسرات.» فقال: «إن أخانا ملك فرنسا لا يحب المرضى، أما أنا فلو كان هو مريضا ما تأخرت عن عيادته حتى الآن.» ثم نادى واحدا من خدمه وقال له: «امشط شعري وأعطني قليلا من الماء البارد.» فقال الخادم: «يا مولاي، إن الأطباء منعوا الماء البارد عنك.» فقال: «قاتل الله الأطباء، لم يقدروا أن يشفوني، فهل أدعهم يعذبونني؟» ثم غسل وجهه، وقال: «قل للرسولين أن يدخلا.»
وكان رئيس الهيكليين طويل القامة نحيف الجسم أسمر اللون، لابسا ثوبا أبيض. وكانت الآراء متباينة فيه وفي طغمة الهيكليين كلها. وكان البعض يرشقونهم بسهام اللوم ويقولون إنهم تواطئوا سرا مع صلاح الدين على إبقاء البلاد في يده، وإنهم ذئاب في أثواب الحملان. أما مركيز منسرات فكان كهلا شجاعا جميل المنظر سديد الرأي أنيس المحضر، وكان هو أيضا متهما بالطمع والأثرة والخيانة توسيعا لسلطته في بلاد الشام. فدخلا على الملك وسلما، ثم شرع المركيز يخبره أن مجمع الأمراء أرسلهما ليسألا عن صحته. فقال الملك: «نحن نعلم أن الأمراء مهتمون بسلامتنا، ونعلم أيضا أنهم لم يتركوا السؤال عنا هذه الأربعة عشر يوما مع ما في ذلك من الشدة عليهم إلا لكي لا تتشوش أفكارنا فنحسب أن المرض أشد مما هو.» فصمت المركيز ووقع في حيرة من هذا الجواب، فتقدم رئيس الهيكليين وجعل يخبره أن مجمع الأمراء يلتمس منه أن لا يخاطر بنفسه ولا يشرب الدواء الذي يعطيه إياه الطبيب العربي إلا بعد أن يفحص المجمع هذا الدواء ويتأكد أنه نافع غير ضار.
فقال الملك: «أيها الرئيس الأعظم رئيس طغمة الهيكليين المقدسة، وأنت أيها المركيز المعظم، تكرما بالخروج إلى الخيمة الخارجية لكي نتبصر في مشورتكما ومشورة مجمع الأمراء.» فخرجا وبعد قليل أقبل الحكيم ومعه البارون والسر وليم، ثم تأخر البارون عنهما قليلا ليكلم بعض الحراس، فدخل الطبيب وسلم على الرئيس والمركيز فردا له السلام، وقال له الرئيس: «أتجسر أن تطبب ملكا من ملوك النصارى؟» فقال: «إن الله يشرق شمسه على الأخيار والأشرار، وأنا من عبيد الله فلا يحسن بي أن أميز في النفع بينهما.»
فقال الرئيس: «أتعلم أنه إذا مات الملك بعلاجك مزقنا جسدك تمزيقا.»
فقال الحكيم: «لكل أمة أجل مسمى، فإن جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون، وما أنا إلا آلة في يد الله تعالى، فلا أستطيع أن أغير القدر المحتوم.»
فقال المركيز: «أيها الرئيس المحترم، إن هذا الحكيم لم يعلم ما أجمع عليه أمرنا، فاعلم أيها الحكيم الذي لا نرتاب في مهارته أن مجمع أمرائنا يدعوك لتبين له أمام جمهور من نخبة الأطباء ما هو الدواء الذي تعتمد عليه لشفاء هذا الملك العظيم الشأن، وهذا أسلم لك في الإقدام على هذا الأمر الخطير.»
فأجاب الحكيم: «قد فهمت مرادكما، ولكن صناعة الطب لها رؤساء كالسياسة وشهداء كالديانة، وأنا أرسلت بأمر سلطان السلاطين؛ لكي أداوي هذا الملك وأشفيه بإذن الله تعالى، فإذا عجزت عن شفائه فسيوفكم ظمآنة لدماء المؤمنين، ولكنني لا أتناظر مع أطبائكم ولا أطلعهم على الأدوية السرية التي أستعملها، فلا تؤخراني عن معالجة المريض.» ثم دخل البارون وقال: «من يريد أن يؤخرك؟! كفانا تهاملا وتأخرا.» ثم حيى الرئيس والمركيز وهم بالدخول إلى خيمة الملك، فقال له المركيز بالفرنسوية: «ألم يبلغك أننا أتينا من قبل مجمع الأمراء؛ لكي نبين للملك الخطر الشديد في اعتماده على طبيب مرسل من العدو؟»
فقال البارون: «أيها المركيز المحترم، لا أقدر أن أطيل الكلام، ولا أحب أن أسمع الكلام الطويل، وإني أركن إلى ما رأته عيني أكثر مما أركن إلى ما تسمعه أذني.»
فقال المركيز: «إن الملك نفسه أباح لنا الحضور حينما يأتي الطبيب.»
فتكلم البارون مع الحارس كأنه يستخبره عن صدق كلام المركيز، ثم قال للمركيز وللرئيس: «يا سيدي، اصبرا قليلا، فلا أعارضكما في الدخول، ولكن ليكن معلوما عندكما أنكما إذا اعترضتما الحكيم اضطررت أن أخرجكما من خيمة الملك كرها؛ لأنني واثق بمهارة هذا الحكيم وفائدة دوائه، حتى لو رفض الملك نفسه أن يشربه لأجبرته على شربه.» ثم التفت إلى الحكيم وقال له: «ادخل بنا أيها الحكيم.»
فعبس الرئيس والتفت إلى المركيز، فرآه كأنه غير مبال فهدأ روعه، ثم دخلا كلاهما وراء البارون والحكيم، ودخل السر وليم وراءهما ووقف بعيدا. ولما صاروا بين يدي الملك حياهم وقال: «إما أن أرد إليكم عن قليل أو تردوني إلى التراب الذي أخذت منه.» ثم التفت إلى البارون وقال له: «وأنت أيها البارون قد خدمت مولاك خدمة صادقة، فلك الشكر منه في الحياة والممات.» ثم التفت إلى آخر الخيمة وقال: «قد بقي واحد آخر وهو صاحبنا الاسكتلندي الذي يريد أن يصعد إلى السماء بدون سلم، أهلا به ومرحبا. هلم أيها الحكيم وأرنا مهارتك.»
فتقدم الحكيم وجس نبضه وتأمله طويلا، ثم صب ماء في قدح وغطس في الماء الخرقة التي غطسها حينما داوى خادم السر وليم، وهم بسقي الماء للملك، فقال الملك: «قد جسست نبضي فأعطني يدك لأجس نبضك؛ لأنني أنا أيضا لي مشاركة في هذه الصناعة.» فمد الحكيم يده فقبض الملك عليها، ثم قال: «لا اضطراب ولا انزعاج وما هذا شأن من يسم الملوك.» ثم التفت إلى البارون وقال له: «إن عشت أو مت فاصرف هذا الطبيب مكرما مبجلا.» وقال للطبيب: «وأنت يا صاح، احمل تحيتنا إلى السلطان صلاح الدين. وأنا إن مت فهو بريء من دمي، وإن عشت كافأته مكافأة الأبطال.» ثم رفع رأسه وتناول الكأس وقال: «إني أشرب هذه الكأس على شرف أول فارس يدق رمحه في باب أورشليم، وخزي أول فارس يرتد عن هذا الجهاد.» ثم كرعها كلها وألقى رأسه على وسادته ونام. وحينئذ أشار الحكيم إلى الحضور أن يخرجوا من الخيمة ولا يبقى فيها معه إلا البارون ده فو.
الفصل العاشر
ستنكشف الأسرار من طي رمسها
وتبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
وقف مركيز منسرات ورئيس الهيكليين في باب خيمة الملك، فرأيا حولها حلقة من الحرس بالحراب والقسي، محيطة بها إحاطة الهالة بالقمر لكي لا يدنو منها أحد، والملك نائم وهم صامتون منكسون رءوسهم كأنهم في جنازة. فقال الرئيس لرفيقه: «قد انقلب فرح هؤلاء الكلاب إلى نوح، وجلبتهم إلى سكينة، والدهر في الناس قلب!»
فأجابه المركيز: «أصبت، والكلاب يضرب المثل بأمانتها لأسيادها، ولا سيما إذا كان أسيادها يجارونها في هرجها ومرجها كهذا الملك.»
فقال الرئيس: «صدقت، وهذا هو شأنه دائما.»
فقال المركيز: «لو كان صلاح الدين كغيره من ملوك المشرق لأراحنا منه بهذه الكأس، ولكنه أمين صادق منزه عن الغدر، وقد بلغني أنه طلب من ريكارد أن يقلده رتبة الفرسان.»
فقال الرئيس: «معاذ الله! لن نشرك أحدا من أعدائنا في هذا الفخر.»
وكانا قد بلغا فرسيهما وخدمهما فارتأيا أن يذهبا ماشيين يستنشقان بنسيم العشاء، فصرفا الخدم والفرسين ورجعا يتهاديان في مشيهما في طريق غير مطروق، ويتكلمان عن الحصار ولكن لم يطيلا الكلام فيه؛ لأنهما لم يجدا ما يسرهما، ثم التفت المركيز إلى الرئيس وقال له: «علام لا تطرح عنك هذا البرقع الأسود، وتتكلم مع صديقك علانية؟» فتبسم الرئيس وقال: «إن البرقع الأبيض يغطي الوجه كما يغطيه البرقع الأسود.» فجر المركيز يده على وجهه وقال: «قد نزعت البرقع، فهات أخبرني بما تراه من أمر هذا الجهاد، وما ينالنا منه من النفع والضر .»
فقال الرئيس: «إن هذا يزيل البرقع عن وجهي لا عن وجهك، ولكني أجيبك بمثل مثله لي أحد الفهماء، وهو أن فلاحا أصابه قيظ فطلب من الله أن يمطر أرضه، ولج في الطلب كثيرا، وتضجر من عدم إجابة طلبه، فأراد الله معاقبته على ضجره فأرسل عليه سيلا جارفا غرقه مع أرضه.»
فقال المركيز: «أصبت، وليت البحر غرق تسعة أعشار هذه الجيوش، فكان العشر الباقي يكفي لغرضنا. بل لو تركنا ملوك أوروبا وشأننا لاصطلحنا مع صلاح الدين وعشنا معه بالراحة والأمن، أما الآن وقد اشتدت وطأتنا على بلاده فلا يمكنه أن يسمح لنا بالإقامة فيها.»
فقال الرئيس: «ولكن قد ينجح هؤلاء الملوك ويستردون البلاد.»
فقال المركيز: «وإن فعلوا فما الفائدة لي ولك؟»
فقال الرئيس: «ما المانع من صيرورتك ملكا على أورشليم؟»
فأجاب المركيز: «تحدثني النفس بذلك ولكن دونه خرط القتاد، ولا أخفي عليك أيها الرئيس الأعظم أنني أفضل إمارتي الصغيرة وأنا مستقل فيها كملوك المشرق على مملكة كبيرة لي فيها شركاء من الأمراء والفرسان، ثم إذا قام ريكارد من هذا المرض فلا بد من أن يسعى في تنصيب غاي لوزنيان على مملكة القدس.»
فقال الرئيس: «قد فهمت مرادك وعلمت أنك مخلص فيما قلت، فإنك تفضل أن تكون أميرا مستقلا في عمل من البلاد على أن تكون ملكا عليها كلها ويشاركك في ملكك كثيرون.»
قال: «نعم، ولكن أبق هذا الأمر سرا، فإني لم أبح به إلى غيرك.»
فقال الرئيس: «لا تخف، فإني أقسم لك بالهيكل الذي عاهدنا أنفسنا على حمايته أني أكتم سرك ولا أبوح به.»
قال: «أبهيكل أورشليم أم بالهيكل الرمزي الذي تشيرون إليه في اجتماعاتكم السرية؟»
فقال الرئيس: «بأي هيكل شئت فقد أقسمت لك، فبم تقسم لي أنت؟»
قال: «إني أقسم بالتاج الذي آمل لبسه، ومهما يكن من الأمر فمصلحتنا واحدة، وأما إذا استولى هؤلاء الملوك على أورشليم فإنهم يردون فرقة الهيكليين إلى أعمالها القديمة، وهي تمريض المرضى ومداواة الجرحى، وينزعون من يدي البلاد التي أنا مستول عليها.»
فقال الرئيس: «الأرجح ما تقول، ولكن أيليق بنا أن نترجى رجوع هؤلاء الملوك مدحورين، وترك البلاد في حوزة صلاح الدين؟»
قال المركيز: «نعم، وصلاح الدين لا يستغني عنا، فإذا أعطيناه يمين الطاعة وانضممنا إلى جنده وقت الحاجة قهر بنا كل أعدائه، وطاعتنا له لا يدوم أمرها؛ فإن الممالك أسرع زوالا في بلاد المشرق من الظل الزائل، فغدا يموت فنستقل نحن ونوسع نطاق ولاياتنا، ويأتينا المدد من أوروبا فنستولي على البلاد كلها ونستأثر بالملك فيها.»
فقال الرئيس: «هذا هو الصواب، ولكن يجب أن نكون على حذر؛ لأن فيليب ملك فرنسا من أحكم الملوك.»
قال المركيز: «ولهذا السبب أراه ينتهز الفرصة للرجوع إلى بلاده من هذا الجهاد الذي اقتيد إليه عن غير إرادته، لا سيما وأنه يغار من ملك الإنكليز ويود أن يعود إلى بلاده فينتقم منه هنالك.»
فقال الرئيس: «وما قولك في دوق النمسا؟»
قال: «إنه أشد غيرة من ملك فرنسا. أما ملك فرنسا فحكيم مدبر، وأما هذا فجاهل غرير. وجملة القول: إننا نود خروجهم من هذه البلاد وهم أيضا ميالون إلى ذلك كما ظهر لي من مجلسهم الأخير.»
فقال الرئيس: «إن ذلك كان ظاهرا كالشمس في رائعة النهار، ولكن قل لي لماذا اجتهدت أن ترسل الرسالة إلى صلاح الدين مع ذلك الفارس الاسكتلندي؟»
قال: «لغرضين؛ الأول أنه يسهل عليه مقابلة صلاح الدين لأنه من جنود ريكارد، والثاني أنه لا يخشى من دخوله على ريكارد بعد رجوعه وإخباره بشيء مما جرى لأن ريكارد يكرهه.»
فقال الرئيس: «ولكن قد حبطت مساعيك؛ لأن الفارس عاد ومعه هذا الطبيب الذي لا بد من أن يشفي ريكارد سريعا، وإذا شفي فلا بد من أن يقود الجيش على القدس.»
قال المركيز: «اصبر تر العجائب، فإنني عازم أن أوسع الخرق بين ريكارد وبين ملك فرنسا ودوق النمسا في الحال، حتى إذا شفي ريكارد لا يرى له أسلم من الرجوع بمن بقي من جنوده إلى بلاده.» ولما قال ذلك أخذه الرئيس بيده، وقال له بصوت خفي: «إن ريكارد لن يقوم من هذا المرض.»
فنفر المركيز منه وقال له: «من تعني؟ أتعني ريكارد قلب الأسد وبطل النصرانية؟!» قال ذلك، وقد امتقع وجهه واصطكت ركبتاه، فنظر إليه الرئيس وقال له: «أأنت مركيز منسرات؟! أأنت مشير الملوك ومدبر الممالك؟! ما عهدتك ترتاع من أمر كهذا.»
فقال المركيز: «أتريد أن تجعلنا مثلا في الدنيا وعارا ولعنة في كل أوروبا؟»
فقال الرئيس: «إن كان هذا هو رأيك فلنقف عند هذا الحد ونتعاهد على عدم الإباحة بشيء مما دار بيننا، ولننسه كأنه لم يكن.»
فقال المركيز: «لا يمكننا أن ننساه.»
فقال الرئيس: «صدقت، فإن الإحلام بالتيجان والممالك لا تنسى.»
فقال المركيز: «إذا كان الأمر كذلك فلنسع أولا في إلقاء الشقاق بين النمسا وإنكلترا.» ثم افترقا فذهب الرئيس في طريقه ولبث المركيز في مكانه يعجب من إقدام الرئيس على ما لا يجسر هو أن يقدم عليه من أن الرئيس يسعى لخير غيره وهو يسعى لخير نفسه.
ولم يكن المركيز من الذين يحبون إيلام غيرهم وإيقاع الضرر بهم، ولم يكن فيه من عيب سوى أنه طماع، وفيما هو يتأمل فيما دار بينه وبين رئيس الهيكليين من الحديث ويقول في نفسه: «الأرجح أن الرئيس مصيب في رأيه ولا بد من التخلص من هذه الجيوش.» سمع الحراس ينادي بعضهم بعضا قائلين: «تذكروا الكتاب الطاهر.» وهذا كان نداؤهم الذي ينادون به بعضهم بعضا في الليل. وكان قد سمع هذا النداء مرارا كثيرة، ولكنه لم يفقه معناه إلا الآن، فشعر كأنه صوت من السماء جاء لتنبيهه ورده إلى سواء السبيل، فنظر حواليه كما نظر إبراهيم الخليل كأنه ينتظر كبشا للمحرقة بدل ملك الإنكليز الذي كان الرئيس عازما أن يضحيه على مذبح مطامعه، فوقع نظره على العلم الإنكليزي، وكان مرفوعا على رابية صناعية في وسط المحلة، فخطر له خاطر سريع أراح أفكاره وهدأ روعه، فمضى إلى خيمته ونام تلك الليلة وهو يقول: «غدا أمضي إلى دوق النمسا فأرى ماذا نصنع لنوال مأربنا قبل أن نعمل برأي رئيس الهيكليين.»
الفصل الحادي عشر
إن ليوبولد دوق النمسا العظيم هو أول أمير تنصب على بلاد النمسا، والذي نصبه عليها إمبراطور جرمانيا لقرابة بينهما، وقد اشتهر هذا الدوق في التاريخ بأنه قبض على ريكارد ملك الإنكليز وهو راجع إلى بلاده متخفيا وسجنه زمانا طويلا ولم يخرجه من سجنه إلا بعد أن فدى نفسه بمال كثير وتوسط أمره الحبر الروماني وملوك أوروبا. وكان طويل القامة قوي البنية جميل المنظر أشقر الشعر، ولم يكن من أهل السياسة والنظر، ولا من أهل الطمع والدسائس، ولكنه كان ضعيف الرأي كثير الغرور، يضيع حقوقه بإهماله ثم يطالب بها حينما تفوت الفرصة ويتعذر عليه نوالها، وكان يشعر من نفسه بذلك ويقول: «إنه غير كفء للمنصب الذي هو فيه.» ولما انضم إلى الصليبيين حاول أن يصادق ريكارد ملك الإنكليز فلما رأى ريكارد أنه أشجع منه وأقدر، استخف بصداقته، ولا سيما لما رآه نهما في الأكل محبا للخمر. فاغتاظ الدوق من ذلك وأبغض ريكارد بغضا شديدا. ويقال إن فيليب ملك فرنسا سعى في إلقاء النفرة بينهما؛ لأنه كان مغتاظا من إقدام ريكارد واعتداده بنفسه.
ثم سعى مركيز منسرات بتوسيع الخرق فمضى إلى محلة الدوق، وأخذ معه خمرا قبرصية مدعيا أنه أتى ليقابلها بالخمر المجرية، فدعاه الدوق إلى الطعام وقام له بحق الضيافة.
وكان الجرمانيون محافظين على بعض عوائدهم القديمة، فيملئون محل المائدة بالندماء والشعراء والأقزام وهم وقوف خلف أسيادهم يضحكون ويمرحون ويشاركونهم في شرب الخمر، حتى كأن المائدة في خان لا في خيمة الملك! وكان الدوق يأكل من صحاف الفضة ويشرب من كئوس الذهب، والذين يقدمون له الطعام من أشراف البلاد، وهم يقدمونه ركعا على ركبهم، وكان متسربلا بحلة ملكية مبطنة بفراء القاقم ولابسا تاجا مرصعا بالجواهر الكريمة، وفي رجليه حذاء من المخمل وتحتهما كرسي من الفضة النقية. فأجلس المركيز عن يمينه إجلالا له، ولكن أكثر كلامه كان مع نديمه ومهرجه. وكان هذان الرجلان واقفين بجانبه يتناوبان الأقوال الحكمية والهزلية والمجونية فيقهقه لها الدوق، ثم يلتفت إلى المركيز ليرى تأثير كلامهما فيه. وكان المركيز يتظاهر باستحسانه كل ما يقولان، ويترصد فرصة للكلام في الموضوع الذي جاء لأجله، فلم يطل الوقت حتى ذكر المهرج اسم الملك ريكارد - وكان من عادته أن يتخذه موضوعا للهزل والتهكم - فقال المركيز: «يجب أن نكرم من يستحق الكرامة، وقد نال ريكارد ما يستحق وزيادة؛ لأن الجميع يتغنون بمدحه، أفلم ينظم أحد منكم شيئا في مدح أميركم المعظم؟ ...» فلم يتم كلامه حتى تقدم ثلاثة من المغنين بأعوادهم ليتغنوا بمدح أميرهم، فسكتهم النديم وجعل ينشد باللغة الجرمانية ما ترجمته:
من للرياسة والسياسة والحجى
من قائد الأقيال في يوم القتال
من فارس الفرسان في يوم الوغى
من قاهر الأبطال في يوم النزال
فاعترضه المهرج، وقال: «بين لنا أنك تريد بذلك أميرنا المبجل.» فقال:
إن تسألوا أستريا ماذا جرى
حتى يرى علمها يعلو العوال
فسائلوا النسر الرفيع المرتقى
علام يعلو للعلا فوق الجبال؟
ثم قال: «إن النسر شعار أميرنا المعظم بل ملكنا المبجل، وهو يعلو على كل الطيور.» فقال المركيز: «ولكن الأسد وثب وثبة فعلا فوق النسر.» فاحمر وجه الدوق والتفت إلى المركيز، فقال النديم: «المعذرة يا مولاي، ما من أسد طار فوق النسر؛ لأن الأسد لا جناح له!» فقال المهرج: «إلا أسد البنادقة.» فقال الدوق: «معاذ الله أن يرتفع أسد تجار البنادقة فوق نسرنا.»
فنظر إليهم المركيز، وقال: «ما عنيت أسد البنادقة، بل آساد إنكلترا الثلاثة؛ فقد قيل إن هذه الآساد كانت نمورا والآن صارت آسادا، وفي نيتها أن تتسلط على كل الوحوش والطيور والأسماك!»
فقال الدوق: «هل تظن أن ملك الإنكليز يدعي السيادة علينا نحن معاشر الملوك والأمراء المحالفين له في هذه الحرب؟»
فقال المركيز: «هذا دليل الحال، أفما ترى علمه مرتفعا في وسط المحلة كأنه الملك المالك على هذا الجمهور كله؟»
فقال له الدوق: «وهل تصبر على ذلك وتتكلم عنه بدم بارد؟» فقال المركيز: «وهل يحسن بي أن أتشكى من أمر خضع له ملك فرنسا ودوق النمسا؟ فالعار الذي تلتحفان به لا ألام إذا جاريتكما عليه.» فضرب الدوق المائدة بيده وقال: «طالما قلت لفيليب (ملك فرنسا) إن هذا يحط شأننا وشأن الأمراء الذين معنا، فكان لا يكترث لكلامي، بل يقول لا يليق بنا أن نلتفت إلى هذه الأمور في مثل هذه الحال.»
فقال المركيز: «إن فيليب ملك حكيم، ولذلك يعد خضوعه لملك الإنكليز من السياسة، أما أنت فلا بد من سبب آخر لخضوعك.» فحملق الدوق وقال له: «ماذا تقول؟! أنا دوق النمسا العظيم، أفأخضع لهذا النرمندي؟! لا وقبة السماء. هلم يا رجالي لنضع نسر النمسا حيث لا يعلو عليه علم من أعلام الملوك والقياصرة.» قال ذلك وقام من ساعته، واختطف علمه من أمام خيمته والجميع يضجون بأصوات الفرح والحبور. فاعترضه المركيز وقال له: «ليس من الحكمة يا مولاي أن تشوش المعسكر في هذه الساعة من النهار، فاصبر قليلا.» فقال الدوق: «ولا دقيقة.» ثم هرول نحو الأكمة التي عليها العلم الإنكليزي وتبعه أهل بلاطه، فلما بلغها وضع يده على الرمح الذي عليه العلم الإنكليزي، وهم أن ينزعه من الأرض فتقدم إليه النديم وقال له: «احذر يا مولاي، فإن للأسد أنيابا.» فقال الدوق: «وللنسر مخالب.» فقال النديم: «النسر ملك الطيور، والأسد ملك السباع، فدع علم الأسد في مكانه، وانصب علم النسر بجانبه.» فالتفت الدوق ليرى المركيز ويستشيره في الأمر فلم يجده بين الجماعة؛ لأن المركيز لم يرافقه، بل سار بين العساكر وجعل يخاطب كل من يراه من أهل المقامات ويتأسف من إقدام الدوق على هذا العمل في ظهيرة النهار. فلما رأى الدوق أن المركيز لم يتبعه رفع يده عن العلم الإنكليزي وقال: «ليس من غرضي أن أنتقم من ملك الإنكليز، بل أن أبين حقي وأرفع علمي إلى المقام الذي يستحقه.» ثم أمر أن يؤتى بزق خمر وفتحه وسقى الحضور فطربوا وجلبوا حتى ملأت ضوضاؤهم المحلة.
وفي تلك الساعة استيقظ الملك ريكارد فوجد الطبيب أن الحمى زالت تماما، وأنه لا يحتاج إلى جرعة أخرى من الدواء، فجلس في فراشه وقال للبارون: «قدم لهذا الحكيم كل ما في الخزانة من النقود، وإن كانت لا تبلغ ألف دينار فزده قيمتها جواهر.» فقال الطبيب: «معاذ الله أن أبيع حكمتي بالمال والجواهر.» فالتفت البارون إلى الملك وقال: «هذا أعجب من قوله لي أن عمره مائة سنة!» فقال الملك: «أنت تظن أن لا بسالة إلا بالسيف ولا شهامة إلا عند فرساننا، فصدق مقالي، إن شهامة هذا الحكيم العربي أرفع من شهامة الذين يعدون أنفسهم زهرة الفرسان.» فوضع الحكيم يده على صدره وقال: «حسبي، فهذا خير جزاء أناله من الملك. والآن أطلب إليك أن تنام وتتوقى كل ما يزعجك؛ لأن النكس شر من العلة.» فقال الملك: «سمعا وطاعة أيها الحكيم، ولكن ما هذا الصوت الذي أسمعه؟ وما هذه الجلبة؟ علي بالخبر يا ده فو.»
فخرج البارون ده فو ثم رجع وقال: «هذا دوق النمسا ذاهب في المحلة مع ندمائه وهم سكارى.»
فقال الملك: «ما أجنه! أما كان الأجدر به أن يبقى في خيمته ولا يجعل نفسه أضحوكة بين الناس؟!» وحينئذ دخل مركيز منسرات فقال له الملك: «ما قولك أيها المركيز في هذا الدوق؟» فقال: «أشكر الله على سلامتك أيها الملك، ولكن ما لنا وللدوق فإن قصته لا يحسن بي أن أشير إليها وقد كنت الآن في ضيافته.»
فقال الملك: «أكنت ضيفا على هذا السكير؟! فما دعاه إلى هذه الجلبة؟»
فوقف البارون ده فو خلف الملك، وجعل يشير إلى المركيز بيديه وعينيه؛ لكي لا يذكر شيئا من أمر العلم، ولكن المركيز عمي عن إشاراته أو تعامى، فقال للملك: «إن أعمال الدوق لا طائل تحتها، وقد بلغ الأمر مبلغا لا أريد أن يكون لي فيه ناقة ولا جمل، وهو أنه أتى لينزع علم إنكلترا ويضع علمه في مكانه!»
فصرخ الملك صرخة اهتزت لها أطناب الخيمة، ونهض من فراشه وجعل يلبس ثيابه وقال للحضور: «كل من ينطق بكلمة فهو عدو لي.» ثم تأبط سيفه وخرج يعدو كالنعام الجافل. فنادى البارون ده فو باثنين من الحرس وقال لهما: «امضيا حالا وأخبرا لورد سلسبري أن يتبعنا برجاله.» ثم خرج وراء سيده. وألقي النفير في معسكر الإنكليز وكان الجنود مقيلين في الظهيرة، فنهضوا إلى أسلحتهم. وهذا يقول: «هجم العرب علينا!» وذاك: «مات الملك!» وذاك: «قتله دوق النمسا!» ونحو ذلك من الأقوال. ومر الملك في طريقه بمعسكر الاسكتلنديين. فرآه السر وليم الفارس المتقدم ذكره، فاختطف سيفه وترسه وجعل يعدو وراءه، وكانت الأكمة مغطاة بالناس حتى لا يرى شيء منها، فاجتاز الملك ريكارد في وسطهم كأنه السفينة تمخر البحر الخضم إلى أن بلغ قمة الأكمة! فوجد الدوق واقفا بجانب رايته يتأمل فيما صنع، ويسمع ضجيج الناس الذين حوله، فوضع الملك ريكارد يده على راية النمسا ونادى بصوت كالرعد القاصف وقال: «من تجاسر أن يرفع هذه الخرقة النجسة بجانب علم إنكلترا؟!» فوقف الدوق مندهشا لا لقلة شجاعته، بل لأنه رأى شخصا لم ينتظر أن يراه في تلك الساعة. فكرر الملك ريكارد نداءه، فأجابه الدوق: «أنا، دوق النمسا.» فقال الملك: «سيرى دوق النمسا قيمة علمه في عيني ملك إنكلترا.» ثم نزع الرمح الذي عليه الراية وكسره كسرا، ورمى الراية وداسها برجليه، وقال: «هكذا أدوس راية النمسا، فهل بين فرسانك من يطالبني بما فعلت؟» فنادى جمهور من الفرسان الجرمانيين، وقال كل منهم: «أنا. أنا.» ثم تقدم أشدهم بأسا وأعظمهم هامة وقال: «أيها الإخوة والأشراف، قد داس هذا الرجل شرف بلادكم فهلموا لإنقاذه.» قال ذلك واستل سيفه وضرب الملك ريكارد ضربة كانت قضت عليه لولا أن السر وليم تلقاها بترسه! فقال الملك: «قد أقسمت بالله أن لا أضرب بسيفي فارسا من فرسان هذا الجهاد، فاحي يا هذا، احي لتراني وتندم.» ثم قبض عليه ورفعه بين يديه ورماه من فوق الأكمة كما يرمي الحجر الصغير، فوقع عند سفحها وقد تخلعت مفاصله. فلما رأى الدوق وأتباعه ما رأوا من قوة ريكارد وبأسه ارتعدت فرائصهم ووقعوا مبهوتين لا يدرون ما يفعلون. وحينئذ وصل سلسبري بجنوده، وكان النفير قد امتد إلى مخيم ملك فرنسا، فأسرع إلى الأكمة مع ثلاثة من خواصه، واندهش أشد الاندهاش عند رؤيته ملك إنكلترا واقفا هنالك يتهدد الدوق. فلما وقعت عين ريكارد عليه احمر خجلا؛ لأنه كان يهابه لأجل حكمته ورصانته ورفع رجله عن علم النمسا وتظاهر بالسكينة.
وكان ملك فرنسا حكيما حسن الرأي متبصرا في العواقب ساعيا في خير مملكته وترقيتها شجاعا مهابا، ولكنه كان يعتمد على سياسته أكثر مما يعتمد على شجاعته، كأنه يتمثل بقول القائل:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
ولربما طعن الفتى أقرانه
بالرأي قبل تطاعن الأقران
ولم يكن له رأي في هذا الجهاد، ولكنه حمل عليه بتحريض أمراء مملكته والكنيسة الرومانية. ولو لم تكن تلك الحرب حرب اقتحام وتهور لكانت السيادة فيها له لا لملك إنكلترا، فلما رأى انقياد الجمهور إلى ملك إنكلترا الخالي من الحكمة والتدبير ساءه ذلك، ولم يدع فرصة لإظهار حكمته وتعقله إلا اغتنمها، وهذه الفرصة من أحسن الفرص لإظهار فضل الحكمة والرصانة على الحدة والطيش. فقال: «ما معنى هذا النزاع بين أخوين متحالفين؛ بين رئيسين من رؤساء هذا الجهاد وعمودين من أعمدته؟!»
فاغتاظ ريكارد لما رآه ساوى بينه وبين خصمه فقال: «مهلا أيها الملك العظيم، فإن هذا الدوق أو الأمير أو العمود مهما شئت أن تدعوه فقد تعدى على حقوقي فأدبته، هذا كل ما جرى.»
فقال الدوق: «أيها الملك المعظم، إليك وإلى كل ملك وأمير أرفع شكواي، فإن ملك إنكلترا هذا قد نزع علمي وداسه برجله.»
قال ريكارد: «نعم فعلت ذلك؛ لأنك نصبته بجانب علمي.» فقال الدوق: «قد نصبت علمي بجانب علمك لأن منزلتي مساوية لمنزلتك.»
فقال ريكارد: «أثبت هذه المساواة بشخصك في ميدان النزال، فأعاملك كما عاملت هذه الخرقة النجسة.»
فقال الملك فيليب مشيرا إلى الملك ريكارد: «مهلا يا أخي مهلا، فأنا أرى أن دوق النمسا قد أخطأ فيما فعل.» ثم أشار إلى الدوق وقال: «لا تظنن أيها الدوق الكريم أننا بسماحنا لملك إنكلترا أن يرفع علمه في وسط المحلة قد اعترفنا بسيادته علينا؛ فإن ذلك لا يعقل، ألا ترى أن علم فرنسا الذي يضطر الملك ريكارد أن يخضع له بسبب ما له من الأملاك في فرنسا قد سمح في الأحوال الحاضرة للعلم الإنكليزي بالارتفاع على هذه الرابية؟ ونحن كلنا انتظمنا في سلك هذا الجهاد وطرحنا أمجاد الدنيا لنفتح بسيوفنا الطريق إلى القبر المقدس، وارتضينا باختيارنا أن نعطي الرياسة لأخينا ملك إنكلترا؛ لأنه أشدنا بطشا، وهذه الرياسة لا نسلم له بها في وقت آخر ولا في أحوال أخرى. وعندي أنك إذا تبصرت في الأمر أيها الدوق الكريم، تتأسف؛ لأنك رفعت علمك بجانب علمه؛ ومن ثم لا يتأخر ملك إنكلترا عن الاعتذار إليك.»
فقال الدوق: «إني رافع دعواي إلى مجلس الملوك العام وراض بحكمه.» فاستحسن فيليب ذلك وقال: «هذا هو الرأي الصواب.» فقال الملك ريكارد مخاطبا ملك فرنسا: «قد أسكرتني الحمى أيها الملك، وأنا رجل ضعيف الحجة في الكلام، فلا أسلم دعوى تمس شرف إنكلترا لمجمع الملوك ولا لمجمع الأحبار. هذا علمي، وكل علم يرتفع بجانبه ولو كان علم فرنسا نفسه أدوسه كما دست هذا العلم، فلا مراضاة عندي للنمسا، إلا ما تقدر عليه هاتان اليدان الضعيفتان في ميدان النزال.»
فقال ملك فرنسا: «إني لم آت أيها الأخ لتجديد الخصام المخالف للقسم الذي أقسمناه والجهاد المقدس الذي ارتبطنا به، فلننزع ما بيننا من الضغائن ونصبه على رءوس أعدائنا.» فقال ملك إنكلترا: «حبذا ما قلت يا أخي!» قال ذلك ومد يده له وتصافحا مصافحة الصداقة. فقال ملك فرنسا: «دع هذا الدوق الكريم يشاركنا في هذه المصافحة.» فقال ريكارد: «لا غرض لي في مصافحة المجانين.» ثم التفت إلى ما حوله وقال: «إن الثعالب تنساب في الليل فقم يا ده فو بجانب علم إنكلترا هذا الليل واحرسه.» فقال البارون ده فو: «إن سلامة إنكلترا أهم عندي من سلامة علمها، وسلامتها بسلامة ملكها، فلا أتركه وأحرس علمه.» فقال له الملك: «ما أشد عنادك!» ثم التفت إلى السر وليم وقال له: «أيها الباسل، لك علي نعمة وسأفيك إياها. هو ذا علم إنكلترا فأقم بجانبه ولا تبعد عنه، وإذا هاجمك أكثر من ثلاثة دفعة واحدة فبوق لنا فنأتي لنجدتك.» فأحنى السر وليم رأسه وقال: «سمعا وطاعة، فسأمضي وألبس سلاحي وأعود في الحال.»
ثم افترق ملك فرنسا وملك إنكلترا، وقد أضمر كل منهما الحقد لصاحبه: الأول؛ لأن ملك إنكلترا لم يعتبر وساطته، والثاني؛ لأن ملك فرنسا تداخل بينه وبين خصمه. واختلفت آراء الناس في هذا الخصام بين لائم لملك إنكلترا ومبرر له. والتقى مركيز منسرات برئيس الهيكليين وقال له: «انظر ما تفعل الحيلة، فقد فككت رباط هؤلاء الملوك وغدا ترى سيوفهم ورماحهم متفرقة أيدي سبأ.» فقال الرئيس: «لو كان بين أولئك النمسويين البلداء من استل سيفه وقطع الرباط الذي حللته لقلت إن حيلتك نجحت النجاح التام.»
الفصل الثاني عشر
فيما كان السر وليم واقفا بجانب العلم الإنكليزي، والبدر في كبد السماء كدرهم ملقى على ديباجة زرقاء، وأفكاره تتيه في فيافي الأماني قال في نفسه: «قد وجدت نعمة في عيني الملك ريكارد حتى استأمنني على علمه وفوض إلي حراسته، فقد زال البعد الذي بيني وبين الأميرة جوليا، فإن عشت عشت ملحوظا من الملك ومن بنت عمه، وإن مت وأنا في هذا الموقف الخطر طالب الملك بثأري وبكتني الأميرة جوليا، ولم تخش لومة لائم وهذا غاية مناي.»
ومرت الساعات عليه وهو يهدس في مثل ذلك ولا رفيق له ولا أنيس إلا كلبه الكبير الذي سبق الكلام عليه، وكأنه كان عارفا بغرض سيده من الإقامة هناك، فكان كلما سمع أصوات الحراس بين هزيع وهزيع يجيبهم بالنباح كأنه يقول إنه مستيقظ هو وصاحبه، ونحو نصف الليل نهض وجعل ينبح نباحا شديدا ويحاول الهجوم على جهة من الأكمة ثم يتأخر كأنه ينتظر أمر مولاه، فنادى السر وليم بأعلى صوته وقال: «من هذا؟» فسمع واحدا يقول له: «اربط كلبك وإلا امتنعت عن المجيء إليك.» فقال: «ومن تكون حتى تأتي إلي الآن؟» ثم أحدق بنظره فرأى شبحا يدب على جانب الأكمة ويقول: «اربط كلبك وإلا رميته بسهم يخطف أنفاسه.»
فقال السر وليم: «اترك السهم وتعال إلى نور القمر وإلا طعنتك طعنة تقضي عليك.» قال ذلك وأشرع رمحه، فتقدم الشبح إلى نور القمر وإذا به القزم الذي رآه في كنيسة عين جدي فعرفه، وتذكر تلك الليلة وما رآه فيها، فأشار إلى كلبه أن يصمت فصمت، وربض بجانب العلم وهو يهر. أما القزم فصعد على الأكمة وهو يلهث من شدة التعب ودنا من السر وليم وقال له: «أنسيت الأمير نكتبانس؟! فعلام لا تدنو لتحيتي؟»
فقال السر وليم: «كلا، ولكنني في موقف يمنعني من الترحب بك.» فقال القزم: «إننا نسامحك بشرط أن تأتي معنا حالا إلى الذين ينتظرونك.»
فقال السر وليم: «هذا لا أستطيعه؛ إذ لا بد من الإقامة ههنا حتى الصباح.» قال ذلك وجعل يمشي بجانب العلم. فاعترضه القزم وقال له: «اتبعني وإلا أمرتك أن تتبعني باسم التي لو أمرت الكواكب لخرت من السماء لها سجدا.» فانشغل بال السر وليم وقال في نفسه: «لا يمكن أن تكون الأميرة جوليا هي التي بعثت هذا الأحمق إلي!» ثم التفت إليه وقال له: «أظنك تعني تلك الظبية الهيفاء التي رأيتها معك في الكنيسة.» فقال له القزم: «أتظن أيها المتطاول أن زوجتنا وشريكتنا في الملك؛ الملكة كوانفرا تتنازل لكي تدعوك إلى حضرتها؟! معاذ الله، ولكن انظر هذه العلامة فإن كنت تعرفها فأنت في الخيار بين أن تطيع أمر صاحبتها أو تعصاه.» قال ذلك وأعطاه خاتم الياقوت الذي رآه في يده الأميرة جوليا، فبهت من رؤيته ووقف صامتا برهة من الزمان، ثم التفت إلى القزم وقال له: «أقسم عليك بأعظم الأقسام أن تخبرني ممن أخذت هذا الخاتم، ولماذا أتيت به إلى هنا، واحذر كيف تتكلم؛ لأن المقام ليس مقام هزل ومجون.»
فقال القزم: «لا يهمك أن تعرف أكثر من أن أميرة تأمرك لتأتي إليها فليس لنا إلا أن نأمرك باسم صاحبة هذا الخاتم أن تأتي معنا إليها، وكل تأخر منك يعد عليك ذنبا.»
فقال السر وليم: «اصدقني الخبر أيها العزيز، هل تعلم الأميرة بالمركز الذي أنا فيه، والأمر المناط بي؟ وهل تعلم أن حياتي، بل شرفي متعلقان بحراستي هذا العلم حتى الصباح؟ فهل تعلم ذلك وتدعوني لأمضي إليها؟ فلا بد من أنها أرادت أن تمزح معنا، ولا سيما لأنها اختارتك رسولا لها.»
فقال القزم: «ابق على ظنك.» ودار ظهره وهم بالانصراف وهو يقول: «سيان عندي أخلصت الحب لهذه الأميرة أم لم تخلصه.» فقال السر وليم: «اصبر قليلا وأجبني على هذا السؤال فقط، وهو هل الأميرة صاحبة هذا الخاتم قريبة منا؟»
فقال القزم: «ما الفرق بين كونها قريبة أو بعيدة؟ وهل الأمانة والإخلاص يتوقفان على المسافة؟ ولكنني أقول لك إن صاحبة الخاتم على رمية سهم منا.»
فنظر السر وليم في الخاتم طويلا ثم قال للقزم: «هل يطلب مني أن أبقى عندها وقتا طويلا؟» فقال القزم: «ما هو الوقت؟! فإني لا أراه ولا ألمسه ولا أسمعه، فما هو إلا وهم، أولا تعلم أن وقت الفارس الأمين هو الواجبات التي يعملها لأجل إلهه وحبيبته؟»
فقال السر وليم: «أصبت وأحسنت، فهل تدعوني الأميرة لعمل شيء من الواجبات؟ أولا يمكن تأخير ذلك إلى الصباح؟»
فقال القزم: «كلا، بل لا بد من مجيئك إليها حالا وسريعا، وهذه هي عبارتها: «قل له إن اليد التي ترمي الورد تقدر أن تلبس الإكليل».»
فاحتار السر وليم في أمره واضطرب وزاد اضطرابه بقول القزم له: «اذهب معي حالا أو أعطني الخاتم.» فقال له: «اصبر علي دقيقة.» ثم قال: «الظاهر أني مستعبد للملك ريكارد أكثر مما يجب علي؛ لأنني أتيت إلى هذه البلاد وقد عاهدت نفسي على أن أحارب في سبيل الله ولأجل التي أحبها.» فقال له القزم: «الخاتم الخاتم، رد علي الخاتم الذي لا تستحق أن تلمسه بيدك ولا أن تراه بعينك.»
فقال له الفارس: «اصبر هنيهة ولا تعترض مجرى أفكاري.» ثم قال: «لو هجم العدو الآن على المكان المعد لنزولي أكنت أبقى بجانب هذا العلم لكي لا يمس شرف إنكلترا أم أهجم على العدو وأجاهد في سبيل الله؟! الجهاد في سبيل الله مقدم على كل شيء، وبعده الجهاد من أجل التي وقفت لها نفسي، ولكن أين وعدي للملك؟! بالله عليك يا نكتبانس هل المكان بعيد؟» فقال: «رمية سهم في تلك الخيمة التي عليها كرة ذهبية تلمع في ضوء القمر.»
فقال الفارس: «أويمكنني أن أعود من هناك في لحظة، وأن أسمع نباح الكلب من هناك؟! فلماذا لا أمضي وأطلب من مالكة فؤادي أن تسمح لي بالرجوع حالا؟» قال ذلك وطرح رداءه بجانب الراية وأشار إلى كلبه أن يبقى هناك. فربض الكلب بجانب الرداء وصر أذنيه كأنه فهم مراد سيده، ثم قال الفارس للقزم: «هلم يا صاح، ودعنا نسرع ما أمكننا.»
فقال القزم: «أنت لم تسرع إلى إجابة طلبي فلا أسرع أنا إلى إجابة طلبك، ولا أقدر أن أجاريك لو أردت؛ لأنك لا تمشي كما يمشي البشر بل تزف كما يزف النعام.» قال ذلك وجعل يتأخر في مشيه عمدا، فلم ير السر وليم واسطة إلا أن يحمله ويعدو به، فحمله بين يديه كما يحمل الباشق العصفور وأسرع في عدوه حتى بلغ الخيمة المشار إليها، وهي خيمة الملكة، فوجد أمامها نفرا من الحرس، فخاف أن يوقظهم بمشيه أو بحركة سلاحه، فوضع القزم من يده، وقال له: «خذنا في طريق آخر حتى لا ينتبه إلينا الحراس.» فجعل القزم يدور بين الخيام والسر وليم يتبعه حتى بلغ الخيمة، فرفع سجفها ودخل من تحته وقال له: «اتبعني.» فتردد السر وليم أولا عن الدخول وراءه على تلك الصورة، ثم رأى أن لا سبيل لدخول الخيمة إلا إذا دخل من حيث دخل القزم، فأحنى رأسه ودخل من تحت السجف دبا على يديه، فقال له القزم: «انتظرني هنا.» واختفى من أمام عينيه.
الفصل الثالث عشر
وقف السر وليم بضع دقائق في الخيمة ولم يكن فيها نور، فندم على ما فعل ولات ساعة مندم؛ لأنه تعدى وصية الملك وخالف واجباته العسكرية، فأراد أن يتربص ليعلم نهاية الأمر، ثم خطر له أن الأميرة جوليا ساكنة مع الملكة، فإذا عرف أنه دخل خيمة الملكة لم ينج من العقاب، فعزم أن يرجع على عقبه، وفيما كانت هذه الأفكار تتردد في باله سمع أصوات نساء يضحكن ويتكلمن في الخيمة المحاذية للخيمة التي كان فيها، وما بينه وبينهن إلا ستار، وكان في خيمتهن شموع موقدة فكان يرى أشباحهن خيالات وسمع واحدة منهن تقول: «ناديها ناديها، أحسنت يانكتبانس مثلك من يؤتمن في الحاجات.» ثم قالت أخرى: «ولكن كيف نتخلص من هذا الرجل الذي أتانا به نكتبانس؟» فقالت ثالثة: «اسمعي يا مولاتي الملكة، إذا لم تكن غيرة نكتبانس شديدة على زوجته الأميرة كوانفرا، فهي تمضي وتصرف هذا الفارس وتعلمه قدر نفسه.» فقالت لها: «أحسنت أحسنت، فإن زوجها أتى به فعليها أن تصرفه.»
فلما سمع السر وليم هذا الكلام كاد يتميز غيظا وهم بالانصراف، وإذا بالتي تكلمت أولا تقول: «لا لا، نادوا ابنة عمنا جوليا أولا لكي تنظر هذا الفارس بعينها فترى تقصيره في إتمام واجباته، فإنها قد اهتمت بأمره أكثر مما تقتضيه الحكمة.» ثم سمع واحدة تتكلم عن حكمة الأميرة جوليا، ولكنه لم يسمع كلامها جيدا، بل سمع الجواب الذي أجيبت به وهو: «ما هذه حكمة؟! هذه كبرياء، فلا أريد أن أضيع هذه الفرصة، أنتن تعلمن أنه إذا هفت واحدة منا هفوة صغيرة لا تنجو من ملامها، ها هي.»
وحينئذ دخل الخيمة فتاة طويلة القامة وامتزجت مع اللائي فيها، فشعر السر وليم براحة في نفسه رغما عن الاضطراب الذي أصابه وعن الخطر المحدق به من دخوله خيام الملكة في جنح الليل وسماعه حديثها؛ لأن التي كانت تتكلم وتلح بحضور الأميرة جوليا هي الملكة. فقال في نفسه: «الحمد لله، فإن الأميرة جوليا لا دخل لها بإغرائي إلى الدخول في هذا المكان، فهي بريئة من ذنبي.» وكان يجب عليه أن ينصرف حالا ويعود إلى حراسة الراية، ولكن النفس أمارة بالسوء؛ فلبث في مكانه يسمع ما يدور بينهن من الحديث عساه أن يسمع صوت حبيبته، وقال في نفسه: «إذا كانت الملكة استباحت حياتي وشرفي بإغرائي بالمجيء إلى هذا المكان، فلا يحق لها أن تلومني إذا وقفت فيه قليلا لأتمتع بسمع من بخل علي الزمان بسمعها قبلا.» وظهر له كأن الأميرة جوليا كانت منتظرة أمر الملكة، والملكة تريد أن تتكلم ويمنعها الضحك من الكلام، وبعد قليل قالت الأميرة جوليا: «يظهر لي أيتها الملكة أنكن في مجلس أنس وطرب، أما أنا فقد حان وقت نومي، ولما بلغني أمرك كنت قد خلعت ثيابي لأنام.»
فقالت الملكة: «لا أؤخرك طويلا عن النوم يا بنت العم، ولكنني أخاف أن أخبرك بفقد الرهن فتقلقي الليل كله.»
فقالت الأميرة: «ألم ننس هذه القصة؟ أنا لم أراهن ولكن جلالتك ارتأيت هذا الرأي.»
فقالت الملكة: «يا للعجب! أتنكرين أنك راهنت بخاتمك على إسواري أن ذلك الفارس صاحب النمر لا يمكن أن يغرى بترك حراسة العلم؟»
فقالت الأميرة: «أنت أعظم من أن أخالفك، ولكن أظن أن هؤلاء السيدات يشهدن أن جلالتك ارتأيت وضع هذا الرهن وأخذت الخاتم من أصبعي غصبا عني.»
فقالت إحدى الحاضرات: «أتنكرين أيتها الأميرة أنك مدحت شجاعة هذا الفارس وبينت ثقتك فيه؟»
فقالت الأميرة: «وإن كنت مدحت شجاعته، فهل تتخذن ذلك سببا للاشتراك مع جلالتها ومدح ما فعلته؟ أما أنا فلم أمدح هذا الفارس إلا كما مدحه كل الذين شاهدوا أفعاله في ميدان القتال. وعن أي شيء يتكلم النساء وهن في دار الحرب إلا عن الجنود وأفعالهم؟!»
فقالت إحدى الحاضرات: «إن الأميرة جوليا لم تزل غاضبة علينا من حين أخبرنا جلالتك أنها رمت له وردتين في الكنيسة.»
فقالت الأميرة للملكة: «إذا كنت جلالتك أتيت بي لتسمعي ما يقوله جواريك، وليس لك شيء آخر تأمرينني به فاسمحي لي بالانصراف.»
فقالت الملكة: «اصمتي يا فلوريسا، ولا تنسي أنك تتكلمين عن ابنة عم الملك. وأنت يا بنت العم العزيزة، أيصح في شرعك أن تحرمينا من ساعة أنس، وقد مضى علينا أيام كثيرة في البكاء والنوح؟»
فقالت الأميرة: «لتكن كل أيامك أيام أنس يا مولاتي، أما أنا فالأجدر بي أن لا أضحك كل حياتي ما إن ...» قالت ذلك وأمسكت عن الكلام لشدة انفعالها.
فقالت الملكة: «سامحيني يا حبيبتي، ولكن ما هو ذنبنا العظيم؟! شاب أغري باسم فتاة جميلة، لأن نكتبانس لم يقدر أن يغريه إلا باسمك.» فلما سمعت الأميرة جوليا هذا الكلام صرخت قائلة: «يا إلهي! ماذا تقولين أيتها الملكة؟! أتتكلمين بالجد أم أنت تمزحين؟ أعرضت شرفك وشرف نسيبتك ابنة عم زوجك للعار والازدراء؟! أنت تمزحين ولا بد.»
فقالت الملكة: «يظهر أن الأميرة جوليا غاضبة علينا لأنا ربحنا الخاتم، فسنرده لك يا عزيزة، ولكن لا تعنفينا لأننا فزنا هذه المرة بالغلبة على حكمتك.»
فقالت الأميرة: «الغلبة ليست لك أيتها الملكة، بل للعدو الذي يسمع أن ملكة إنكلترا جعلت اسم نسيبتها موضوعا للضحك والمزح.»
فقالت الملكة: «أنت مغتاظة يا عزيزتي لأننا ربحنا خاتمك البديع، فنحن نتنازل عن حقنا، ولا نخفي عليك أن خاتمك واسمك أغريا هذا الفارس حتى أتى إلى هنا، ونحن قد مسكنا السمكة فلا حاجة لنا بالطعم.»
فقالت الأميرة: «أنت تعلمين يا مولاتي أنك مهما طلبت مني فهو لك، وأنا أفضل أن أخسر كل ما عندي من الجواهر على أن يستعمل اسمي أو خاتمي لإغراء هذا الفارس وتعريضه للإهانة والعقاب.»
فقالت الملكة: «قولي لي إنك تخافين عليه من الإهانة والعقاب، والظاهر أنك لا تحسبين لي حسابا ولا تظنين أنني أقدر أن أسترضي الملك وأستمد له العفو منه. لا أيتها الأميرة، فغيرك له سلطة على قلوب الأبطال مثلك، وقلب الأسد ليس حجرا بل لحم ودم مثل قلوبنا، ولي عليه شيء من السلطان حتى أقدر أن أسترضيه وأجعله يعفو عن هذا الفارس إذا كنت تهتمين بأمره بهذا المقدار.»
فانطرحت الأميرة جوليا على قدميها وقالت لها: «أحلفك بحق كل الأوليات والقديسين أن تحترسي مما تفعلين، فإنك لا تعرفين الملك ريكارد إلا من عهد قريب، أما أنا فأعلم يقينا أن تسكين البحر عن هياجه أسهل عليك من تسكين غضبه إذا غضب، بالله عليك اصرفي هذا الفارس إن كنت قد أغريته ليأتي إلى هنا، وأنا أرضى بالعار الذي لحقني من استخدام اسمي لإغرائه إذا كنت أعلم أنه رجع إلى مكانه.»
فقالت لها الملكة: «انهضي يا بنت العم وثقي بكلامي أنه لا يحدث شيء مما تخافين، انهضي يا حبيبتي جوليا وأنا آسفة جدا لأنني أغريت فارسا يهمك أمره، انهضي ولا تفركي يديك قد سلمت أنك لا تهتمين بأمره، بل أنا مستعدة أن أسلم بكل شيء ولا أراك حزينة، وأؤكد لك أنني أتوسط أمره عند الملك وألقي اللوم كله علي، وها إني أرسل الآن نكتبانس ليصرفه وأعتذر إليه في وقت آخر عما جرى، وأظنه الآن منتظرا أمرنا في إحدى الخيام القريبة.»
فقال القزم: «كلا يا مولاتي، بل هو في خيمتك وبيننا وبينه هذا الستار.» فاضطربت الملكة وقالت: «أهو قريب منا وسامع كل ما دار بيننا من الحديث؟! يا للعار!» ولما قالت ذلك صرخ القزم وهرب من الخيمة والظاهر أنها ضربته حتى هرب صارخا، ثم قالت: «والآن ما العمل؟»
فأجابتها الأميرة جوليا: «يجب أن نراه ونستميح منه.» قالت ذلك وجعلت تفك عرى الستار، فنادتها الملكة وقالت لها: «بالله عليك أن تنتبهي إلى لبسنا ومجلسنا والساعة التي نحن فيها ...» ولكن قبل أن تتم كلامها سقط الستار الذي بينهن وبين السر وليم، فهربت الملكة وجواريها إلى خيمة أخرى، وأما الأميرة جوليا فأخذت مصباحا بيدها ودنت من السر وليم، وكانت لابسة ثوبا رقيقا وردي اللون ومتوشحة بوشاح يغطي كتفيها وصدرها، وشعرها الذهبي مسدول عليه وقصائبه محيطة بوجه اجتمع فيه الورد والياسمين. وكانت تعلم هول الموقف الذي وقفت فيه، ولكنها لم تدع خجلها وحياءها يمنعانها عن الكلام مع من خاطر بحياته وشرفه لأجلها، فوضعت المصباح من يدها وضمت أطراف الوشاح حتى غطى صدرها، وقالت: «عد أيها الفارس إلى مكانك فإنك قد أغريت إلى هذا المكان إغراء.»
فركع أمامها على ركبتيه كأنه راكع أمام ملاك هبط عليه من السماء، فقالت: «ما يوقفك هنا وقد سمعت كل ما دار بيننا، وكل دقيقة تقفها مجبولة بالعار والهوان؟»
فقال لها: «قد حل بي العار والهوان كما تقولين، ولكنني سألقي نفسي على سيوف العدو لعل الدماء تزيل العار والهوان.»
فقالت له: «لا تفعل ذلك ولا تخاطر بنفسك، بل كن حكيما وأسرع من هنا فقد تصطلح الأمور، ولكن اذهب سريعا.»
فقال لها: «ولكنني أطلب منك أولا أن تسامحيني على اغتراري بنفسي الذي حملني على التصديق بأنك تطلبين خدمة مني.»
فقالت: «إني أسامحك، ولكن على أي شيء أسامحك وأنا كنت السبب في مضرتك؟ اذهب سريعا وأنا أسامحك وأعرف قدرك كما أعرف قدر كل فارس شجاع. اذهب ولا تتأخر.»
فقدم لها الخاتم الذي أعطاه إياه القزم وقال لها: «خذي أولا هذا الرهن الذي جلبني إلى هذا المكان.»
فقالت له: «كلا لا آخذه، أبقه معك علامة لاعتباري لك، بل لأسفي عليك، ولكن اذهب سريعا، وإن لم يكن من أجل نفسك فمن أجلي.»
فلما قالت ذلك ورأى اهتمامها بحياته وسلامته قال في نفسه: «هذا يساوي كل ما خسرته من الشرف والكرامة.» فنهض وهم بالانصراف ولكنه التفت إليها قبل أن ينصرف ليتزود منها بنظرة، وكانت تغالب الحياء الخاص ببنات نوعها حتى غلبها الحياء فدخلت من حيث خرجت، وأطفأت المصباح، فقال في نفسه: «يجب أن أطيع أمرها.» فخرج من حيث دخل وهو لا يعي على شيء، وكان عليه أن يدور في الطريق الذي جاء فيه؛ لكي لا يمر على الحراس، وأن يسير متمهلا لكي لا ينتبه إليه أحد ولا يعثر بالأطناب والأوتاد. وفيما هو في هذه الحال سمع صوتا أرجعه إلى عقله ونبه كل قواه؛ وهو نباح كلبه، فإنه سمعه نبح أولا نباحا شديدا، ثم سمعه يعوي عواء الألم، فنفر نفور الظليم وأخذ ينتهب الأرض انتهابا رغما عن ثقل أسلحته وعلو الأكمة، وما زال يعدو حتى صار على قنتها، وكان القمر محتجبا بالغيوم، فلما بلغ قنة الأكمة ظهر بنوره الساطع، وأراه ما طير صوابه؛ أراه العلم مفقودا ورمحه مكسورا والكلب في حالة النزع.
الفصل الرابع عشر
أشفقت من عبء البقاء وعابه
ومللت من أري الزمان وصابه
ووجدت أحداث الليالي أولعت
بأخي الندى تثنيه عن آرابه
رأى الفارس ما رأى من تلك الداهية الدهماء والبلية الصماء، فغاب عن الصواب ووقف كمن وقع به مس من الجن، ثم انتبه إلى نفسه وجعل يفتش عمن ارتكب تلك الفعلة الشنعاء، فلم يقف له على عين ولا على أثر فعاد إلى كلبه، فوجد جرحه مميتا والنصل مكسورا فيه، فلما رآه الكلب جعل يبصبص بذنبه ويئن أنين الألم الشديد، ولا سيما عندما حاول أن ينزع النصل من جرحه، فاسودت الدنيا في عينيه وضاقت عليه بما رحبت، فاغرورقت عيناه بالدموع، وبكى بكاء الثكلى، ثم سمع منشدا ينشد ويقول:
سلم أمورك للمهيمن كلها
واهرب إليه فذاك نعم المهرب
وإذا بليت بنكبة فاصبر لها
من ذا رأيت مسلما لا ينكب
فالتفت وإذا بالحكيم العربي مقبل نحوه، فلما رآه الحكيم يبكي ويتوجع رثى لبلواه وعزاه على مصابه، وطلب إليه أن يسمح له بمداواة الكلب، ثم أخرج آلة من جيبه نزع بها النصل من الجرح، وذر عليه ذرورا أوقف الدم ثم ضمده وعصبه، وقال له: «إذا سمحت لي أن آخذه إلى خيمتي وأعالجه فالأرجح أنه يشفى.» فقال له: «عليك به وإذا شفي فهو لك، أما أنا فلم يبق بي حاجة إليه.» فصفق الحكيم بيديه، وإذا باثنين من عبيده دنوا منه فأمرهما أن يحملا الكلب إلى خيمته، فنظر إليه السر وليم وقال له: «الوداع يا كلبي الأمين، الوداع يا رفيقي في السراء والضراء، ليت السهم الذي أصابك أصاب قلبي وأراحني من غصص الحياة، فكنت أموت في شرفي ولا ألتحف بالعار والازدراء.» فقال له الحكيم: «وما أصابك حتى تفضل الموت على الحياة؟» فقال: «أصابني مصاب يعجز عنه طبك فدعني وشأني.» فقال الحكيم: «اشرح لي مصابك فلعلك لا تعدم مني دواء شافيا؛ لأن الله خلق لكل داء دواء.» فقال: «انتدبني الملك أمس إلى حراسة علمه على هذه الأكمة، فسرق العلم وكسر الرمح والأمر كما ترى.» فنظر إليه الحكيم متعجبا من أمره وقال له: «سلاحك سليم وجسمك صحيح، وما أنت لتهرب من وجه العدو على ما سمعت من شهادة الناس فيك، فلم يبق إلا أن إحدى ربات الجمال اللواتي تعبدونهن كما تعبدون إلهكم قد أغرتك وأبعدتك عن هذا المكان.» فقال الفارس: «وإن كان الأمر كما ذكرت فما العلاج؟» فقال الحكيم: «إذا نبا بكريم موطن فله
وراءه في بسيط الأرض أوطان
فرأيي أن تهرب من غضب الملك ريكارد إلى حمى السلطان صلاح الدين.»
فقال الفارس: «أتنصح لي أن أستر ذنبي بترك مذهبي؟»
فقال الحكيم: «أخطأت، فإن صلاح الدين لا يجبر أحدا على ترك مذهبه، فاسمع النصح واتجر به، فإنه قادر أن يرقيك إلى أرفع المناصب، ولو علمت مقاصد هؤلاء الملوك والأمراء المتجمعين هنا ومضمون شروط الصلح التي ذهبت بها إلى السلطان صلاح الدين ما تأخرت عن قبول نصيحتي؛ فإنهم كلهم يترضون وجهه، وقد عرضوا عليه شروطا للصلح لا يمكنه أن ينتظر أحسن منها، وبعضهم خاطبه سرا وعرض عليه أن ينضم إلى جنوده ويقاتل عساكر النصارى معه. ولكن صلاح الدين لا يقبل هؤلاء الخائنين في معسكره ولا يعقد شروط الصلح إلا مع قلب الأسد، وفي نيته أن يسمح له ببعض مدن الساحل ويبيح له أن يبقي شرذمة من جنوده في بيت المقدس لحماية الحجاج، ويسمي نفسه حامية أورشليم، وفي نيته أيضا أن يشرف واحدة من نسيبات الملك ريكارد اسمها الأميرة جوليا بضمها إلى حرمه.»
1
فكان الحكيم يتكلم والسر وليم يسمع كلامه ولا يكترث له حتى ذكر الأميرة جوليا، فأجفل ولا إجفال الجمل، وكاد يغيب عن الصواب وقال في نفسه: «بلغت خيانة هؤلاء الملوك مبلغا يفوق التصديق، فسولت لهم نفوسهم أن يشتروا الصلح بمن وقفت نفسي على حبها وضحيت شرفي وحياتي على مذبحه.» ولكنه كظم الغيظ وحاول أن يستعلم من الحكيم كل ما يعلمه من أمر هذا الزواج، فقال: «وأي مسيحي يوافق على اقتران صلاح الدين بأميرة مسيحية؟»
فقال الحكيم: «ألم يبلغك أن أمراء المسلمين يتزوجون كل يوم بفتيات النصارى في الأندلس بلا ممانع ولا معارض؟ وإذا تزوج السلطان صلاح الدين ببنت عم الملك ريكارد أباح لها البقاء على دينها وممارسة فرائضه، وأنزلها المنزلة الأولى بين نسائه.»
فقال السر وليم: «معاذ الله أن يسمح الملك ريكارد لأميرة عريقة في الحسب والنسب أن تصير زوجة لصلاح الدين ولو أحلها فوق كل نسائه!» فقال الحكيم: «أخطأت، فإن فيليب ملك فرنسا وغيره من أقيالكم قد وعدونا ببذل الجهد في إتمام هذا الأمر حسما لهذه الحروب التي أبادت رجالهم، ورئيس صور تكفل بعرض الأمر على الملك ريكارد وإقناعه بالتسليم به، إلا أن صلاح الدين أخفى غرضه عن مركيز منسرات ورئيس الهيكليين؛ لأنه يعلم أنهما يكرهان ريكارد ولا يحبان أن يحوز هذا الشرف. والآن أنصحك أن تبادر إلى صلاح الدين حالا، وأنا أبعث معك برسالة إليه فيرفع مقامك ويكرم مثواك، ولا تظنن أنك تترك بلادك وديانتك لأن صوالح البلادين ستصير واحدة عن قريب، ولصلاح الدين منفعة من قيامك في بلاطه؛ لأنك تخبره كيف يعامل ملوككم نساءهم، فيعامل هذه الأميرة مثل معاملتهن وفقا لما ستشترطونه عليه من الشروط. واعلم أن الله سبحانه قد فتح لصلاح الدين كنوز الدنيا وبسط على الخافقين ظله الظليل، فإذا لذت به أسبغ عليك عطاياه وحماك من الإنس والجن، فإنه هو الذي قال فيه الرشيد النابلسي:
هذا الذي كانت الأيام تنتظر
فليوف لله أقوام بما نذروا
وقال فيه ابن الشحنة الموصلي:
وإني امرؤ أحببتكم لمكارم
سمعت بها والأذن كالعين تعشق
وقال غيرها:
الله أكبر جاء القوس باريها
ورام أسهم دين الله راميها
فكم لمصر على الأمصار من شرف
باليوسفين! فهل أرض تدانيها؟!
فبابن يعقوب هزت جيدها طربا
وبابن أيوب هزت عطفها تيها
قل للملوك تخلى عن ممالكها
فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
وإذا حننت إلى الوطن وأردت الرجوع إلى قومك وأهلك، فصلاح الدين يتوسط أمرك عند مولاك فيعفو عنك ويرفع شأنك.»
فتنفس الأمير الصعداء وقال للحكيم: «لو لم تكن قد شفيت خادمي والملك ريكارد من مرضهما لأوردتك حتفك حيث أنت واقف، ولكني جزاء لمعروفك أنصحك أن تخبر من يتجاسر على عرض هذا الأمير على الملك ريكارد أن يلبس خوذة لا تفعل بها فأسه التي شقت بها باب عكاء بضربة واحدة.»
فقال الحكيم: «أراك مصرا على عنادك وعازما على تسليم نفسك للقدر المحتوم، ولكن اعلم أن شريعتنا وشريعتكم تبيحان للإنسان أن يفر من القضاء ويسعى إلى النجاة.»
فقال الفارس: «معاذ الله أن أفر من العقاب الذي أستحقه.» فقال الحكيم: «إذن أتركك إلى عنادك، وإذا أراد الله بقوم سوءا أعمى بصائرهم عن سبل النجاة.» قال ذلك وانصرف في طريقه وهو يهز رأسه. فوقف السر وليم وجعل يتأمل في كلام الحكيم وفيما سمعه من الأمير شيركوه والناسك الذي في عين جدي عن سعي الملوك في عقد الصلح، فانكشف له سر مكنون وقال: «الآن فهمت مراد هذا الناسك الخبيث بقوله: إن الرجل غير المؤمن يكتسب إلى الإيمان بامرأته المؤمنة. وإذا صدقني حزري فهو قد وصف الأميرة جوليا لصلاح الدين، ثم سعى في إتمام هذا الاقتران الذي يجب أن أمنعه ما دام في رمق من الحياة.» قال ذلك ورمى الخوذة عن رأسه وأسرع إلى خيمة الملك ريكارد.
الفصل الخامس عشر
ويوم حبست النفس عند عراكها
حفاظا على عوراته والتهدد
على موقف يخشى الفتى عنده الردى
متى تعترك فيه الفرائص ترعد
فإن مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي علي الجيب يابنة معبد
لما أناط الملك ريكارد حراسة علمه بالسر وليم عاد إلى خيامه طيب النفس قرير العين بما أظهره من البسالة والإقدام أمام رؤساء النصارى وقواد جنودهم، ولا سيما لأنه قهر واحدا منهم فقهر بقهره كثيرين من أعدائه. ولو حدث ما حدث لملك آخر غير الملك ريكارد لضاعف حرسه وأبقى فريقا من جنوده تحت السلاح، ولكن ريكارد صرف حرسه العادي وفرق الخمر على جنوده ليشربوا فرحا بسلامته وسلامة العلم الإنكليزي. ولولا البارون ده فو وأرل سلسبري لسكروا كلهم وعبثوا بكل نظام وترتيب.
وأقام الحكيم مع الملك ريكارد إلى ما بعد نصف الليل بثلاث ساعات، وجرعه الدواء مرتين ثم خرج قاصدا خيمته ومر في طريقه على خيمة السر وليم يفتقد خادمه، وسأل عنه فأخبر أنه يحرس العلم على الأكمة، فأتى إليه ووجده في حالة اليأس والقنوط، وجرى بينهما الحديث الذي مر ذكره في الفصل الماضي.
وقبل شروق الشمس بساعة من الزمان دخل السر وليم خيمة الملك ريكارد بدون أن يستأذن عليه، فنهض البارون ده فو واعترضه قائلا: «ما هذه الجسارة؟» فناداه الملك ريكارد وقال له: «إليك عنه يا ده فو، فقد أقبل علينا ليخبرنا بما كان من حراسته.» ثم اتكأ على يده ونظر إلى السر وليم وقال له: «قد حرست العلم نعم الحراسة، وعلم إنكلترا يحرس نفسه، فكيف وقد سلمت حراسته لفارس مجرب كما يقول الناس فيك؟!»
فقال السر وليم: «قد أخطأ قول الناس في؛ لأن العلم قد أخذ!»
فقال الملك: «أأخذ وأنت حي ترزق؟! هذا ضرب من المحال، فإني لا أرى فيك جرحا ولا خمشا! فلماذا لا تتكلم؟ قل الحق، فلا يليق بأحد أن يمزح مع الملوك، ولكنني أسامحك ولو كذبت.»
فقال السر وليم: «أتنسبني إلى الكذب أيها الملك؟! ولكن صبرا على مجامر الكرام.» فأقسم الملك بالله ثم راجع نفسه، وقال: «اذهب يا ده فو فإن هذه الحمى قد ضعضعت أفكاري، اذهب وائتني بجلية الخبر، اذهب وإن كنت لا تذهب فأرسل أحدا يأتينا بالخبر ...» وقبل أن يتم كلامه دخل أحد القواد واسمه السر هنري نفيل، وقال: «إن العلم مفقود والفارس الذي كان يحرسه قد قتل؛ لأن رمح العلم مكسر وبجانبه بركة من الدم.» ثم التفت فرأى السر وليم واقفا أمام الملك، فقال: «ولكن من هذا الذي أراه هنا؟» فنهض الملك على قدميه وقبض على فأسه الشهيرة، وكانت بجانب سريره وقال: «هذا خائن وستراه يموت موت الخائنين.» وهم بضرب السر وليم على رأسه، ولكن السر وليم وقف أمامه حاسر الرأس كأنه صنم من الأصنام، لم يفه بكلمة ولم يبد حركة. فنظر الملك إليه والفأس فوق رأسه ثم خفض الفأس كأنه راجع فكره وقال: «أتقول يا نفيل إن هناك بركة دم؟! اسمع أيها السر الاسكتسي، أنا قد رأيتك تحارب حرب الأبطال، فقل لي هل قتلت اثنين من اللصوص الذين سرقوا العلم؟ هل قتلت واحدا منهم؟ هل ضربت ضربة واحدة من أجلنا؟ قل واخرج من هنا بحياتك، يكفيك ما غشيك من العار.»
فأجابه السر وليم: «قد دعوتني يا مولاي كاذبا فلم تنصفي فليكن معلوما عندك أنه لم يهرق في حراسة علمك إلا دم كلب حرس العلم، حينما تغاضى سيده عن حراسته.» ولما قال ذلك رفع الملك فأسه وهم بضرب هامته، فدخل البارون ده فو بينهما وقال للملك: «لا يليق يا مولاي أن تقتله بيدك ولا في خيمتك، فحسبنا من الخطأ أنك سلمت حراسة علمك لواحد من الاسكتلنديين، أولم أقل لك مرارا إنهم لا عهد عندهم ولا ذمام؟»
فأجابه الملك: «أصبت، وطالما قلت لي ذلك، وكان يجب أن لا أنسى كيف خدعني ملكهم في هذه الحرب.» فقال السر وليم: «إن ملكنا لم يخدعك ولكن الأحوال قضت بما قضت.» فقال له الملك: «اخرس ولا تذكر اسم الملوك بفمك.» ثم التفت إلى ده فو وقال له: «ولكن في الأمر عجبا، فإن هذا الخائن وقف أمامنا وفأسنا فوق رأسه كأنه وقف لنقلده رتبة الفروسية! فلو بدت منه علامة من علامات الخوف لطيرت دماغه تطييرا، ولكنني لا أستطيع أن أضرب حيث لا خوف ولا مقاومة.»
فقال السر وليم: «يا مولاي.» فقال الملك: «أعادت إليك قوة النطق؟ اطلب الرحمة من الله، ولكن لا تطلبها مني؛ لأن شرف إنكلترا قد أهين بسببك، ولو كنت أخي الوحيد ما أمكنني أن أعفو عنك.»
فقال السر وليم: «إنني أطلب الرحمة من الخالق لا من المخلوق، ولكنني أطلب منك أن تسمح لي بأحد خدمة الدين لإتمام فريضتي الدينية الأخيرة، فإن سمحت لي بذلك فكرم منك، وإلا فالله غفار الذنوب. وسواء مت الآن أو بعد ساعة فلي كلام إن تأذن لي أقوله لك فهو عندك ذو بال.» فقال له الملك: «قل ما بدا لك.» وكان يأمل أنه سيخبره شيئا عن العلم. فقال: «إن كلامي يتعلق بملك إنكلترا فلا يحسن أن يسمعه أحد غيره.» فالتفت الملك إلى نفيل وده فو وقال لهما: «اخرجا قليلا لنسمع ما يقول.» فخرج نفيل، وأما ده فو فقال: «أنا لا أخرج ولا أتركك مع هذا الاسكتسي الخائن.» فصرخ الملك قائلا: «أتخاف علينا يا ده فو من رجل واحد؟!» فقال ده فو: «لا تصرخ ولا تغتظ يا مولاي؛ فإني لا أترك رجلا مريضا عاريا مع رجل قوي مدجج بالسلاح.» فالتفت إليه السر وليم وقال: «لا بأس ببقائك هنا أيها البارون؛ فإنك رجل صادق أمين.» فقال له ده فو: «كان يمكنني أن أقول ذلك فيك قبل الآن بهنيهة من الزمان.» فلم يلتفت إليه السر وليم، بل التفت إلى الملك وقال له: «إن الملأ يأتمرون عليك أيها الملك وفي نيتهم أن ...»
ثم تلعثم لسانه فبلع ريقه وقال بصوت منخفض: «إن الأميرة جوليا ...» فصرخ الملك قائلا: «ما علاقة الأميرة جوليا بما نحن فيه؟!» فقال الفارس: «إن حلفاءك عازمون أن يشتروا هذا الصلح بخرق ناموس ملوك إنكلترا وتزويج الأميرة جوليا للسلطان صلاح الدين.»
وكان الملك ريكارد من الناس الذين ينظرون إلى من قال لا إلى ما قيل؛ فلا يعبد الله إذا أمره بذلك الشيطان، ولا يعد النصيحة نصيحة إذا سمعها من شخص لا ينظر منه النصح، فلما سمع اسم نسيبته من فم هذا الفارس وكان قد عرف طموح نفسه إليها وهو في مقدمة الفرسان، واستكبر ذلك منه ووجد عليه؛ حسب أن ذكره لها الآن ذنب لا يغتفر، وكان يتميز غيظا فقال له: «اخرس أيها اللعين، فوالله لأنزعن لسانك من فمك على ذكر هذا الاسم. واعلم أيها الخائن أنني رأيت طموح أبصارك ولم أعاملك على حسب ما تستحقه وقاحتك؛ لأنك خدعتنا يا معدن الخداع بأنك من قوم لهم حسب ونسب. والآن تجسر أن تتلفظ باسم ابنة عمنا بهاتين الشفتين المدنستين بذكر خيانتك! فماذا يعنيك إذا تزوجت بواحد من النصارى أو من المسلمين؟! ماذا يعنيك إذا صاهرت الأمانة والبسالة في شخص صلاح الدين وأنا بين قوم ملوكهم أرانب في النهار وثعالب في الليل وفرسانهم اتخذوا الخيانة مذهبا؟!»
فقال السر وليم: «لا يعنيني شيئا وقد دنا الأجل المحتوم، ولكن لو كنت الآن راكعا على النطع ما تأخرت عن إطلاعك على هذا الأمر الذي يمس شرفك وشرف الأميرة جوليا.»
فرفع الملك الفأس بيديه وصرخ قائلا: «لا تذكر اسمها بفمك.» فقال السر وليم: «أتمنعني من ذكر اسمها؟! لا وحق من بيده نفسي ، لأذكرن اسمها حتى آخر نسمة من حياتي، هاك رأسي فجرب به قوتك وانظر إن كنت تقدر أن تمنعني من ذكر اسمها.» وقبل أن يتم كلامه دنا البارون ده فو من الملك وقال: «قد حضرت الملكة وتريد المثول بين يديك.» فقال الملك لنفيل: «قل لها أن تنتظر قليلا.» ثم قال: «امض بهذا الخائن يا ده فو واخرج به من الباب الخلفي وكبله بالحديد تكبيلا، وأنت المطالب به فلا بد من قتله حالا، ولكن جئه بأحد القسوس قبل قتله؛ لأننا لا نريد أن نقتل جسده ونفسه، ولا تعره من علامات الشرف بل اقتله كما يقتل الفرسان؛ لأنه مهما كان ذنبه فجرأته هذه تشفع به.»
ففرح ده فو لأن الملك لم يتنازل إلى قتله بيده فمضى به سريعا، وأمر بعض الشرطة فنزعوا سلاحه وكبلوه بالحديد ثم قال له: «قد سمح الملك أن يقطع رأسك قطعا بالسيف بدون تعذيبك.» فقال الفارس: «أشكر فضله فإن هذا يخفف المصيبة على والدي.» ثم قال: «يا أبي. يا أبي.» فحزن البارون من هذا الكلام رغما عن قساوة طبعه وقال له: «قد سمح الملك أيضا أن ترى أحد القسوس قبل موتك، وأنا قد رأيت هنا أحد الرهبان الكرمليين وهو في انتظارك.» فقال: «علي به حالا؛ لأنني قد ودعت الحياة الدنيا وأنا الآن في انتظار الأخرى.» فقال البارون: «قد أمر الملك أيضا أن تستعد للموت حالا.» فقال الفارس: «ليكن ما أمر، أما أنا فلا أسترحم أحدا من البشر ولا أطلب تأخير الحكم.»
وحينئذ هم البارون بالخروج، ولما بلغ باب الخيمة التفت إلى السر وليم فرآه شاخصا نحو السماء، ولم يكن هذا البارون من الذين تؤثر فيهم المناظر المحزنة، ولكنه تأثر من رؤيته فعاد إليه وقبض على يده والقيد فيها وقال له: «إنك لم تزل في عنفوان الشباب، ولم يزل أبوك حيا، وأنا تركت ابني في بلادي وكنت أمس أود أن يشب فارسا مثلك. أفلا يمكن أن أفعل شيئا من أجلك؟» فقال الفارس: «كلا، لأنني أهملت واجباتي ولا أنتظر الآن إلا السياف.» فقال البارون: «ليتني حرست العلم بنفسي، ولكن ما هذا السر الخفي؟! فما أنت بجبان؛ لأنني لم أر أحدا يحمل حملاتك في حومة القتال. وما أنت بخائن؛ لأن الخائن لا يقابل الموت بهذه السكينة! فلا بد من أنك أغريت إغراء بصوت فتاة مستغيثة أو حبيبة عشيقة.
لا تخف ما فعلت بك الأشواق
واشرح هواك فكلنا عشاق
وكلنا سرنا في هذه الطريق قبلك، فأخبرني بجلية الأمر ولا تقنط من العفو؛ لأن الملك سريع الغضب قريب الرضى، أفلا تخبرني شيئا؟» فأدار الفارس وجهه عنه وقال: «كلا.» فقام ده فو وخرج وكأنه اغتاظ من نفسه لما بدا منه دلائل الشفقة.
الفصل السادس عشر
لم يكن بين نساء العصر أجمل من برنغاريا ابنة ملك نافار وزوجة الملك ريكارد قلب الأسد، فكانت ممشوقة القد مهضومة الكشح، بيضاء الوجه حمراء الوجنتين كما قيل:
منعمة الأطراف خود كأنها
هلال على غصن من البان مائد
حوى كل حسن في الكواعب شخصها
فليس بها إلا عيوب الحواسد
ولما اقترن بها قلب الأسد كان لها من العمر إحدى وعشرون سنة، ولكن الذي يراها يظنها في الخامسة عشرة لكثرة غنجها ودلالها وولعها بالزهو والزينة، وكانت تحب زوجها حبا شديدا وتعجب ببسالته، ولكنها تخاف بطشه وتهاب صولته. وكان هو كلفا بها ومعجبا بجمالها، ولكنه كان يفضل الحديث مع الأميرة جوليا على الحديث معها؛ لأن الأميرة جوليا كانت أعقل منها وأحكم. وما كان ذلك ليضرم نار الغيرة في قلبها لأنها كانت حميدة الأخلاق نبيلة الطباع، وأما جواريها فكن ينتهزن الفرص ليجدن سبيلا ينتقدن به أعمال الأميرة جوليا أخذا بثأر سيدتهن. ومع كل حرصهن لم يقدرن أن يعبنها في شيء إلا في عدم اهتمامها الزائد بحللها وحلاها، وكن قد لاحظن ميل الفارس الاسكتسي إليها ولم يغضضن عن ذلك طرفا بل كن يذكرنه في معارض الهزل.
ولما ذهبت الملكة وجواريها لزيارة دير الراهبات الكرمليات في عين جدي بإيعاز رئيس أساقفة صور، ذهبت الأميرة جوليا معها ونزلتا معا لزيارة الكنيسة الصغيرة التي رآهن فيها السر وليم على ما تقدم. وكانت هذه الكنيسة متصلة بدير الكرمليات من جهة وبغار الناسك من أخرى. واتفق أن الملكة وجواريها نزلن إلى هذه الكنيسة لما كان السر وليم فيها وهن لا يعلمن شيئا من أمره ولا هو من أمرهن، فرأته الأميرة جوليا وعرفته ورمت له الوردتين، ورأت ذلك إحدى الجواري وأخبرت به مولاتها، فبعثت إليه بالقزمين المتقدم ذكرهما لتخويفه، وكانت ملكة القدس قد أهدتهما لها. فسمع الناسك صوتهما وانتهرهما على ما تقدم. ثم عادت الملكة من زيارتها وبلغها ما حدث في المحلة، وأن السر وليم هو الموكل بحراسة العلم، فبعثت إليه بهذا القزم نكتبانس وأعطته خاتم الأميرة جوليا لإغرائه ولم يكن غرضها سوى الضحك والمزاح، فكان من الأمر ما كان.
ولما خرج السر وليم من الخيمة على ما تقدم عادت الملكة إلى ما كانت عليه من الهزل، فرجعت الأميرة جوليا إلى خيمتها وبها من الاضطراب وصغر النفس ما لا يوصف، فلم تصدق أن طلع الفجر حتى أرسلت إحدى جواريها لترى ما جرى بالعلم، فعادت وأخبرتها أنها لم تر علما ولا فارسا. فهرعت إلى خيمة الملكة وجعلت تتضرع إليها لتبادر إلى خيمة زوجها وتبذل جهدها في منع نتيجة هزلها. فخافت الملكة من ذلك وجعلت تلوم جواريها على جاري عادتها، وحاولت أن تسكن روع الأميرة جوليا، وكانت تقول لها: «أظن أن الفارس نائم الآن بعد سهر الليل، أو أنه خاف من غضب الملك فهرب بالعلم، أو أن الملك غضب عليه وسجنه، وبعد قليل يسكن غضبه فأمضي إليه وأستعطفه.» وكانت الأميرة جوليا تبين لها فساد هذه الأقوال وعاقبة التهامل. وفيما هي تلح عليها لتذهب دخلت إحدى الجواري وعلامات الخوف الشديد على وجهها، فلما رأتها الأميرة جوليا غابت عن الصواب وصرخت قائلة: «بالله عليك أيتها الملكة أسرعي حالا، ونجي هذا الفارس من الموت إذا كان باقيا في قيد الحياة.» فقالت الجارية: «إنه لم يزل حيا ولكن سيقضى عليه حالا، وهذا هو أمر الملك.» قالت ذلك وخنقتها العبرات فجعلت تبكي وتتحسر.
فصرخت الملكة بالويل والحرب وجعلت تنذر النذور للقديسين والأولياء وقالت: «علي برئيس الأساقفة ليمضي ويتشفع به عند الملك.» وكانت الأميرة جوليا تتضرع إليها لتذهب بنفسها إلى الملك، ووافقها الجواري على ذلك. ولما لم تر لها من الذهاب مناصا أمرتهن أن يلبسنها ثيابها، فألبسنها ثوبا أخضر فلما رأت نفسها في المرآة انتهرتهن وقالت: «أتلبسنني هذا الثوب الذي يكرهه الملك؟! ألبسنني الثوب الأزرق وضعن عقد الياقوت في عنقي.» ففرغ صبر الأميرة جوليا فصرخت قائلة: «أتفكرين بهذه الأمور والفارس تحت سيف الجلاد؟! أنا أمضي إلى الملك بنفسي، أنا أمضي لأرى هل يجوز في شرعه أن يتخذ اسم نسيبته للهزء والازدراء ويجعل وسيلة لقتل هذا الفارس والتحافه بالعار والاحتقار، وجعل شرف إنكلترا أضحوكة عند الكبار والصغار؟!» قالت ذلك، وخرجت من الخيمة، فنادت الملكة: «أوقفنها أوقفنها.» فركض الجواري وراءها وأوقفنها. فقالت لها الملكة: «أنا أذهب وأفعل لك كل ما تريدين.» ثم سارت هي وجواريها والأميرة جوليا معها، وسار حولهن فرقة من الحرس الملكي وأسرعن السير على قدر طاقتهن.
الفصل السابع عشر
وللمرء أيام تمر وقد دعت
حبال المنايا للفتى كل مرصد
فمن لم يمت في اليوم لا بد أنه
سيعلقه حبل المنية في غد
لم تصل الملكة برنغاريا إلى خيمة زوجها حتى سمعته يقول لأرل نفيل: «قل لها أن تنتظر قليلا.» فالتفتت إلى الأميرة جوليا وقالت لها: «اسمعي، ألم أقل لك إن الملك لا يرحب بنا الآن؟!» وحينئذ سمعن الملك يقول لواحد: «اذهب حالا ولك عشرة دنانير إذا قطعت رأسه بضربة واحدة، ولكن راقب وجهه وشفتيه لترى هل يصفر وجهه أو ترتجف شفتاه، فإنني أحب أن أعرف كيف يموت الأبطال.» فلما سمعت الأميرة جوليا هذا الكلام قالت للملكة: «إذا كنت لا تقدرين أن تدخلي من نفسك فأنا أفتح لك الباب، وإن لم تدخلي أنت فأنا أدخل.» ثم نادت رئيس الحرس وقالت: «إن الملكة تريد أن تدخل وترى زوجها.» فأحنى لها الرئيس رأسه وقال: «يا مولاتي، يصعب علي أن أخالف أمرك ولكن الملك مشغول بأمر فيه موت وحياة.» فقالت الأميرة: «ونحن أتينا لنتكلم معه في هذا الأمر عينه.» ثم أبعدت رئيس الحرس بيمينها ورفعت سجف الخيمة بيسارها وأومأت إلى الملكة لتدخل. فوقف الرئيس حيران لا يدري ماذا يفعل، وكان الملك مضطجعا في سريره. وأمامه السياف وهو قصير القامة غليظ الرقبة مكشوف الذراعين عليه ثوب من جلود الثيران ملطخ بالدماء، وبيده سيف طويل يلوح الموت من نصله. فلما دخلت الملكة رآها الملك فأدار وجهه عنها مغتاظا، ورفع الدثار حتى غطى كتفيه، وكان من جلود الأسود. فاضطربت في أمرها ولكن لم يخف عليها كيف تسترضي زوجها، وهل يخفى ذلك على امرأة؟! فأسرعت إلى جانب سريره وانطرحت على ركبتيها ورمت الوشاح على كتفيها، فبانت غدائرها الذهبية حول وجه كالبدر، وقبضت على يده بكلتي يديها وأحنت رأسها عليها، وجعلت تقبلها وتسكب عليها العبرات.
فحلت الشمس برج الليث ساجدة
وزحزحت شفقا غطى سنى قمر
وخضبت يده من ورد وجنتها
وأمطرت لؤلؤا من نرجس نضر
فقال لها: «ما معنى هذا العمل يا برنغاريا؟» فقالت: «اصرف هذا الرجل (تريد به السياف) من هنا؛ لأنني ارتعبت من منظره.» فقال له الملك: «ما يوقفك هنا؟! اذهب حالا.» فقال السياف: «ماذا يأمر الملك أن نفعل بالجثة؟» فقال: «ادفنوها دفنا.» فخرج السياف والتفت الملك إلى الملكة وقال لها: «ثم ماذا تطلبين؟» فلم تفه بكلمة.
وكان الملك ريكارد من المشهورين بحب الجمال المستعبدين لرباته، فنظر إلى زوجته فرأى وجه ملاك منطرحا على يده، فرق لها قلبه، وأي رجل يرى وجها جميلا كوجه برنغاريا منطرحا على يده يمزج القبلات بالدموع ولا يرق له ولا ينعطف إليه؟! فقبلها في جبينها، وقال لها: «ماذا تطلبين يا مالكة فؤادي؟» فأجابته: «إني أطلب العفو يا مولاي.» فقال: «عمن تطلبين العفو؟» فقالت: «أولا عن تجاسري على الدخول بدون أمرك.» فقال: «أتعدين دخولك تجاسرا؟! أويحق للشمس أن تطلب العفو إذا دخلت أشعتها منازل الناس؟! ولكن لم يكن المحضر مناسبا لحضورك فيه، ولا كنت أريد أن تخاطري بحياتك وتدخلي خيمتي وأنا مريض.» فقالت: «أراك قد شفيت من كرم المولى.» فقال: «نعم ، قد شفيت وصرت قادرا أن أخطف روح كل من لا يقول إنك أجمل امرأة في الدنيا.» فقالت: «إذن لا تبخل علي بحياة شخص واحد.» فعبس قليلا ثم قال: «حياة من؟» فقالت: «حياة هذا الفارس الاسكتسي التعيس.» فقال لها: «إليك عنه يا امرأة، فلا بد من قتله الآن.» فقالت: «سيدي وحبيبي، إن هي إلا قطعة من الحرير فأنا أنسج لك واحدة غيرها بيدي وأرصعها بكل جوهرة من جواهري وأغسلها بدموع الشكر لكرمك.» فأوقفها عن الكلام وقال لها: «إنك لا تعلمين ما تقولين، فإن كل جواهرك وكل جواهر المشرق لا تقابل ذرة من العار الذي لحق بشرف إنكلترا، وكل دموع النساء لا تغسل العار الذي لحق بشرف زوجك، فاذهبي واعرفي قدر نفسك؛ فإننا نقضي الآن أعمالا واجبة لا دخل للنساء فيها.» فقالت: «أسمعت يا جوليا؟! ألم أقل لك إننا نهيج غضبه؟»
فتقدمت الأميرة جوليا وقالت: «أنا نسيبتك أيها الملك، أتوسل إليك أن تصغي إلى صوت العدل، لا إلى صوت الرحمة، وصوت العدل تسمعه آذان الملوك في كل زمان ومكان.»
فقام الملك وجلس في سريره وهو يقول: «إن ابنة عمنا تتكلم كما يليق ببنات الملوك، وكما يليق بالملوك نجيبها.» وكان في منظر الأميرة جوليا من الهيبة والجلال ما يدهش كل من ينظر إليها، ولو كان ريكارد قلب الأسد. قال ذلك وتوقف عن الكلام رغما عنه. فقالت: «مولاي، إن هذا الفارس الذي أنت عازم أن تسفك دمه قد حارب حرب الأبطال في هذا الجهاد، ولم يتغاض عن واجباته إلا لأن شركا قويا نصب له ورسالة مزورة أرسلت إليه باسم فتاة - ولماذا أخفى اسمها؟! - باسمي أنا، وأي فارس من فرساننا لا يفعل ما فعل من أجل فتاة في عروقها دم بلنتجنت،
1
وإن لم يكن فيها شيء تفتخر به غير ذلك؟!»
فعض الملك شفتيه من شدة الغيظ وقال: «أورأيته يا جوليا؟» فقالت: «نعم رأيته، ولم آت إلى هنا لأبرر نفسي ولا لأستذنب غيري.» فقال: «وأين رأيته؟» فقالت: «في خيمة جلالة الملكة.»
فصرخ الملك قائلا: «في خيمة الملكة؟! يا للوقاحة ويا للعار! إني قد رأيت وقاحة هذا الفارس وطموح أبصاره إلى ما يعلو عنه علوا كبيرا، فغضضت الطرف وقلت هي الشمس فلا نحرمن المخلوقات من نورها. أفتقابلينه في الليل في خيمة الملكة وتتجاسرين أن تقدمي ذلك عذرا له؟! فوتربة أجدادي لأجعلنك تندبين هذا الفعل حياتك كلها في دير من أديرة الراهبات.»
فقالت: «مولاي، يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول. وأنا لم يمس شرفي بشيء، ومولاتي الملكة قادرة أن تثبت ذلك إذا شاءت، ولكنني قد سبقت فقلت إنني لم آت لأبرر نفسي ولا لأستذنب غيري، وإنما أطلب منك أن تعامل هذا الفارس بما ستطلب يوما ما أن تعامل به في محكمة العدل الإلهي.»
فقال الملك: «أهذه جوليا بلنتجنت؟! أهذه جوليا الحكيمة النبيلة أو عشيقة تفتدي عشيقها بحياتها؟!»
فقالت: «أتدعوه عشيقي؟! نعم، يحبني، ولكنه يحبني حب البشر للآلهة ولا يطمع بأكثر. أفيحكم عليه بالموت من أجل ذلك؟! أهكذا يحكم على الأبطال الأمناء؟!» فالتفتت إليها الملكة وتوسلت إليها أن تسكت. فقالت جوليا: «لا أقدر لا أقدر؛ فإن العذراء الطاهرة لا تخاف الأسد الكاسر. لينفذ أمره في هذا الفارس، فجوليا التي يموت ذلك الفارس من أجلها تعرف كيف تبكيه وترثيه. نعم إن اقتراني به لم يكن ممكنا ونحن في قيد الحياة؛ لما بيننا من البعد في المراتب، ولكن الموت يساوي بين الرفيع والوضيع، فاحسبوني من الآن في عداد الأموات.»
وقبل أن تتم كلامها وقبل أن يجيبها الملك بكلمة دخل راهب من الرهبان الكرمليين وانطرح على ركبتيه أمام الملك وهو يطلب منه أن يوقف الحكم. فأقسم الملك بالسيف والصولجان وقال: «قد تآمر الإنس والجان على تسفيه رأيي! فعلام بقي هذا الفارس حيا إلى الآن؟ قل لي ماذا تريد أيها الراهب؟» فقال: «قد باح لي هذا الفارس بسر خفي لا يمكنني أن أبوح به لأنني سمعته منه بالاعتراف، ولكن أقسم لك بأعظم الأقسام إنني لو كاشفتك بهذا السر لاضطررت أن تحجب دمه.»
فقال الملك: «أيها الأب المحترم، أنا أحترم الكنيسة مثلك كما تشهد هذه الأسلحة، فأطلعني على هذا السر وأنا أتبصر في الأمر، وإلا فلا يمكن أن أصرف عن عزمي.» فطرح الراهب الرداء عنه، فظهر من تحته رجل أنهكه الصوم والتقشف، وقال: «قد مضى علي عشرون سنة يا مولاي وأنا أعذب جسدي وأقمعه في مغاير عين جدي من أجل ذنب واحد، فهل أكذب عليك وأهلك نفسي أو أفشي سر الاعتراف وإفشاؤه من الكبائر؟!»
فقال الملك: «أأنت ناسك عين جدي؟ أأنت الرجل الذي بعث إليه مجمع الأمراء بهذا الفارس عن غير علم مني لتخابر صلاح الدين في أمر الصلح؟ ليكن معلوما عندك وعندهم أنني لا أتقيد بقيد الكرمليين، وإن شفاعتك بهذا الفارس تجبرني على التعجيل في سفك دمه.»
فقال الناسك: «احذر أيها الملك فإنك ستضرم نارا تود لو قطعت يدك ولم تضرمها. احذر أيها الرجل العنيد.»
فصرخ الملك قائلا: «أتشرق الشمس ولا يقتل من أهين بسببه شرف إنكلترا؟! ليخرج كل أحد من هنا وإلا فوحق ...» ولم يتم كلامه حتى سمع واحدا يقول: «قال كتابكم لا تحلفوا البتة.» وإذا بالحكيم قد دخل الخيمة وسلم وجلس أمام الملك، فقال له الملك: «أظنك جئت لترى بما نكافئك.»
فقال الحكيم: «قد جئت لأكلمك في أمر ذي بال.» فقال الملك: «هذه هي الملكة فانظر إليها لترى من شفى زوجها.» فقال الحكيم: «لا يليق بنا معاشر المشارقة أن ننظر إلى الحصينات.» فقال الملك: «لتنصرف الملكة إذن، ولتنصرف ابنة عمنا أيضا، وأنا قد أمرت أن يؤخر الحكم إلى الظهر.» فخرجت الملكة والأميرة والجواري كأنهن مسوقات سوقا وأتين إلى خيمة الملكة، وكانت أشدهن جزعا وأكثرهن بكاء، وأما الأميرة جوليا فلم تسكب دمعة ولم تفه بكلمة. فقالت إحدى الجواري للأخرى: «قد ظلمناها بقولنا إنها تحبه، فليس في الأمر أكثر من أنها اغتاظت لأن هذه المصيبة أصابته بسببها.» فقالت لها الأخرى: «اسكتي فإنها من آل بلنتجنت الأنوفين الذين يتجرعون الموت ولا يشكون ضيما، ولكن الويل لنا فإننا قد أضرمنا هذه النار بقلة عقلنا.»
الفصل الثامن عشر
أين الرواية بل أين النجوم وما
صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
تخرصا وأحاديثا ملفقة
ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
لما خرجت الملكة وجواريها من خيمة الملك تبعهن الناسك كما يتبع الظل الشمس، والتفت إلى الملك قبل أن يخرج من باب الخيمة وقال له: «ويل لمن يرفض مشورة الكنيسة ليصغي إلى مشورة أعدائه! فسوف تجني ما جنت يدك.»
فقال الملك: «ليكن كما قلت.» ثم التفت إلى الحكيم وقال له: «أيتجاسر الدراويش على ملوككم كما يتجاسر هؤلاء النساك علينا؟» فقال الحكيم: «الدراويش إما عقلاء وإما مجانين؛ فالعقلاء يعرفون قدر الملوك، والمجانين لا عتب عليهم ولا ملام.» فقال الملك: «أظن أن صاحبنا من النوع الأخير، ولكن ما لنا وله، هات قل لي ما هي طلبتك؟» فقال الحكيم: «ألا تذكر أني نجيت نفسك من الموت؟» فقال: «وأظنك أتيت لتطلب نجاة نفس بنفس.» فقال: «نعم، أتيت لأطلب حجب دم هذا الفارس الذي لم يغو إلا كما أغوي جدنا آدم عليه السلام.» فقال الملك: «أولا تذكر أن آدم مات من أجل غوايته؟» قال ذلك وهو عابس، ثم أظهر البشاشة وقال: «يا للعجب! ماذا جرى حتى اتفقت قوات الأرض وجاءتني تباعا تطلب نجاة هذا الفارس؟!» ثم ضحك حتى استلقى على ظهره وكانت سورة الغيظ قد ابتدأت تنكسر من نفسه. فقال للحكيم: «إني أهبك مهما شئت من الهبات، وأما هذا الرجل فقد حكم عليه بالموت ولن يرد الحكم.» فقال الحكيم: «ليس لي بالهبات من أرب، ولا غرض لي إلا بهذا الفارس.» فقال الملك: «وما غرضك به؟» فقال: «إن الدواء الذي شفاك هو طلسم نطبخه بالصوم ومراقبة الكواكب، ولا بد من أن نشفي به اثني عشر شخصا على الأقل كل شهر، وإلا زالت منه قوة الشفاء وتعرض الطبيب والمريض الأخير الذي داواه به للموت في مدة سنة، وأنا قد شفيت به أحد عشر شخصا هذا الشهر ونجيتهم من الموت، ولا بد لي من نجاة الشخص الثاني عشر وإلا بطل فعله وتعرضت أنا وأنت للموت في سنة من الزمان.»
فقال الملك: «اخرج إلى المعسكر تر مئات من المرضى فاشف من شئت منهم. ومع هذا فلا أرى كيف أن نجاة إنسان من القتل تعد شفاء وتكمل قصتك الملفقة.» فقال: «أتعلم كيف أن جرعة من الماء البارد شفتك من الحمى المحرقة؟ فإن كنت لا تعلم ذلك فلا تنف أمورا لا تعلمها ولا تفهمها ولا تعرض حياتك وحياتي للخطر.» فأجابه الملك قائلا: «لك أن تراقب النجوم والأفلاك وتلبس أقوالك بما شئت من التوريات والاستعارات، أما أنا فلا أخاف من النجوم ولا أرهب من الطلاسم.
والعلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهب
كما قال شاعركم.» فقال الحكيم: «إني لأعجب أيها الملك كيف تنكر فعل هذا الطلسم؟! بل كيف تضن به على المرضى والمشرفين على الموت؟! أويصدق أن الملك الذي يذبح الناس بالألوف لا يستطيع أن يحجب دم إنسان واحد؟! فكأن الله خلقك نقمة للعباد لا رحمة لهم!
فاغتاظ الملك من هذا الخطاب وقال للحكيم: «إنا اتخذناك طبيبا لنا لا مشيرا علينا، فلا تتعرض لما لا يعنيك.» فرفع الحكيم صوته وقال: «أبهذا الجزاء يجازي ملوك الإفرنج من ينجي حياتهم من الموت؟!» فاعلم أيها الملك أنني سأذيع اسمك في المشرق والمغرب، في قصور الملوك وأكواخ الصعاليك وكل مكان يتغنى فيه الناس بمدح الأبطال والأقيال، وأبين لأهل الخافقين إنكارك للجميل ومجازاتك الإحسان بالسيئات.»
فلما سمع الملك ريكارد هذا الخطاب طار عقله وقال له: «ألي تقول هذا الكلام؟!» وقام إليه وهم بضربه. فقال له الحكيم: «اضرب لكي يتزكى وصفي لك بفعلك القبيح.» فأطرق الملك وجعل يتمشى في خيمته ذهابا وإيابا وهو يتنفس الصعداء ثم التفت إلى الحكيم وقال له: «قد اخترت جزاءك، فاذهب وخذ هذا الاسكتسي فقد وهبتك إياه، وليتك طلبت تاجي ولم تطلبه.» ثم أخذ قلما وقرطاسا وكتب سطرين وسلمهما له وقال: «خذه وليكن عبدا لك، ولكن إياك وأن يرى وجهي.» فقال الحكيم: «سمعا وطاعة.» وهم بالخروج فقال له الملك: «هل لك حاجة أخرى فنقضيها؟» فقال: «أطال الله عمر الملك، فقد وفاني وأوفى.» ثم خرج فنظر إليه الملك وهو خارج وقال: «كيف نجا هذا الفارس من العقاب الذي استحقه؟ ولكن لا ندامة في ذلك لأنه شجاع.» ثم نادى البارون ده فو، فدخل ودخل معه الناسك المتقدم ذكره، فالتفت الملك إلى البارون وقال له: «اذهب حالا إلى خيمة هذا الذي يسمونه دوق النمسا، وادخل عليه وهو في بلاطه وبين بطانته وأظهر له ما شئت من الازدراء، وقل له إنه هو سرق العلم بيده أو بأمره، وعليه أن يرده إلى مكانه في ساعة من الزمان ويكون حاضرا وقت نصبه هو وكل خواصه، مكشوفي الرءوس وليس عليهم شيء من حلل الشرف، وعليه أن يركز على الجانب الواحد من العلم علم النمسا منكوسا مهانا، وعلى الجانب الآخر رمحا عليه رأس المشير الأقرب إليه أو الذي ساعده في هذه الفعلة الشنعاء، وقل له إنه إذا فعل كل ذلك ولم يخل بشيء منه قط سامحناه عما بقي من ذنوبه.»
فقال البارون ده فو: «وماذا أفعل إذا أنكر الدوق أنه سرق العلم أو أنه يعلم من سرقه؟» فأجابه الملك: «قل له إننا نثبت ذلك في ميدان النزال ونفوض إليه أن يختار المكان والزمان والأسلحة.» ولكن قبل أن يخرج ده فو اعترضه الناسك وقال: «إنني باسم الله تعالى وباسم الحبر الأقدس رئيس الكنيسة على الأرض أحرم هذا العمل ولا أجيز لأميرين من أمراء النصارى قد تعاهدا على المحبة والإخاء أن يتقاضيا إلى السيف، فارجع أيها الملك عن عزمك، واعلم أن حياتك في خطر، وقد دنا الموت منك، وبعد الموت الدينونة!» فقال له الملك: «أيها الأب المحترم، أنتم معشر خدمة الدين تغتاظون إذا تعدينا على حقوقكم الدينية، فأعطوا ما لقيصر لقيصر ولا تتعدوا على حقوقنا.» فقال الناسك: «من أنا حتى أتعدى على حقوق الملوك؟! ولكنني أتوسل إليك على ركبتي أن ترحم بلادك وترحم النصرانية كلها.» قال ذلك وركع أمامه على ركبتيه، فأنهضه الملك بيديه وقال له: «لا يليق أن تركع أمام المخلوق بهاتين الركبتين اللتين تركع بهما أمام الخالق، ومن هو هذا الدوق حتى أخاف على بلادي من أجله؟!» فقال الناسك: «نظرت في أبراج السماء ورقبت مطالع الكواكب، فعلمت منها أن منيتك قد حانت، وأن العدو ظمآن لشرب دمك!»
فتأفف الملك من هذا الكلام، وقال: ««تخرصا وأحاديثا ملفقة» وخرافات يعتقد بها عبدة الأصنام، وما عهدي بالنصارى يرعونها سمعا، فما أظنك إلا مهولا.» فقال الناسك: «ما أنا من أهل التهويل، وقد أبقى لي الله عقلا لأخدم به هذا الجهاد، فاسألني عن أمره ترني من أحكم الحكماء، واسألني عن غيره ترني كأحد المجانين.»
فتأمل الملك في الأمر قليلا، ثم قال: «لا أرب لي بإيقاع الخلاف بين هذه الجنود، ولكن بم يعوضون عما وقع بي من الإهانة؟» فأجابه الناسك قائلا: «هذا الذي أتيت لأجله مرسلا من مجمع الأمراء الذي التأم الآن بأمر ملك فرنسا، فقد اتفقت آراؤهم على رد علم إنكلترا إلى الأكمة التي كان عليها، وعقاب كل من اشترك في سرقته وإطعام لحمه لغربان السماء ووحوش البرية.»
فقال الملك: «وماذا يفعلون بدوق النمسا وهو المتهم بهذا الفعل؟» فأجاب الناسك: «قد أجمعوا على أن يبرر نفسه بما يرتئيه بطريرك أورشليم.» فتهلل وجه ريكارد وقال: «هذا حسبي أيها الأب المحترم.» ثم جعل يتهكم على الدوق فانتهره الناسك، وقال له: «لا يليق بالملوك أن يغتاب بعضهم بعضا، وإني لآسف جدا أن سيف النصرانية وعزها المشهود له بالحكمة والدراية، وهو في ساعة الرضى يصير كالأسد الكاسر في ساعة الغيظ، الله يعلم ضعف البشر وهو راض عنك، وقد أجل موتك إلى حين، ولكنك ستموت قتلا وتذهب بلا عقب ولا يندبك أحد من شعبك؛ لأنك أفنيتهم بالحروب ولم تهتم براحتهم ورفاهتهم.»
فقال ريكارد: «ربما أموت بلا عقب، ولكن لا أموت بلا شهرة ولا بلا زوجة تبل تراب قبري بالدموع، وهذا حسبي من الدنيا وبه أمتاز عليك.» فتأوه الناسك وقال: «هل تخفى علي محبة الشهرة ولذة الحب؟! اعلم أيها الملك أني لست دونك حسبا ونسبا؛ فإني أنا ألبرك مرتمار سليل لوزينيان وكدفراي.»
1
فقال ريكارد: «أأنت ألبرك مرتمار الذي ذاعت شهرته في الأقطار، فكيف سقطت من أوج مجدك واحتجبت عن الأبصار؟» فقال الناسك: «أنا هو ذلك الكوكب الساقط، وسأميط لك الستار عن ماضي حياتي، لعلي أنزع منك هذا العتو وأجعلك تتواضع أمام إلهك وكنيستك: إنني كنت شريف النسب قوي الذراع سديد الرأي، وكان أشرف فتيات هذه البلاد وأعلاهن نسبا يتسابقن إلى ضفر أكاليل الفخار لرأسي، ولكنني أحببت فتاة فقيرة لا حسب لها ولا نسب، فلما علم أبوها بذلك لم ير لها ملجأ غير الدير، فربطها بنذور الرهبنة. وكنت غائبا في إحدى الغارات فرجعت ومعي غنائم لا تقدر ولكنني لم أجد حبيبتي حيث تركتها! فخلعت عدة الحرب والجلاد ولبست ثوب الرهبنة، ولم يطل علي الأمر حتى ارتفع مقامي بين الرهبان واشتهرت بالفضائل كما اشتهرت بالبسالة، ثم عينت معرفا لدير من أديرة الراهبات فرأيت حبيبتي بينهن، ووسوس إلي الشيطان فجئت أمرا فريا، فقتلت نفسها لتنجو من العار، فدفنتها في الكهف الذي أنا فيه؛ ومن ثم إلى الآن أقمع جسدي وأعذبه، ولم يبق لي الله من العقل إلا ما أميز به تعاستي وشقاء حالي وأحض به المسيحيين على الجهاد، فلا تشفق علي ولا ترث لحالي، بل اتعظ بأمري واعتبر بمثالي، فإنك الآن في أوج المجد، فاطرح عنك كبرياءك وترفك وحبك لسفك الدماء، وإلا هبطت إلى حضيض الذل.»
فاغتاظ ريكارد من هذا الكلام ولكنه تجلد وحوله إلى المزاح، وقال: «قد طرحت كبريائي ووهبتها لرؤساء الكنيسة، وترفي ووهبته لرهبانها، وحبي لسفك الدماء ووهبته للهيكليين.»
فقال الناسك: «إني أطلب من الله أن يفسح لك في الأجل سنة أخرى لترى فساد ظنونك وتتضع أمام كنيسته.» ثم صرخ صرخة شديدة وخرج من الخيمة، وأقام ريكارد بعد خروجه يتأمل في كلامه وفيما أنبأه به من دنو أجله وموته بلا عقب، ثم قال في نفسه: «إن هذا الناسك يراقب النجوم ويعرف حوادث الغيب والاستقبال، فليتني سألته عن سارق العلم لعله يعرف من هو.» وحينئذ دخل البارون ده فو وقال: «إن رئيس أساقفة صور بالباب، وهو يطلب الدخول على الملك ليكلمه في قضية سرية.»
الفصل التاسع عشر
وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظن شرا وكن منها على وجل
وشأن صدقك عند الناس كذبهم
وهل يطابق معوج بمعتدل
إن كان ينجع شيء في ثباتهم
على العهود فسبق السيف للعذل
اختير رئيس أساقفة صور من بين كل الرؤساء للدخول على الملك ريكارد؛ لأنه كان رجلا جليلا مهيبا، والمسألة ذات بال لا يجسر أحد أن يكلم ريكارد فيها غيره. فدخل عليه وأخبره الأخبار التي قطعت آماله من استرجاع بيت المقدس بالسيف، ومما يناله من المجد والشهرة. وبين له أن صلاح الدين جمع جيوشا لا يحصيها العد، وأن ملوك النصارى قد فترت همتهم وضعفت عزيمتهم، وفي مقدمتهم فيليب ملك فرنسا الذي عزم أن يرجع إلى بلاده حالما يرى ملك الإنكليز قد تعافى، واقتدى به أرل شمبانيا ودوق النمسا. فلا يبقى في دار الحرب إلا الملك ريكارد وبعض المتطوعة، ويبقى أيضا مركيز منسرات ورئيس الهيكليين، وكل منهما يؤثر نفسه ويود أن يبقى في البلاد وحده. فاغتاظ ريكارد في أول الأمر على جاري عادته، ولكنه رأى صدق كلام الأسقف وإخلاص نيته، ولم يخف عليه الأسقف أن حدته (أي حدة ريكارد) كانت من أقوى الأسباب لتفريق كلمة الصليبيين. فلما سمع ريكارد هذا الكلام لاحت على وجهه لوائح الكدر وانكساف البال، وقال لرئيس الأساقفة: «إنني لا أنكر أيها الأب المحترم حدة طبعي، ولكن أنحرم من الفوز في هذه الحرب المجيدة من أجل حدة إنسان واحد؟ لا وتربة أجدادي، فلأرفعن الصليب فوق أسوار أورشليم أو ترفعوه على قبري.»
فقال الأسقف: «يمكنك أن ترفعه فوق أسوار أورشليم ولا تسفك نقطة من دمائنا، فإن صلاح الدين قد وعد أن يسلمنا مدن الساحل ويبيح للجميع زيارة بيت المقدس، ويسمح لنا ببناء حصن متين فيه ويلقبك حامية أورشليم.»
فاندهش ريكارد من هذا الكلام وقال: «أيلقبني حامية أورشليم؟! هذا هو الفوز بعينه! ولكن هل تسميه فوزا إذا نلناه مكرهين وكلمتنا متفرقة؟ وهل يبقى صلاح الدين سلطانا على هذه البلاد؟» فقال الأسقف: «نعم، يبقى قسيما لك في السلطنة إذا شئت أن تصاهره .» فقال ريكارد: «بمن أصاهره؟ أأصاهره بجوليا بلنتجنت؟! أرأيت ذلك في حلم أم أخبرني به أحد؟» فقال الأسقف: «أظن أن الناسك أخبرك به؛ لأنه لما رأى تفرق كلمتنا حاول بكل جهده أن يصالحنا مع صلاح الدين ويجعل شروط الصلح مناسبة لنا.»
فقال ريكارد: «أيحل لنا أن نزوج نسيبتنا برجل من غير ملتنا؟» فقال الأسقف: «لا يكون ذلك إلا بسماح من الحبر الأعظم.» ثم أخذ يخبره عن مصاهرة النصارى والمسلمين في بلاد الأندلس، وعن الفوائد الجمة التي تصدر عن هذه المصاهرة، وجعل يطنب في مدح صلاح الدين، فقال ريكارد: «لو تكلم أحد قبل الآن بهذا الكلام لقطعت رأسه في الحال، أما الآن فلا أرى سببا لامتناعي عن مصاهرة ملك عادل شجاع كريم، يكرم عدوه إذا كان باسلا كما يكرم صديقه، على حين أرى رؤساء النصارى يلتمسون الأسباب لهجر حلفائهم، فاسمح لي أيها الأب المحترم أن أحاول مرة أخرى لم شعث هؤلاء الرؤساء وجمع كلمتهم، فإن نجحت نجحت، وإلا عدنا إلى هذا الحديث، فإنني لا أحب هذه المصاهرة ولا أكرهها. والآن هيا بنا إلى مجمع الأمراء فترى اتضاع ريكارد ولين جانبه.» قال ذلك ونادى خدمه ليعينوه على لبس ثيابه، ثم مضى مع رئيس الأساقفة إلى نادي الأمراء فوجدهم مجتمعين ومنتظرين قدومه، وكانوا قد اغتنموا فرصة غيابه ونددوا بعيوبه كلها وبالغوا فيها ما أمكنهم، واتفقوا على أن لا يحتفلوا به ولا يقوموا له، ولكن لم تطأ رجله باب الخيمة التي كانوا مجتمعين فيها، حتى نهض ملك فرنسا ودوق النمسا إجلالا له، ونهض معهم جميع الحضور وصرخوا: «ليحي ملك إنكلترا، ليحي قلب الأسد.» فتهلل وجهه وحياهم بالسلام، وقال: «أيها الأمراء والرؤساء، أتوسل إليكم أن تسمحوا لي ببضع دقائق أكلمكم فيها بما يخص شخصي الحقير.» ولما قال ذلك سكت الجميع سكوتا تاما فقال: «أيها الأمراء والرؤساء الكرام، أنتم تعلمون أن ريكارد الواقف أمامكم رجل حرب حاد الطباع، يده تسبق لسانه، ولسانه لا يعرف التبجيل، فلا تبطلوا هذا الجهاد المجيد بسبب ما ترونه منه من الخفة والنزق ، ولا تتركوا هذا الشرف الأثيل بسبب ما ترونه فيه من الخطأ وحدة الطباع، وإن كنت قد أسأت إلى أحد منكم فأطلب منه المعذرة والصفح. هل أسأت إليك أيها الملك فيليب؟» قال ذلك ومد يده لملك فرنسا فأجابه: «كلا أيها الأخ، فأنا لم أعزم أن أترك هذا الجهاد إلا لأن أحوال مملكتي تضطرني إلى ذلك.» ثم مد له يده وتصافحا. فتقدم ريكارد نحو دوق النمسا، وقال: «أنت حاقد علي أيها الدوق وأنا حاقد عليك، فلنرفع الأحقاد من بيننا ونتصالح ونتصاف، ونكن يدا واحدة في هذا الجهاد المجيد، وإن كنت قد أخذت علمي فرده إلى مكانه وأنا أعتذر إليك عما صدر مني في ساعة غيظي.» فوقف الدوق أمامه صامتا مطرقا إلى الأرض كأنه لا يستطيع الكلام، وحينئذ تقدم رئيس أساقفة أورشليم، وقال: «إن الدوق قد أنكر هذه التهمة بأعظم الأقسام.» فقال ريكارد: «إذن قد أخطأنا باتهامه ولذلك نلتمس منه الصفح.» قال ذلك ومد له يده لكي يصافحه، فلم يمد الدوق يده! فقال ريكارد: «أيبخل علينا الدوق بالمصافحة في هذا النادي كما بخل علينا بالمناجزة في ميدان النزال؟ ولكننا نغض الطرف عن ذلك ونعد هذه الإهانة جزاء لما بدا منا في حقه ونحن في حدة الغيظ.» ثم حول وجهه عنه والتفت إلى باقي الحضور، ونادى أرل شمبانيا ومركيز منسرات ورئيس الهيكليين، وقال: «هل أسأت إليكم بشيء فأكفر عن ذنبي؟»
فقام مركيز منسرات وقال: «دعواي عليك أنك تحرمنا نحن إخوانك كل ما نستحق من الشهرة.» ثم وقف رئيس الهيكليين وقال: «إن دعواي أعظم من دعوى مركيز منسرات، وقد تقولون إنه لا يليق بي أن أتقدم غيري في هذا المحفل الحافل بالأمراء والرؤساء وأبين ما لنا من الشكاوى على هذا الملك، ولكن قد اشتدت الأزمة فيجب أن نبين له في حضرته ما نقوله في غيبته؛ إننا نعجب ببسالة ملك إنكلترا ونباهي بها، ولكننا نستاء جدا حينما نراه يغتنم كل فرصة لإظهار سيادته علينا كأننا من بعض أتباعه، فنحن من تلقاء أنفسنا نقر له بالبسالة والغيرة والثروة والقوة ونخضع له في أمور كثيرة، ولكنه إذا اضطرنا إلى ذلك اضطرارا انحططنا في عيون رجالنا من رتبة المحالفين لهذا الملك إلى رتبة التابعين الخاضعين له، وزالت سلطتنا عنهم وثلت عروشنا. وقد طلب منا أن نصدقه الخبر، فلا أظنه يستاء إذا قام واحد مثلي قد ترك أمجاد الدنيا وكل سلطة زمنية، إلا فيما يعود إلى رفع شأن هيكل الله وأجابه إلى ما طلب، لا سيما وأن ما تكلمت به يصدق له كل أحد من هؤلاء الحضور.»
فثار الدم إلى رأس الملك ريكارد حينما سمع الرئيس يتكلم بهذا الكلام، فاحمرت وجنتاه وتقطب حاجباه وتطاير الشرر من عينيه، ولا سيما حينما رأى الجميع يظهرون علامات الاستحسان، فقال في نفسه: «إذا أجبته جواب الغيظ والانتقام كما يستحق خطابه أنلته مبتغاه فأثبت علي دعواه.» فتربص قليلا حتى هدأ روعه ثم رفع يده وقال: «أحقيق أن إخواننا مغتاظون منا لأجل ما يرونه فينا من حدة الطبع، ومؤاخذونا بهفواتنا التي تصدر منا، إما لشدة غيرتنا وإما لخشونة طباعنا؟ فلم يخطر على بالي أن هذه الهفوات التي تصدر مني عن غير قصد رديء تقع هذا الموقع في عيون حلفائي، فيرتدون عن هذا الجهاد المجيد بسببي ويرجعون عن أورشليم بعد أن فتحت سيوفهم الطريق إليها، بل كنت واثقا أن حسناتي تزيد على سيئاتي لأني إن كنت أول من يخرج إلى القتال فأنا آخر من يرجع عنه، وإن كنت أهتم برفع علمي على الأماكن التي نتغلب عليها فأنا أترك الغنائم كلها لغيري، وإن كنت أتشبث برأيي في إجراء أمر من الأمور، فأنا أول من يجريه بدمه ودم رجاله، وإن كنت آمر جنود غيري عند الضرورة كما آمر جنودي، فأنا أعاملهم كما أعامل جنودي حينما أقسم عليهم الأطعمة والأدوية التي لا يقدر رؤساؤهم أن يبتاعوها لهم، وإني لأخجل من تذكيركم بهذه الأمور، ولكن الشيء بالشيء يذكر فلننس الماضي ونهتم بالاستقبال، فسأردع نفسي وأخمد عنفواني حتى لا أكون عثرة في هذا الطريق المجيد الذي يجبركم دينكم وشرفكم أن تسيروا فيه ، فخير لي أن أموت موتا من أن تكون هفواتي وسقطاتي سببا لحل هذا الارتباط المجيد وتفريق هؤلاء الأمراء العظام، والله يشهد أني عن طيب نفس أتنازل عن كل حقوقي، بل عن قيادة رجالي ونخضع جميعا لأمر من تعينونه قائدا علينا، وإن كنتم قد مللتم حمل السلاح وسئمت نفوسكم من تواصل الحروب فأبقوا معي عشرة آلاف من جنودكم، ومتى تغلبنا على مدينة صهيون لا نكتب على بابها اسم ريكارد، بل أسماء الأمراء الذين أبقوا جنودهم معه ...»
فلم يتم كلامه حتى دبت الحمية في نفوس الحاضرين وتصوروا الغرض الذي جاءوا لأجله، فصرخوا قائلين: «هيا بنا قلب الأسد لا يقودنا غيرك في هذا الجهاد، هيا بنا إلى أورشليم، هيا بنا إلى أورشليم، هذه هي مشيئة الله.» وامتد النداء إلى الحرس ومنهم إلى الجنود وانتشر في كل المحلة، فلم تكن تسمع إلا كلمة «هيا بنا إلى أورشليم، هذه مشيئة الله.» ولم يعد أحد يتكلم في مجمع الأمراء إلا فيما يتعلق بالحرب والزحف على أورشليم حالما تنتهي الهدنة. والمخالفون لذلك لم يجسروا أن يقولوا الخلاف، ثم انفض المحفل على أن يستعدوا للحرب.
وخرج مركيز منسرات ورئيس الهيكليين ومشيا معا، فقال المركيز: «طالما قلت لك إن أشراكك يقطعها ريكارد كأنها خيوط العنكبوت. انظر كيف ينقاد إليه هؤلاء المجانين ويتقلبون مع الأهواء كأنهم ريشة بمهب الرياح.» فقال المركيز: «نعم، ولكن الريح تهجع فيقف الريش ولا يتحرك.» فقال الرئيس: «وهب أنهم انحلوا من الآن، فالأرجح أن ريكارد يصير ملكا على القدس ويتهادن مع صلاح الدين على الشروط التي يريدها.» فأجابه المركيز: «أتظن أن ريكارد يصاهر صلاح الدين؟ ذلك محال؛ ولذلك سعيت فيه لإغاظة الفريقين؛ لأن أخذ ريكارد للبلاد بالسلم يضر بنا مثل أخذه لها بالسيف.» فقال الرئيس: «لم تصب المحز على ما فهمت من رئيس الأساقفة؛ لأن ريكارد ميال إلى المصاهرة، وكذا سرقة العلم لم تجد نفعا، فإن كانت هذه جعبة حيلك فقد فرغت. ولكن أتعرف أحدا من الخوارج؟» فقال: «كلا، ولكنني أعرف أنهم من الغلاة في الإباحية .» فقال الرئيس: «أنا أعرف واحدا منهم قد نذر أن يريح الدنيا من هذا الملك، وهو الآن في قبضة يدي.» فقال المركيز: «نعم نعم نعم، والخطب جسيم، ولكن للضرورة أحكام.» فقال الرئيس: «قد أفشيت لك هذا السر لتكون على حذر؛ لأن هؤلاء الإنكليز سيهيجون ويموجون.»
الفصل العشرون
كم سمعنا بل رأينا أسدا
صاده طرف المهى المكتحل
لما رأى ريكارد أنه نال بغيته وألف بين قلوب الصليبيين حتى وطدوا عزائمهم على مداومة القتال، عزم أن يصلح ما وقع في بيته من الخلل، ويستقصي أخبار علمه المفقود، فأرسل البارون ده فو ليحضر له السيدة كالستا، وهي الأولى بين نساء الملكة، فلما بلغ خيمة الملكة وأخبرها بأمر الملك اضطربت، وقالت للملكة: «ماذا أقول له يا مولاتي؟» فقال لها البارون: «لا تخافي أيتها السيدة؛ لأن الملك قد حجب دم الفارس ووهبه للحكيم، فلا يمكن أن يعامل السيدات بالقسوة.» وأما الملكة فقالت لها: «اخترعي له قصة من عند نفسك ولا تخبريه بشيء مما جرى.» فاعترضتها الأميرة جوليا وقالت: «قصي عليه القصة كما جرت تماما وإلا قصصتها أنا عليه.» فقال البارون: «العفو منك أيتها الملكة، أنا أرى أن الأميرة جوليا مصيبة فيما قالت؛ فإن الملك وإن صدق كل ما تقولينه أنت له لا يصدق كل ما يقوله غيرك.» فقالت السيدة كالستا: «قد أصاب البارون، فإني لو قدرت على تلفيق القصة، لما تجاسرت أن أقصها عليه.» ثم ذهبت مع البارون وأخبرت الملك بكل ما جرى، وألقت اللوم على الملكة. وكانت سؤرة الغضب قد زالت من رأس ريكارد كما تقدم، فقال لها: «اذهبي وقولي لمولاتك إنني سأزورها بعد قليل.» فعادت إلى الملكة وقالت لها: «إن الملك سيتظاهر بالغيظ في أول الأمر حتى يراك تخضعين بين يديه وتطلبين السماح، وحينئذ يسامحنا كلنا.» فقالت لها الملكة: «كم ظبية تنجو وصياد يقع! فسيجد ريكارد غير ما ينتظر.» ثم لبست أفخر حللها وجلست تنتظره، فأتى وفي نيته أنه داخل على قوم مذنبين ليؤدبهم أو ليسمع استرحامهم، فإذا الملكة قد استقبلته باللوم والعتاب وقالت له إنها لم تأمر القزم ليأتي بالفارس إلى خيمتها، ولا حسبت أنه يحدث شيء مما حدث. ثم جعلت تعنفه لأنه بخل عليها بحياة إنسان واحد استحق العقاب بسببها، وكانت تبكي وتسكب العبرات وتقول له: «لو بقيت على عزمك وقتلت هذا الفارس لنغصت عيشي حياتي بطولها، وبقي خياله يترصدني في منامي وقيامي، فلا أفهم كيف تدعي بمحبتي ولا تعفو عن رجل واحد يورثني عقابه التعاسة والشقاء كل أيامي.» وكانت تتكلم وتبكي من كبد حرى، فاحتار الملك وحاول أن يقنعها بالأدلة فلم يجد منها إلا اللوم والتعنيف، فدارت الدائرة عليه واضطر أن يدافع عن نفسه ويطيب خاطرها بقوله إن الفارس لم يزل حيا وإنه وهبه للطبيب العربي فهو عنده بمأمن من المرض أيضا، ولما قال لها ذلك زاد بكاؤها ونحيبها، وقالت له: «إنك أكرمت هذا الطبيب وهو من أعدائنا أكثر مما أكرمتني وأنا زوجتك!» فقال لها: «اسمعي يا برنغاريا، إن هذا الطبيب قد نجاني من الموت، فإن كان لحياتي قيمة عندك فلا تستعظمي عليه هذه الهبة التي لم يقبل سواها.» ولما قال ذلك وجدت أنها بلغت غايتها وأن الزيادة تفريط، فقالت: «أحسنت يا حبيبي.» فاصطلحا وألقيا اللوم كله على القزم فنفياه من بلاطهما، وأجمع رأيهما على إهدائه هو وزوجته إلى السلطان صلاح الدين مع الهدية التي كان ريكارد عازما على إرسالها له لنواله الشفاء عن يد طبيبه.
وبقي على ريكارد أن يقابل الأميرة جوليا في ذلك اليوم، فاستعد لتعنيفها الشديد، ولكنه لم يخفه كما خاف تعنيف زوجته، فدخل خيمتها وكانت بجانب خيمة الملكة، وجلس بجانبها ثم قال: «إن ابنة عمنا جوليا غاضبة علينا ولا عجب، فنحن لا ننكر أننا انقدنا كرها عنا إلى اتهامها بأمر مخالف لما نعهده فيها، ولكننا ما دمنا في هذه الدنيا فنحن عرضة للخطأ، أفلا تسامحين نسيبك ريكارد على ما فرط منه في حدة غيظه؟» فقالت: «من لا يسامح ريكارد إذا كان الملك يسامحه؟!» فقال لها: «طيبي نفسا وقري عينا، وانزعي هذا البرقع الأسود، فقد بلغك أنه لا داعي لحزنك، فعلام تلبسين ثوب الحداد؟» قالت: «إني حزينة على شرف بلنتجنت الذي زال، وعلى المجد الذي زايل بيت أبي.» فعبس وجعل يردد هذه الكلمات، وهي: «الشرف الذي زال، المجد الذي زايل بيت أبي.» ثم قال: «أخبريني يابنة العم بم أخطأت؟» فقالت: «إن ابن بلنتجنت إما أن يعاقب أو يسامح ولا يليق به أن يستعبد رجلا مسيحيا حرا وفارسا شجاعا باسلا، ويهبه لأعدائه عبدا، فلو قتلته لكان قتله قساوة، ولكن عليه صورة العدل، أما استعباده على هذه الصورة فهو الظلم بعينه.»
فقال: «إذا كنت من اللواتي يعددن الحبيب المفارق كالميت، فإننا نرسل في طلبه فيحضر في أقل من لمحة عين، فنستقصي البحث لعلنا نجد سببا يوجب موته لا نفيه.» فاحمر وجه الأميرة جوليا وقالت له: «إليك عن هذا المزاح المذموم، واعلم أنك حرمت معسكر الصليب فارسا من فرسانه ومنحته لأعدائنا، وفتحت لأهل الظنون والأغراض بابا ليقولوا: «إن ريكارد قلب الأسد قد نفى هذا الفارس من معسكره خوفا من أن يقاسمه الشهرة!»» فصرخ ريكارد قائلا: «ألي تقولين هذا القول؟! أأنا أغار من أحد؟! ليته كان هنا الآن حتى أطرح تاجي وصولجاني وألاقيه في ميدان النزال، وأريك أن ريكارد بلنتجنت لا يخاف مخلوقا ولا يغار من إنسان، هذا ليس رأيك في فلا يكن غيظك أو حزنك أو فقد حبيبك سببا لسوء ظنك في نسيبك.» فقالت له: «أتسميه حبيبي؟! نعم، إنه كان يحبني وقد ضحى حياته ليثبت حبه لي، وأنا على ضعفي كنت له نورا يرشده في سبيل البسالة والمجد، على أن كل من يقول إني نسيت منزلتي أو أنه تعدى حدود منزلته فقوله باطل، ولو كان الملك نفسه.» فقال لها: «لا تنسبي إلي يا عزيزتي أقوالا لم أقلها، فإني لم أقل إنك أكرمت هذا الفارس أكثر مما يستحقه هو أو غيره منك أو من أية أميرة كانت، ولكني أعلم كيف يبتدئ الحب، ولكن لا فائدة من الكلام مع فتاة تظن نفسها أحكم من كل الناس.» ثم استأذن منها وخرج.
وبعد أربعة أيام من ذهاب السر وليم عبدا مع الحكيم العربي جلس الملك ريكارد في خيمته يتبصر في أمر الزحف على أورشليم، وكان الجنود يهتمون بإصلاح أسلحتهم وبيطرة خيولهم والاستعداد لعرض الجيوش في الغد. وكان الملك قد أرسل البارون ده فو إلى عسقلان ليأتيه بالمدد والميرة، وفيما هو يصغي إلى أصوات الجنود دخل واحد من الفرسان وقال: «أيها الملك، إن بالباب رسولا من صلاح الدين.» فقال: «علي به.» فأدخله الفارس وإذا هو عبد أسود طويل القامة مهيب الطلعة حسن الملامح، لا تظهر عليه سمة الزنوج مع أنه أسود مثلهم، وهو معتم بعمامة بيضاء ولابس ثوبا من جلد النمر يصل إلى ركبته، وموشح بوشاح أبيض وساعداه عاريان، ومعه كلب كبير يقوده بسلسلة من ذهب! فلما صار أمام الملك سجد وعفر، ثم ركع على إحدى ركبتيه وناول الملك منديلا من الحرير، ففتحه وإذا فيه رسالة من السلطان صلاح الدين يقول فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من صلاح الدين ملك الملوك إلى ريكارد ملك الإنكتار، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فقد علمنا من كتابك أنك فضلت الحرب على السلم والعداوة على الصداقة، فسينصرنا الله ونبيه عليك ونريك بفساد رأيك. وفيما بقي فأنت مكرم عندنا معزز، وهداياك وقعت منا موقعا حسنا، ولا سيما القزمان اللذان بعثتهما إلينا، وقد بعثنا إليك الآن عبدا نوبيا صادق الخدمة حسن الرأي يستطيع أن يعبر عما في ذهنه بالإشارة؛ لأن الله سبحانه قد أعدمه النطق، فاقبله منا واستعن به على أمرك، ونحن نسأله تعالى أن يهديك إلى السراط المستقيم أو يجمعنا بك في ميدان القتال.
فقرأ الملك ريكارد الرسالة، ثم التفت إلى العبد وتأمله فأعجبه منظره جدا، فقال له: «أوثني أنت؟» فرفع العبد رأسه ورسم رسم الصليب على وجهه، فقال الملك: «إذن أنت مسيحي، فهل تعرف أن تجلو السلاح؟» فأشار العبد بالإيجاب، وقام إلى سلاح الملك وأنزله عن عمود الخيمة وأشار إلى كيفية جلائه. فقال له الملك: «أحسنت، وستبقى في خيمتي إكراما لمن أرسلك لي.» فسجد العبد ثانية وعفر ثم نهض ووقف بعيدا عن الملك، فقال له الملك: «اشرع من الآن في جلاء هذا الترس واصقله حتى يصير كالمرآة.» فأنزل الترس وجلس يجلوه، وحينئذ دخل السر هنري نفيل وقال: «أتت التحارير من إنكلترا يا مولاي.» فأخذ الملك رزمة التحارير وفتحها وقال: «أواه! هل يعلمون المخاطر المحيقة بملكهم؟!» ثم قال لنفيل: «اخرج الآن لأني أحب أن أقرأ هذه وحدي.» فخرج وجعل الملك يقرأ عن اختلاف أخويه يوحنا وجوفري، وشبوب الحروب الأهلية في البلاد، وكان يقابل الأخبار بعضها ببعض ليرى ما بينها من المطابقة والمخالفة وهو بقرب باب الخيمة، وقد أمر برفع السجف عنه ليتمتع بالنسيم، وكان العبد جالسا وراءه يجلو السلاح ويصقله، وقد جلا ترسا كبيرا كان الملك يحمله عند الهجوم على الحصون، وليس عليه رنك ولا رسوم فلا يمتاز به الملك عن غيره من آحاد الجند، وأتقن العبد جلاءه حتى صار صقيلا كالمرآة.
وفيما كان الملك يقرأ المكاتيب ويتأمل فيها وأفكاره مضطربة بالحوادث التي حدثت في مملكته، دخل المخيم أحد المشعوذين بثياب أخلاق فرآه الجنود ولم يستغربوا أمره؛ لأن كثيرين من اليهود والأقباط والأتراك والمغنين والمشعوذين كانوا يدخلون المعسكر كل يوم، فاجتمع حوله نفر من الحرس وطلبوا منه أن يرقص وتهددوه بالضرب إن لم يجب طلبهم، فجعل يطفر على الأرض ويرقص وهو يتنقل من جهة إلى أخرى حتى دنا من خيمة الملك وصار على نحو أربعين خطوة منها، وحينئذ طفر طفرات شديدة ووقع على الأرض مغمى عليه، فاجتمع الجنود حوله وقال أحدهم: «اسقوه ماء وإلا مات.» فقال الآخر: «هاتوا النبيذ لنسقيه.» فقال الأول: «أنا أراهنك أنه لا يشرب النبيذ ولو مات.» فقال آخر: «هاتوا القرن فإننا نسقيه كما نسقي الخيل.» وفتحوا فمه برأس الخنجر وأدخلوا طرف القرن فيه وسقوه كوبة كبيرة دفعة واحدة، فشربها ثم تنهد طويلا، وقال: «الله كريم.» فقهقهوا قهقهة نبهت الملك، فالتفت إليهم وانتهرهم فخافوا وجعلوا يختفون من وجهه، ولكنه عاد إلى قراءة المكاتيب فعادوا إلى المشعوذ وحاولوا إنهاضه عن الأرض فلم ينهض، فحاولوا جره فكان يمانعهم ويئن ويغط، ثم التفت الملك إليهم ثانية فتركوا المشعوذ واختفوا فبقي المشعوذ في مكانه.
الفصل الحادي والعشرون
تقدم أن الملك ريكارد كان جالسا في خيمته عند بابها، يقرأ المكاتيب التي وردت عليه من بلاده، والعبد النوبي جالسا وراءه يجلو الترس الكبير، والمشعوذ نائما أو متناوما أمام باب الخيمة، والحرس والجند لاهين بألعابهم التي كانوا يلعبون بها صامتين؛ لئلا يسمعهم الملك، فرأى العبد في الترس الذي صار صقيلا كالمرآة صورة المشعوذ يرفع رأسه ويتلصص، ثم يزحف نحو خيمة الملك زحفا بطيئا لا ينتبه إليه، ثم يسكن ويرفع رأسه ويتلصص ويزحف قليلا، فرابه ذلك وقال في نفسه: «لا بد من غرض قبيح لهذا الرجل!» فاستعد له.
ولما صار المشعوذ على نحو عشر خطوات من باب الخيمة نهض على رجليه ووثب على الملك، كأنه الأسد الضاري، وأخرج خنجرا من كمه وهم بطعنه، فرآه العبد حينما وثب فوثب أيضا وقبض على يده التي فيها الخنجر، فحول المشعوذ يده وطعن العبد به في ذراعه، فقبض العبد عليه وجلد به الأرض، فالتفت الملك ورأى ما حدث فنهض قائما ورفع الكرسي الذي كان جالسا عليه، وضرب به رأس المشعوذ ففقصه فقصا، ثم نادى بالحراس فركضوا حالا إلى الخيمة، فقال لهم: «أهذا شأن حراس الملك؟» فجعلوا يتعوذون بالله، فقال لهم: «اخرسوا وسدوا أفواهكم، ألم تروا قتيلا قبل الآن؟! أخرجوا هذه الجثة من هنا واقطعوا رأسها وارفعوه على رمح، وأما أنت يا صديقي الأسود ... ما هذا؟! أجرحت بهذا الخنجر المسموم؟ فلا بد أن يكون هذا الخنجر مسموما وإلا ما هجم به هذا الكلب على الأسد.» ثم التفت إلى من حوله وقال: «مصوا له السم من الجرح؛ فإن السم لا يفعل بالفم.» فنظر الحراس بعضهم إلى بعض مندهشين فقال الملك: «ما لكم؟ أتخافون من الموت؟!» فقال له أحدهم: «إني لا أخاف من الموت، ولكنني لا أريد أن أموت مسموما من أجل عبد أسود يباع في السوق كما يباع رأس البقر.» وقال آخران: «جلالته يأمرنا بمص السم كأنه أكلة طيبة!» فقال الملك: «إني لا أطلب من أحد أن يفعل ما لا أفعله أنا.» قال ذلك وقبض على ذراع العبد غصبا عنه وعن ممانعة الحاضرين، وجعل يمص الدم بفمه، ولكنه لم يشرع بمصه حتى تملص العبد منه ولف يده بطرف وشاحه وأشار برأسه ويديه وعينيه إشارات كثيرة تدل على الممانعة، وتقدم أحد الحراس أيضا وقال إنه مستعد أن يمص كل نقطة من دم العبد، بل أن يأكله أكلا ولا يدع الملك يمص نقطة أخرى من دمه.
وحينئذ دخل السر هنري نفيل وشدد اللوم على الملك، فانتهره الملك وقال له: «إن الجرح طفيف وما هو إلا خمش صغير فلا خطر منه.» وكأنه خجل من تنازله إلى هذا الحد، فقال لنفيل: «أنا لم أفعل ذلك إلا لأقنع هؤلاء الجهال الجبناء أن مص السم من الجراح لا يضر، وأنه إذا أصيب أحدهم بسهم مسموم فعليهم أن يمصوا السم بفمهم من جرحه فيشفى. والآن خذ هذا العبد وأبقه عندك واحرص عليه، فقد تغير فكري في شأنه، واعتن به ولا تضيق عليه، بل أطلق له الحرية في خيامك، ولكن لا تدعه يخرج منها. وأنتم أيها الحراس النهماء ارجعوا إلى أماكنكم ولا تحسبوا أنفسكم في بلادكم حيث لا يؤخذ أحد بالغدر، بل تمشي العداوة في نور النهار كما تمشي الصداقة. اذهبوا وافتحوا عيونكم وآذانكم وإلا قطعت جرايتكم وأمتكم جوعا.» فخرج الحراس وجعل نفيل يلوم الملك لأنه لم يعاقبهم على تغاضيهم، فانتهره الملك وقال له: «أتريد أن أهتم بأمر جرى ضد شخصي أكثر مما اهتممت بأمر جرى ضد علم إنكلترا وشرفها؟! فقد سرق علم إنكلترا وأهين شرفها وحتى الآن لم نفعل شيئا، وهؤلاء العرب يقولون:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم»
ثم التفت إلى العبد وقال له: «إن السلطان يقول إنك خبير بكشف الغوامض والأسرار، فإن كنت تكشف السارق أعطيك ثقلك ذهبا، فما قولك؟»
فحاول العبد النطق وكأنه عجز عنه، فأحنى رأسه كمن يقول: «نعم، أقدر أن أكشفه.» فتهلل وجه الملك وقال: «أتقدر أن تكشف السارق؟» فأشار العبد بالإيجاب. فقال الملك: «ولكن كيف نفهم مرادك؟ أتقدر على الكتابة؟» فأشار العبد بالإيجاب أيضا، فقال الملك: «أعطوه دواة وقرطاسا.» فقال نفيل: «إن هذا الرجل ساحر، والسحرة يستخدمهم الشيطان لزرع الزوان بين الحنطة.» فانتهره الملك وقال له: «قد عثرت على واسطة أزيل بها العار عن إنكلترا، فهل تمنعني من استخدامها؟!» وكان العبد قد أخذ القرطاس وكتب عليه باللغة الإفرنسية لا باللغة العامة الكلام الآتي:
إلى ريكارد ملك إنكلترا الذي لا يقهر
الخفايا ضمن صناديق مقفلة، ولكن الحكمة تجد مفاتيحها، فلو وقف هذا العبد ومر أمامه جميع جنود الصليبيين بالترتيب وكان السارق معهم لعرفه ولو كان متبرقعا بسبعة براقع!
فلما قرأ الملك الكتابة قال لنفيل: «قد أسأت الظن في هذا الرجل، والآن أنت تعلم أن جميع الصليبيين سيمرون غدا ويحيون العلم الجديد، ولا بد من أن يكون السارق معهم، وإلا فغيابه عنهم كاف لإشهاره، فإذا عرفه هذا العبد من بينهم فالله ينصف بيني وبينه.»
فقال نفيل: «انتبه يا مولاي إلى ما تفعل، فقد اجتمعت كلمتنا مرة أخرى على غير انتظارنا، فهل تفتح بإشارة من هذا العبد الأسود جراحا لم تندمل حتى الآن؟ أوتستخدم اجتماع أحلافنا ومرورهم أمام علمنا لكي يعوضوا عما لحق بنا من الإهانة واسطة لتفريق كلمتنا وإحياء أسباب الخلاف القديمة؟ وأنا لم أجسر على هذا القول إلا لأن محاولة إيجاد السارق تخالف العهد الذي تعهدت به أمام مجمع الأمراء.» فاعترضه الملك وقال له: «أخطأت يا نفيل، فإنني لم أعد أحدا بالكف عن السعي في إيجاد من أهان شرفي. والأولى بي أن أتخلى عن مملكتي، بل عن حياتي، من أن أعد هذا الوعد، وكل ما قلته يعود إلى هذا القول، وهو إذا كان دوق النمسا يقوم ويعترف بأنه سرق العلم أو له دخل في سرقته، فأنا أسامحه من أجل هذا الجهاد.» فقال نفيل: «وما أدرانا أن هذا العبد لا يخدعنا؟» فقال الملك: «أنت تظن نفسك أحكم الحكماء، والحال أنك من أجهل الجهال! خذ هذا العبد كما قلت لك واحترس عليه فإنه فوق ما تظن.» ثم التفت إلى العبد وقال له: «كن مستعدا لتتميم ما وعدت به وتمن علينا بعد ذلك ما شئت.» فأخذ العبد ورقة وكتب فيها: «ليس للعبد أن يتمنى إذا فعل ما أمره به مولاه؛ إذ لا ثواب على الواجب.» فأخذ الملك الورقة وقرأها ووقف على قوله: «لا ثواب.» وقال: «هذا من اصطلاحات الفرسان الخصوصية، فحقا إن هؤلاء المشارقة أمهر الناس في تعلم اللغات!»
الفصل الثاني والعشرون
نعود الآن إلى ما كان من أمر الحكيم والسر وليم الذي وهب له عبدا فنقول: تبع العبد مولاه الحكيم إلى خيامه كمن وقع عن شاهق فتحطم وبقي فيه من الحياة رمق يزحف به إلى بيته. فلم يلبث أن وصل إلى خيام مولاه الجديد حتى طرح نفسه على الأرض وجعل يبكي ويتأوه. وكان الحكيم قد أمر رجاله أن يتأهبوا للرحيل قبل الفجر، فلما سمعه يبكي جلس إليه وأخذ يعزيه ويطيب قلبه، وقال له: «اسمع ما قال الشاعر:
وما في سطوة الأرباب عيب
ولا في ذلة العبدان عار
وما أنت بخير من يوسف بن يعقوب - عليهما السلام - وقد بيع للعزيز عبدا، ولا أنا ممن يعامل الناس بالجفاء.» فأراد السر وليم أن يشكره فخنقته العبرات واعتقل لسانه عن الكلام، فتركه الحكيم ودخل الخيمة وجلس، فقدموا له الطعام فأكل، ثم أمر أن يقدموه للسر وليم فأبى أن يأكل. وقبل بزوغ الفجر قام الخدم ورفعوا الخيام وحملوها على الجمال، ثم أيقظوه وأيقظوا الحكيم وقدموا لهما فرسين مسرجين، فركب الحكيم على فرسه وأشار إلى السر وليم أن يركب الثانية، وساروا جميعا يتقدمهم الحرس الإنكليزي خوفا من أن يتعرض لهم أحد في أثناء مسيرهم في المعسكر. فلما خرجوا من المعسكر سار اثنان من فرسان الحكيم في المقدمة واثنان في الساقة؛ لكي لا يباغتهم عدو في الطريق. وكان السر وليم يلتفت إلى خيام الصليبيين والقمر مشرق عليها ويودعها بالعبرات الغزار فالتفت إليه الحكيم وقال: «تصبر للعواقب وانتظرها
فأنت من العواقب في اثنتين
تريحك بالمنى أو بالمنايا
فإن الموت إحدى الراحتين»
فقال الفارس في نفسه: «يا حبذا الموت!» ولكنه لم يجب الحكيم بشيء خوفا من إطالة الوعظ والإنذار، فلما رأى الحكيم منه ذلك نادى واحدا من رجاله وقال له: «قص علينا قصة تخفف عنا مشقة السرى.» وكان هذا الرجل راوية من مشاهير الرواة، فجعل يقص النوادر وينشد الأشعار إلى أن بدت غرة الصباح، فنزل الحكيم ورجاله وصلوا الصبح والفارس ينظر إليهم ويتعجب من شدة تدينهم وورعهم، ثم ركبوا وجدوا السير إلى أن بلغوا أرضا كثيرة الحزون والآكام، فرأوا عن بعد غبارا قد سد الآفاق، ومن تحته كوكبة من الفرسان قد أطلقوا الأعنة وأشرعوا الأسنة، فنادى الحكيم رجاله قائلا: «كونوا على حذر.» فقال له السر وليم: «علام تخاف هؤلاء الفرسان ونحن الآن في هدنة؟!» فقال: «إن هؤلاء من فرسان الهيكليين الذين لا عهد لهم ولا ذمام، فإن الأسد ريكارد والنسر فيليب يعفوان عند المقدرة، ودب الألمان ينام إذا شبع، وأما هؤلاء الذئاب فلا يعفون عن شيء ولا يشبعون، وقد جاءوا الآن ليقطعوا عنا طريق الماء، ولكن خاب مسعاهم وساء فألهم، وأوردهم القضاء والقدر حتفهم، فهيا بنا نقابلهم بالسيف والقنا.» فقال السر وليم: «أما أنا فليس لي في منازلتهم أرب؛ لأنني قد أقسمت بالله أن لا أحارب أحدا من جنود النصارى.» فقال له الحكيم: «إن لهم في قتلك الغرض الأول لكي لا تشهد بنكثهم لعهد الهدنة، هذا ونحن لم تجر لنا عادة أن نجبر أحدا على الحنث بيمينه، فاذهب مع الجمال والعبيد إلى لحف تلك الأكمة، وأنا أقابل هؤلاء الأنذال بفرساني وسينصرنا الله عليهم ونتبعكم بعد قليل.» فسار السر وليم مع العبيد والجمال وهو يقول: «إن هؤلاء الهيكليين لا يستحقون أن ترعى لهم حرمة؛ لأنهم لم يرعوا حرمة الهدنة.»
أما الحكيم فتفرق هو وفرسانه وأحاطوا بالهيكليين إحاطة الهالة بالقمر أو الأكمام بالثمر، وابتدروهم برمي النبال فانهالت عليهم انهيال السيل، وكان الهيكليون بالخوذ والمغافر والدروع والسراويل والقفافيز والجراميق، وكلها من ذكر الحديد والزرد النضيد. وكانت دروع الزرد مسبغة على خيولهم أيضا حتى كنت ترى الفارس وفرسه فتحسبهما قطعة واحدة من الحديد. ثم بوق واحد منهم فاجتمعوا تحت لوائهم وهجموا على جنود الحكيم هجمة تزحزح الجبال، فالتقاهم الحكيم وجنوده بالبيض الصفاح، وكانت بينهم ساعة تشيب الأطفال وتقصر الآجال، هذا والحكيم يصرخ في رجاله ويحرضهم على القتال إلى أن كل الفريقان من الكر والفر. ثم بوق الهيكليون ثانية فاجتمعوا كلهم تحت لوائهم وأقاموا ساعة يتداولون وكأنهم ندموا على ما فعلوا أو رأوا أنهم أخطئوا الغرض، فألووا أعنة خيولهم وساروا الهوينا وتركوا قتلاهم وقتلى عدوهم في ساحة القتال. فنادى الحكيم رجاله وقال: «ادفنوا قتلاكم واجمعوا سلب أعدائكم وسيروا بنا في إثر الجمال.» فقيدوا الجرحى، وجمعوا أسلاب القتلى، وساروا على أثر الجمال إلى أن وصلوا إلى غور الأردن، فوجدوها عند الينبوع الذي نزل السر وليم عنده لما كان ذاهبا إلى عين جدي، فركض العبيد للقاء مولاهم وهنأوه بالسلامة وأخذوا فرسه وحلوا حزامها، وكان السر وليم واقفا بجانب الينبوع والدموع ملء عينيه فالتفت إليه الحكيم وقال: «هي شدة يأتي الرخاء عقيبها
وأسى يبشر بالسرور العاجل
فقد دنونا من منازلنا وسترى فيها ما تحب وتشتهي.» فحاول السر وليم أن يشكره على إحسانه فمنعته العبرات والزفرات عن الكلام. ثم صلى الحكيم ورجاله صلاة الظهر وأكلوا ما حضر من الزاد وقدموا للسر وليم فلم يأكل ولم يشرب. فقام إليه الحكيم وجس نبضه فقال: «أراك متعبا ومحتاجا إلى الراحة.» ثم أخرج حنجرا وصب منه في كأس من الماء وسقاه، فلم يكن إلا برهة قصيرة حتى وقع عليه سبات عميق.
الفصل الثالث والعشرون
وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا
للمرء خير من نعيم زائل
لما استيقظ السر وليم من نومه وجد نفسه في ثياب الحرير على فراش الإستبرق، وحول سريره كلة تكاد لا ترى لدقة نسجها تقيه من البعوض الذي أنحل جسمه وحرمه النوم منذ مجيئه إلى بلاد الشام، فظن نفسه في حلم وجعل يغمض عينيه ويفتحهما ليرى أفي يقظة هو أم في منام، ثم نهض من السرير ليلبس ثيابه وعدته ، فلم يجد أمامه إلا كساء شرقيا وسيفا هنديا، فقال في نفسه: «ما هذه إلا وسائط يستعملها هذا الحكيم لكي يغريني بالإسلامية، ولكن ما كنت لأفعل ولو ملكني الهند والسند.» وفيما هو يتأمل في هذا الأمر إذا بالحكيم يناديه ويقول: «هل من مانع من الدخول؟» فقال: «أهلا بسيدي الحكيم.» فقال الحكيم: «وإن كنت آتيك بصورة غير صورة الحكيم؟» فقال: «أهلا بك، كيفما أتيت.» فدخل الحكيم وإذا به الأمير شيركوه الكردي الذي حاربه ثم صافاه ورافقه إلى عين جدي. فقال السر وليم في نفسه: «ما هذا إلا حلم!» وجعل يتفرس في الحكيم متعجبا من أمره. فقال الحكيم: «أتعجب من مهارتي في صناعة الطب وأنا من فرسان الحرب؟! أولا تعلم أن رجل الحرب يجب أن تكون له مشاركة بفن الطب أيضا؟ أوتتعجب من تقلب الإنسان بتقلب الأحوال؟ أولا تعلم أن الظواهر قد لا تدل على البواطن؟» فقال: «صدقت، فها أنا في الظاهر خائن وفي الباطن أصدق مقيم على العهد والولاء.» فقال الحكيم: «وهذا هو اعتقادي فيك، ولذلك سعيت في نجاتك لأني آكلتك وشاربتك عند الناسك. ولماذا أراك الآن قلقا؟ ألا تستحسن هذا اللباس؟» فقال: «بلى أستحسنه، إن لم يقصد به تحويلي عن مذهبي.» فقال له الحكيم: «إني لأعجب من سوء ظنك فينا، أتظن أننا نجلب الناس إلى ديننا بالرشوة؟! أولا تعلم أن من لم يهده الله فليس له من هاد، وأن الذين يدينون بديننا من قومكم طمعا في أموالنا يصليهم الله عذاب السعير؟! فالبس هذه الثياب حتى إذا جلست في معسكر صلاح الدين لا يتعرض لك أحد.»
فقال: «وكيف يمكنني أن أجول في المعسكر وأنا عبد مقيد؟» فقال: «معاذ الله أن نستعبد الرجل الذي ناجزنا في ميدان النزال!» فقال السر وليم: «بالله عليك أيها الأمير الجليل لا ترني سبيلا للعتق تأباه نفسي الأبية.» فقال الحكيم: «وما قولك في سبيل يزيل عنك العار ويرد لك الشرف؟ وذلك بكشف اللص الذي سرق العلم، فإني قادر أن أمكنك من ذلك إذا أطعتني.» فقال الفارس: «يا مولاي ، أنا مقتنع بحكمتك وكرم أخلاقك، فأعدك بالطاعة التامة في كل ما تأمرني به، إلا فيما يمس معتقدي.» فقال: «إن كان الأمر كذلك فاسمع ما أقول: إن كلبك قد شفي الآن.» فقال الفارس: «كفى، فقد فهمت مرادك.» فقال الحكيم: «وهل في المحلة أحد يعرفه؟» فقال الفارس: «كلا، لأنني لما سرق العلم وعلمت أن لا نجاة لي من الموت أطلقت خادمي وأرسلتهما إلى بلادي. ولكن أنا معروف في المحلة جيدا.» فقال الحكيم: «سأغير لونكما حتى لا يعرفكما أحد.»
الفصل الرابع والعشرون
«يؤذي القليل من اللئام بطبعه»
كالكأس تكدر بالقذى فنعيفها
ولكم رأينا البغي فرق بين أن
صار فصارت كالهباء صفوفها
قد علم القارئ مما تقدم من هو هذا العبد الأسود، وما غرضه من الوقوف بجانب قلب الأسد على الأكمة التي سرق عنها العلم الإنكليزي. فإن الملك ريكارد نصب خدرا لزوجته وابنة عمه وجواريهما على الأكمة، ووقف هو وأمراء مملكته في عرضها وبجانبه أخوه وليم أرل سلسبري الملقب بالسيف الطويل، وهو رافع العلم الجديد وأمامهم الجيوش الصليبية تتموج في عرض ذلك البر كأنها البحر العجاج، وفي صدر كل جيش رئيسه والأعلام والبنود تخفق فوق رأسه وهم يسيرون الهوينا أمام تلك الأكمة، وكلما دنا منها رئيس من الرؤساء يتقدم نحو الملك ريكارد ويحييه ويحيي العلم الإنكليزي الجديد ثم يسير مع جيشه ولسان الحال يقول:
تمضي المواكب والأبصار شاخصة
منها إلى الملك الميمون طالعه
وكان الغرض من عرض الجيوش على هذه الصورة إرضاء الملك ريكارد، والتعويض عن الإهانة التي لحقت بشرف إنكلترا، وهذا ارتآه الأمراء من تلقاء أنفسهم ورضي به الملك ريكارد، فلم تكن ترى إلا خيولا صاهلة ورماحا بارقة، وأعلاما خافقة وفرسانا غائصين في الزرد والحديد.
مبرقعي خيلهم بالبيض متخذي
هام الكماة على أرماحهم عذبا
إن المنية لو لاقتهم وقفت
خرقاء تتهم الإقدام والهربا
فيناديهم لسان الحال ويقول:
أبني العوالي السمهرية والسيو
ف المشرفية والعديد الأكثر
من منكم الملك المطاع كأنه
تحت السوابغ تبع في حمير
فيجيبه لسان حالهم قائلا:
القائد الخيل العناق شوازبا
خزرا إلى لحظ السنان الأخزر
قلب الأسد المفدى، ذلك هو قائدنا وإمامنا إذا التطم القنا بالقنا، وفيما سوى ذلك فلكل فريق ملك أو أمير له يخضع وبأمره يصدع.
وكان الملك ريكارد راكبا على جواد مطهم وعلى رأسه تاج مرصع بالدر والجوهر وهو يرد التحية للقواد على حسب رتبهم، ويلتفت إلى العلم الخافق فوق رأسه كأنه يقول: «إن هذه التحية لك وأنا أردها عنك.» وكلما مر قائد من القواد الذين يظن فيهم السوء يلتفت إلى العبد والكلب. ولما مر ملك فرنسا ووقف مقابل الأكمة وهم بصعودها لاقاه ريكارد فالتقيا في منتصف الطريق التي بينهما وتصافحها، فضجت العساكر كلها بأصوات الفرح والحبور، ثم مر فرسان الهيكليين وتحتهم الخيول العربية تخطر كالعرائس، وفي مقدمتهم رئيسهم العظيم، فنظر إلى الملك ريكارد ورفع يده وباركه؛ لأنه من رؤساء الدين، ثم مر دوق النمسا فالتفت الملك إلى العبد، وقال له: «كن على حذر ودع الكلب يراه جيدا.» فلم يبد الكلب حراكا، ثم تقدم مركيز منسرات، وكان قد قسم جنوده إلى ثلاث فرق وركب في فرقة منها وعليه حلل مزخرفة بالذهب والفضة ومرصعة بالحجارة الكريمة، وبجانبه رجل شيخ محلوق اللحية والشاربين، لا أثر للعظمة عليه مع أن مقامه رفيع جدا، فقد كان مرسلا من قبل البنادقة لمراقبة أحوال المركيز، فلما دنا المركيز من الملك ريكارد مشى الملك نحوه خطوتين أو ثلاثا ليلاقيه وقال له: «أرى خيالك يتبعك حيثما ذهبت.» فتبسم وفتح فاه ليجاوب الملك، ولكن قبل أن ينطق بكلمة هجم الكلب عليه كالأسد الضاري وأمسك بخناقه ورماه على الأرض. فالتفت الملك إلى العبد وقال: «قد أصاب كلبك المحز، فأبعده عن هذا الخائن لئلا يقتله.» فبذل العبد كل قوته حتى أبعد الكلب عنه، فأسرع كثيرون من قادة الجيش إلى المركيز ورفعوه عن التراب وهم يقولون: «قطعوا العبد والكلب تقطيعا.» فنادى الملك ريكارد بأعلى صوته وقال: «كل من يلمس العبد أو الكلب يموت موتا. وأنت يا مركيز منسرات رجل خائن فاستعد للمحاكمة.» فقال المركيز: «ما هذا الصنيع؟ وما هذا الاحتقار؟ أهذه هي العهود التي عاهدتنا بها بالأمس؟!» ثم تقدم رئيس الهيكليين وقال: «هل صار ملوك الصليبيين أرانب حتى يصطادهم ملك الإنكليز بالكلاب؟» وتقدم ملك فرنسا وقال: «لا بد من خطأ فيما حدث.» فقال رئيس أساقفة صور: «أرى أن هذه مكيدة من العدو، فيجب أن نقتل الكلب ونعذب العبد.» فقال ريكارد: «كل من يمسهما موتا يموت. وأنت يا مركيز، قف وأنكر إن استطعت ما يدعي عليك به هذا الحيوان الأبكم، وهو أنك أهنت شرف إنكلترا وحاولت قتل هذا الحيوان.» فقال المركيز: «إني لم ألمس علم إنكلترا بيدي.» فقال الملك: «وما أدراك أني أردت علم إنكلترا؟! ولكن أنت تعرف جريمتك وهي التي قادتك إلى القول بما قلت.» وكان الشغب قد اشتد، فنادى ملك فرنسا وقال: «أيها الأمراء والأشراف، احقنوا دماء عباد الله واصرفوا جنودكم إلى أماكنها، ونحن نجتمع في نادينا ونتذاكر في هذا الأمر.» فقال ريكارد: «كنت أحب أن نستنطق هذا الخائن وهو معفر بالتراب، ولكن ليكن كما قلت أيها الملك.» وحينئذ ضربت الأبواق واجتمع كل فريق حول قائده وانصرفوا إلى أماكنهم، وهم نادمون على ما اعتقدوه في ريكارد من الشهامة ومضمرون له السوء.
وانعقد نادي الأمراء ودخل المركيز بعد أن غير أثوابه التي كانت عليه، ودخل معه دوق النمسا ورئيس الاسبتارية وغيرهم من الرؤساء كأنهم منتصرون له، ثم دخل ريكارد وهو بالثياب التي كان راكبا بها ونظر إلى الرؤساء المحيطين بالمركيز نظر الازدراء وادعى عليه بأنه سرق علم إنكلترا، وجرح الكلب الذي كان يحميه. فقام المركيز وأنكر هذه التهمة، وكان ملك فرنسا جالسا في مجلس القضاء، فقال مخاطبا ملك إنكلترا: «أيها الأخ، إن هذه الدعوى غريبة لم يسمع بمثلها، وأنت قد بنيت حكمك على الظن وعلى هجوم الكلب على المركيز، فلا يليق بنا أن نكذب قول أمير ونصدق هذا الحيوان الأعجم!» فأجابه الملك ريكارد قائلا: «لا يغرب عن فطنتك أيها الأخ أن الله القدير قد منح الكلب طبيعة لا تعرف الخداع، فهو يذكر العدو والصديق والسيئة والإحسان، ويماثل الإنسان في الفطنة ولا يماثله في الخداع. فقد يمكنك أن ترشي الإنسان حتى يقتل سيده والقاضي حتى يعوج قضاءه، ولكن لا يمكنك أن ترشي الكلب حتى يسيء إلى من أحسن إليه. ألبس هذا المركيز ما شئت من الحلل، وادهن وجهه بما شئت من الأدهان، وأخفه بين مئات من الناس، وأنا أراهنك على تاجي وصولجاني أن الكلب يعرفه من بينهم ويعامله كما عامله على الأكمة، وهذه الحادثة ليست نادرة على غرابتها، فقد اتخذت شهادة الكلب دليلا كافيا على إثبات التهمة على القتلة واللصوص، وحدث شيء من ذلك في بلادك أيها الملك، وتبارز الناس مع الكلب، وإني أؤكد لك أن الجماد نفسه قد يكون كافيا لكشف الجرائم وإثباتها.»
فقال الملك فيليب: «نعم، جرى ذلك في أيام أحد أسلافنا حينما كان الناس يتحاربون بالعصي، أما الآن فلا يليق بنا أن نجعل أميرا يرمي سيفه ورمحه وينازل كلبا بالعصا.» فقال الملك ريكارد: «وأنا أيضا لا أرضى أن أخاطر بحياة هذا الكلب الأمين ولكن هو ذا قفازنا
1
فنحن ندعوه للمبارزة معنا والله ينصر المحق منا، ولا أظنك تحسب أننا غير كفء لمبارزة مركيز.» ولما قال ذلك طرح قفازه في وسط النادي، فقال ملك فرنسا: «أنا لا أسلم أن ملكا ينازل مركيزا، لا سيما وأنت أيها الملك سيفنا وترسنا.» وقال سفير البنادقة: «وأنا لا أسلم لملك إنكلترا بمبارزة أحد قبلما يدفع لنا الخمسين ألف دينار التي استدانها منا فحسبنا أننا خاطرنا بأموالنا وأبحنا له أن يبارز الأعداء.» وقال أرل سلسبري: «وأنا لا أدع أخي يبارز هذا المركيز، فاسترد قفازك أيها الأخ وأنا أرمي قفازي مكانه.» وحينئذ نهض المركيز وقال: «أيها الأمراء والأشراف، ليكن معلوما عندكم أنني لا أرتضي بمبارزة الملك ريكارد؛ لأننا قد اخترناه قائدا لنا، ولكن إذا كانت ذمته تطاوعه على طلبي إلى المبارزة فلا أراني ملوما إذا أجبته إلى ذلك، فأنا مستعد أن أبارز أيا كان من أخيه فنازلا.» فقال رئيس أساقفة صور: «أصاب المركيز فيما قال؛ لأنه إذا انتهى الأمر على هذه الصورة لا يمس شرف أحد.» فقال ملك فرنسا: «نعم، إذا أصر الملك ريكارد على شكواه.» فقال الملك ريكارد: «قد ادعيت على هذا المركيز أنه سرق علمي في جنح الدجى وأنا واثق بصدق دعواي وسأعين من يبارزه.» ثم التفت إلى أخيه وقال له: «أما أنت يا وليم فلا تجرد سيفك بدون إذننا.»
فلما رأى ملك فرنسا أن الأمر تم على هذه الصورة قال: «إذن أنا أحكم أن تفصل هذه الدعوة بالمبارزة بين هذا المركيز والفارس الذي يعينه الملك ريكارد، وأعين اليوم الخامس من هذا اليوم لهذه المبارزة، ولكن لا أعلم أين نعين مكان ميدان المبارزة؛ لأنني لا أريد أن يكون بقرب المعسكر خوفا من أمر يحدث.» فقال ريكارد: «أنا أرى أن نطلب من السلطان صلاح الدين أن يعين لنا مكانا عنده، ولا أظنه إلا مجيبا طلبنا.» فقال الملك فيليب: «ليكن كما قلت، وسنرسل ونخبر صلاح الدين بذلك، ولو لم يحسن بنا أن نطلع أعداءنا على ما بيننا من الاختلاف. والآن أفض هذا المحفل وأطلب منكم جميعا أن لا تقلقوا لهذا الأمر، ولا تقلقوا به أفكار جنودكم، بل تطلبوا من الله تعالى أن يقضي بين المتخاصمين بما يشاء.» فصرخ الجميع: «آمين.» وحينئذ أسر رئيس الهيكليين إلى المركيز قائلا: «أمستعد أنت للمبارزة؟» فقال: «نعم، ولا أخاف أحدا إلا ريكارد وحده.» فقال الرئيس: «إن هذا الكلب قد نفعنا في تفريق كلمة هؤلاء الناس أكثر من كل دسائسك ومن خنجر الخارجي، فإني أرى فيليب مسرورا والدوق يكاد يطير فرحا وهو يدنو منا.» ولما اقترب منهما قال له الرئيس: «قد ثغرنا أسوار أورشليم.» فضحك وقال: «نعم، وعما قليل يعود كل منا إلى بلاده إن شاء الله، ولكن ليبق ذلك سرا بيننا. وأنت أيها المركيز كان الأجدر بك أن تنازل ريكارد؛ لأنك أمهر منه بالرمح، وأنا لم أتأخر عن منازلته إلا لأن مصلحة الجهاد تمنع من منازلة أميرين مالكين.»
الفصل الخامس والعشرون
وبعد يومين اجتمع الملك فيليب بالملك ريكارد وأثنى على همته وإقدامه، ثم أخبره أنه عازم على الرجوع إلى بلاده، وأراه لائحة من دوق النمسا وغيره من الأمراء يعلنون فيها عزمهم على ترك الجهاد، وينسبون ذلك إلى ما رأوه في الملك ريكارد من الاستبداد والحدة، فحزن ريكارد حزنا شديدا ولم يتمالك عن البكاء، ولكن سبق السيف العذل. ولما عاد إلى خيامه وجد أن السلطان صلاح الدين قد بعث إليه رسولا يخبره أنه عين مكان المبارزة في غور الأردن بقرب درة القفر، وأنه ينتظر قدوم ريكارد وخصمه إلى هناك، وجرى الاتفاق على أن يركب الملك ريكارد وأخوه أرل سلسبري الملقب بالسيف الطويل ومعهم مائة فارس، ويركب المركيز ودوق النمسا ورئيس الهيكليين ومعهم مائة فارس إلى غور الأردن، ويسير كل فريق في طريق ويلاقيهم الملك صلاح الدين بخمسمائة فارس فيتبارز المركيز والفارس الذي يعينه الملك ريكارد.
فركب الملك ريكارد بفرسانه وأخذ معه زوجته وابنة عمه الأميرة جوليا، وجدوا المسير إلى أن صاروا على مقربة من درة القفر، وقبل أن ينكشف لهم المكان رأوا فارسا على أكمة من الآكام يترصد قدومهم، فلما رآهم أطلق العنان لجواده فعدا به كالبرق، وكان البارون ده فو راكبا بجانب الملك فقال له: «ألا تسمح لي يا مولاي أن أتقدم وأرى ما وراء هذه الآكام؟ لأن أمر هذا الفارس قد رابني وما أدرانا أن صلاح الدين لا يغدر بنا في هذا القفر.» فقال: «كلا، وتقدمك لا يدفع مكروها ولا يغني فتيلا.» وبعد قليل أشرفوا على المكان المعد لنزولهم، فرأوا فيه خياما مضروبة وفرسانا واقفين بجانب خيولهم، ثم رأوهم اجتمعوا وركبوا وأطلقوا الأعنة، فارتفع العثير حتى حجبهم عن الأبصار.
ولم يكن إلا القليل حتى رأوهم حولهم يلعبون برماحهم ألعابا تحير العقول، ويرمونهم بالسهام، فوقع سهم على هودج الملكة فصرخت صرخة عظيمة، وسمع الملك صراخها ونادى برجاله: «كونوا على حذر.» وكان هودج الأميرة جوليا بالقرب منه، فقبضت على سهم من السهام وقالت له: «انظر أيها الملك إن سهامهم لا رءوس لها!» فأقسم وقال: «لقد غلبتنا كلنا. فانظروا يا رجالي، إن السهام بلا رءوس والرماح بلا سنان فسيروا الهوينا لئلا يروا اضطرابنا فيضحكوا بنا.»
ولما اقتربوا من المحلة اجتمع هؤلاء الفرسان في صف واحد وساروا وراء فرسان الملك ريكارد، ثم خرج للقائهم كتيبة أخرى من الفرسان بالأسلحة المذهبة والخيول المطهمة، وكلهم في عنفوان الشباب، فلما التقوا بفرسان الملك ريكارد اصطفوا صفين، فاجتاز بينهم هو وفرسانه، وكان قد سار في مقدمتهم؛ لأنه علم أن السلطان قد خرج لاستقباله، ولم يكن إلا القليل حتى التقى هذان الملكان العظيمان، فترجلا وتصافحا، وكان السلطان لابسا أثوابا عاطلة من الزينة والزخرفة، وإنما كان في عمامته ريشة فيها الجوهرة الشهيرة المسماة بحر النور، وفي يده خاتم يساوي كل جواهر ريكارد وفي قبضة خنجره جوهرة نادرة المثال، ولما ترجلا ترجلت كل الفرسان ومشوا في خدمتهما.
وترحب السلطان بالملك ريكارد وعين خياما مخصوصة لنزول الملكة برنغاريا ورفيقاتها، وأرسل الخصيان لحراستهن، ثم التفت فرأى سيف الملك ريكارد طويلا عريضا، فقال له: «لو لم أر لمعان هذا السيف في ميدان القتال ما صدقت أنه يمكن لإنسان أن يرفعه بيديه، فهل لك أن تريني فعلك به؟» فقال: «حبا وكرامة.» ثم تناول لتا من الحديد من أحد الحضور ووضعه على خشبة فقال له البارون ده فو بالإنكليزية: «انتبه يا مولاي إلى ما أنت فاعل، فإنك لم تسترد عافيتك بعد المرض، فلا تحاول ضرب هذا اللت؛ لئلا تشمت العدو بنا.» فانتهره ريكارد، ثم استل سيفه وضرب اللت فبراه بري القلم. فتعوذ السلطان من هول تلك الضربة، ونظر إلى يد الملك الضخمة وقابلها بيده النحيفة، فقال ده فو بالإنكليزية: «ألا تخجل أن تقابل يدك بيد الأسد؟!» فقال له الملك: «اخرس، فلعله يفهم ما تقول.» فقال السلطان: «إنني لا أستطيع أن أضرب بسيفك، ولكن أستطيع شيئا آخر ربما تحب أن تراه.» وأمر فأتي بوسادة محشوة بريش النعام. فقال للملك: «أتقدر أن تقطع هذه الوسادة قطعتين بسيفك؟» فقال الملك: «كلا، وأي سيف يقطع ما لا مقاومة له؟!» فقال: «انظر.» ثم استل سيفه وضرب الوسادة فقطعها شطرين، فتقدم البارون ده فو وأمسك الشطرين بيده وقال: «هذا هو السحر بعينه!» وكأن السلطان فهم مقاله فأخذ منديلا دقيق النسج جدا وبسطه على حد السيف، ثم رفع السيف وجره فقص المنديل قطعتين، فتعجب الملك من مهارته، وقال: «وجب علينا أن نخاف من مهارتكم كما تخافون من قوتنا.» ثم سأله عن الحكيم، وقال: «إني أحب أن أراه.» فأمر السلطان فأتوه بقلنسوة فوضعها على رأسه، فاندهش الملك لما رأى أن الحكيم الذي شفاه من مرضه هو السلطان صلاح الدين نفسه، ووقف البارون ده فو مبهوتا وقد جحظت عيناه وانفتح فمه فقال الملك: «إن هذا لمن أعجب ما رأته عيني وسمعت به أذني.» فقال السلطان: «وهذا شأن الدنيا والمرء بأصغريه.» فقال الملك: «أأنت الذي نجى ذلك الفارس وصبغه بالصبغ الأسود، وأرسله لكشف العلم؟! جازاك الله عني خيرا.» فقال السلطان: «نعم، والفارس مستعد ليمحو عار تهامله.» فقال الملك: «وهل أخبرته بنفسك؟ وهل علمت أن أنظاره طامحة إلى من أنت راغب فيها؟» فقال: «نعم، ولكن محبته هي السابقة وأظنها الثابتة، فلا يليق بي أن أنتقم منه على خيبة آمالي؛ إذ لا ناقة له في ذلك ولا جمل. وما من عاقل يلوم تلك الفتاة إذا أحبت بطلا من قومها واستخارته علي.» فشمخ الملك ريكارد بأنفه، وقال: «إن دمه لأحقر من أن يمتزج بدم بلنتجنت.» فقال السلطان: «هذا عندكم وأما نحن فنقول:
لا تقل أصلي وفصلي أبدا
إنما أصل الفتى ما قد حصل
والآن علي أن أستقبل دوق النمسا ومن معه لا إكراما لهم، بل قياما بحقوق الضيافة.» قال ذلك وقام لمقابلة ضيوفه وإنزالهم في المكان المعد لهم، أما الملك ريكارد فجلس ينظم شروط المبارزة، وقضى عليها وقتا طويلا يشاور فيه دوق النمسا والسلطان صلاح الدين مرارا، ولما تمت الشروط كتبت بالعربية والفرنسوية، وأمضاها السلطان صلاح الدين والملك ريكارد والدوق ليوبولد، والأول بمقام فيصل في هذه المبارزة، والأخيران بمقام حاميين للمتبارزين على ما اقتضته المبارزة حينئذ، ثم دخل البارون ده فو على الملك ريكارد وقال: «إن الفارس المستعد للمبارزة منتظر أمر مولاه.» فقال له الملك: «أرأيته وهل هو في العدة الكاملة؟» فقال البارون: «نعم، وعليه الدرع البندقية التي عرضت على جلالتك للمبيع.» فقال الملك: «الظاهر أن هؤلاء البنادقة البخلاء باعوها لصلاح الدين.» فقال البارون: «يا حبذا لو كان مولاي يجتنب هذا الكلام، فإن الجميع قد صاروا أعداءنا بسببه، فإذا عادانا البنادقة أيضا فمن يساعدنا على الرجوع بحرا؟!» فقال الملك: «أصبت، ولكن لا تكثر اللوم والتعنيف. والآن أخبرني هل أتيت الفارس بمعرف؟» فقال: «نعم، أتيته بالناسك الكرملي الذي عرفه قبلا لما كان مستعدا للموت.» فقال الملك: «قل للفارس إنني لا أقابله إلا بعد أن يمحو وصمة ذنبه في ميدان النزال، واذهب إلى خيمة الملكة وقل لها أن تستعد لقدومي.» وبعد ساعة من الزمان ذهب الملك إلى خيمة الملكة فوجد أمام بابها واحدا من أشهر المغنين، فقال له: «علام لا تدخل؟» فقال: «لأن هؤلاء الخصيان يقطعونني إربا إربا إذا حاولت الدخول.» فقال له: «هلم معي.» فلما وقع نظر الخصيان على الملك أحنوا رءوسهم ووقفوا كالأصنام، فدخل هو والمغني والتقى هناك بالأميرة جوليا، فقال لها: «ألم تزالي حاقدة علينا يابنة العم؟» فقالت: «ومن يحقد على الملك ريكارد إذا ظهر بمظهره الطبيعي مظهر البسالة والنبالة والكرم.» قالت ذلك ومدت له يدها فقبلها علامة على المصالحة، وقال لها: «لا تظني يا عزيزتي أنني أظهرت ما لا يجب من الصرامة، فإن هذا الفارس قد تعدى واجباته، فهو مذنب شرعا، مهما كان السبب الذي دعاه إلى ذلك، وقد حانت له والحمد لله فرصة يخلع بها ثوب العار عنه ويلبسه للص الحقيقي، وهذا يسرني كما يسرك، ومهما لامني الناس على حدة طبعي، فلا حق لهم أن يلوموني على صرامتي؛ لأنني أقضي بالعدل حينما يجب العدل، وبالرحمة حينما تجوز الرحمة.»
فقالت له: «دع مدحك لغيرك، فقد يعد الناس عدلك جورا ورحمتك هوى.» فقال لها: «وأنت لا تفتخري علينا كأن فارسك خرج من الميدان منصورا؛ لأن كنراد منسرات (هو المركيز) بطل صنديد وقرم عنيد، فما يصيبك إذا قهر هذا الاسكتسي؟» فقالت: «إن ذلك ضرب من المحال؛ لأنني أنا رأيت كنراد يرتجف كالقصبة، فهو مجرم، والمبارزة ليست إلا بقضاء الله، والله يسكب كأس غضبه على رءوس المجرمين. ولو دعيت أنا لمبارزته لما تأخرت.» فقال: «هذا لا ريب فيه؛ لأنني لم أر أعرق منك في نسب بلتنجنت، ولكنني آمل أنك لا تنسين بعد منزلتك عن منزلة هذا الفارس.» فقالت: «ما معنى هذه النصيحة في مثل هذا الوقت؟ فهل تعدني من خفيفات العقول اللواتي يتقلبن مع الأهواء؟!» فقال: «كلا، ولكن أريد منك أن تقولي لي ماذا تكون منزلة هذا الفارس عندك إذا خرج من الميدان منصورا.» فاحمرت خجلا وقالت: «لا تكون منزلته عندي أكثر مما تكون عند الملكة برنغاريا لو حارب باسمها عوضا عن أن يحارب باسم فتاة حقيرة مثلي، وأنت تعلم أن أحقر الفرسان يمكنه أن يحارب باسم أعظم الملكات.» فقال: «ولكن هذا الفارس قد تحمل مشقات كثيرة من أجلك.» فقالت: «وأنا جازيته على قدر طاقتي؛ فكنت أفرح لسرائه وأحزن لضرائه، وهذا كل ما يناله مني.» فقال الملك: «كذا تقول البنات، ولكن إذا أتاهن طالب راغب ولج الطلب قلن: «هذا نصيبنا».» فقالت: «كن مطمئن البال يابن العم، فأنا ليس من نصيبي أن أتزوج بأحد إلا من ملتي ومن منزلتي، والآن أرجوك أن تدعني أسمع صوت المغني، فإنه أطرب لأذني من صوت توبيخك.»
الفصل السادس والعشرون
جرى الاتفاق على أن تكون المبارزة بعد شروق الشمس بساعة لشدة الحر في ذلك الغور. وكان طول ميدان المبارزة مائتي خطوة وعرضه سبعين خطوة، وهو ممتد شمالا وجنوبا لكي لا يتعرض أحد المبارزين لأشعة الشمس أكثر من رفيقه، ونصبوا شرقي الميدان عند منتصفه خدرا للملكة والنساء اللواتي معها لكي يرين المتبارزين والجموع المحتشدة، ولا يراهن أحد فلم ترض الملكة بذلك؛ لأن المرأة تحب أن ترى كما ترى، ولكنها سلمت به مراعاة لعوائد المشارقة. ونصبوا إلى غربيه عرشا للسلطان صلاح الدين، وعلى جانبيه عرشين آخرين؛ الواحد للملك ريكارد والآخر لدوق النمسا.
ورأى الدوق أن عرشه أوطأ قليلا من عرش الملك، فلم يرد أن يجلس عليه وعرف ذلك الملك فتجاهل وقال: «الأجدر بنا أن نبقى على فرسينا.» ولما أشرقت الشمس قام الملك ريكارد ومضى إلى حيث كان الفارس الاسكتسي، ورأى عدة حربه وجلاده، أما الدوق فلم يأت لرؤية المركيز؛ لأنه كان مترنحا بخمر شيراز التي قدمها له السلطان، فأتى رئيس الهيكليين عوضا عنه فمنعه الحرس من الدخول إلى خيمة المركيز وقالوا إن مولاهم قاصد أن يعترف أمام الناسك الكرملي.
فاضطرب الرئيس لما سمع ذلك. ودخل الخيمة غصبا عنهم، فرأى المركيز راكعا أمام الناسك، وقد هم أن يشرع في الاعتراف، فانتهره وقال له: «ما معنى هذا العمل؟! ألا تعلم أنني أنا هنا؟! فعلام لا تعترف لي؟! ثم أمر الناسك أن يخرج من هناك، فقال الناسك للمركيز: «إذا كنت لا تريد أن تعترف لي فأنا أخرج، ولكنني لا أخرج بأمر هذا الرئيس المتغطرس.» فقال المركيز: «كيف العمل؟ اخرج الآن وسنلتقي في وقت آخر.» فخرج الناسك بعد أن تهددهما بالعقاب. وجعل الرئيس يشجع المركيز ويشدد عزائمه، وسر بأنه منعه من الاعتراف عند غيره؛ لأن خفاياهما مشتركة.
ثم جاءت الساعة المعينة للمبارزة، وبوقت الأبواق واصطفت الفرسان حول الميدان، وركب الفارسان ورفعا المغافر عن وجهيهما، ودار كل واحد منهما ثلاث دورات، وكان الفارس الاسكتسي طلق الوجه باسما كأنه ذاهب إلى وليمة، وأما المركيز فكان عابسا مظهرا العظمة والعنفوان، فلم يخف ذلك على الناظرين إليهما، وكان الناسك والكهنة الذين حضروا معه قد أقاموا مذبحا بجانب خدر الملكة، فأتى الفارسان إلى هذا المذبح، وحلف كل منهما على الإنجيل الطاهر أنه محق في عمله وطلب من الله أن ينصر المحق منهما. وحلفا أيضا على أنهما لا يستعملان إلا الأسلحة العادية ولا يستخدمان السحر ولا الطلاسم، ودنا رئيس الهيكليين من المركيز وقال: «تشجع وتشدد وإلا فإن قهرت ونجوت من يد هذا الفارس فلا تنجو من يدي.» وصلى الكهنة وطلبوا من الله أن يقضي بالعدل بين المتبارزين، ثم بوقت الأبواق ونادى المنادي قائلا: «قد أتى الفارس وليم الاسكتسي بالنيابة عن الملك ريكارد ملك إنكلترا الذي ادعى على كنراد مركيز منسرات أنه خانه وأهان شرفه.» ونادى المركيز مبررا نفسه، وقال إنه راض بهذه المبارزة لتزكية قوله، وحينئذ تقدم حاملا الأسلحة، وقدما للفارسين رمحيهما وترسيهما، وكان على ترس الفارس الاسكتسي صورة النمر وسلسلة مقطوعة إشارة إلى أسره، وعلى ترس المركيز صورة أرض كثيرة الأطناف والصخور.
ووقف الفارسان أحدهما قبالة الآخر، وأرخى كل منهما مغفره على وجهه فتغطيا بالحديد، وأحدقت بهما العيون وشخصت إليهما الأبصار، ثم أشار السلطان فبوقت الأبواق وانقض الفارسان أحدهما على الآخر فالتقيا في حومة الميدان، وطعن كل خصمه طعنة ترقص لها عجائز وائل، فاستلقى الفارس رمح خصمه بترسه فتشظى الرمح شظايا صغيرة من سنانه إلى رجه. وتقهقر جواد الفارس سبع خطوات ووقع على عجزه، ولكنه أنهضه حالا فلم ينله مكروه. واستلقى المركيز رمح الفارس بترسه فخرق الترس والدرع والزردية وجرحه جرحا بليغا في صدره وألقاه عن ظهر جواده فوقع يتمرغ بالتراب، ثم استل الفارس سيفه ووقف فوق رأسه وقال له: «اعترف بذنبك!» وكان السلطان صلاح الدين والملك والدوق وغيرهم من الأمراء قد اجتمعوا حول المركيز، وكشفوا الخوذة عن رأسه فنظر إلى السر وليم وقال له: «قد قضى الله بالعدل وأنا المذنب، ولكن في مخيمنا من ذنبه أعظم من ذنبي، فارحموني وأتوني بأحد يعرفني.» فالتفت الملك ريكارد إلى السلطان صلاح الدين وقال له: «علينا بدوائك المشهور أيها السلطان لحفظ حياة هذا المركيز ولو ساعة من الزمان.» فقال السلطان: «إن هذا الرجل لا يستحق أن يحيا، ولكني إكراما لك أستعمل له الدواء.» ثم نادى خدمه وقال: «احملوه إلى خيامكم.» فتقدم الدوق والرئيس وقالا: «لا نريد أن تستعمل له أدوية مسحورة، ولا أن يحمل إلى غير خيامنا.» فالتفت إليهما الملك وقال: «ألا تريدان أن يعالج ويشفى؟» فقال الرئيس: «إذا أراد السلطان أن يعالجه فليكن في خيامنا.» فالتمس الملك من السلطان أن يتنازل إلى ذلك، ثم نادى رجاله وقال: «بوقوا بالأبواق.» ونادوا بشرف إنكلترا والتفت إلى السر وليم وقال له: «هلم أيها البطل إلى حضرة السيدات، فهن أعلم منا بمجازاة الأبطال.» ولما صارا في حضرة الملكة ناداها ونادى الأميرة جوليا، وطلب منهما أن تنزعا أسلحة الفارس بيديهما إكراما لما أظهره من القوة والبسالة، فركع أمامهما وجعلتا تنزعان أسلحته كما أمرهما الملك، ولما نزعتا الخوذة عن رأسه وبان وجهه الصبوح من تحتها قال الملك: «أهذا وجه العبد النوبي أم هو وجه فارس مجهول الحسب والنسب؟ لا وتربة أجدادي ههنا انتهت مدة تخفيك أيها الأمير العظيم، فقد ركعت أمامنا ولا يعرف من أمرك إلا ما اشتهرت به من البسالة والإقدام، فقم مكللا بالمجد والشرف، قم أيها البرنس داود ابن ملك اسكتلندا وولي عهده!»
فاندهش جميع الذين سمعوا هذا الكلام، وكانت الخوذة بيد الأميرة جوليا فسقطت من يدها لشدة دهشتها، فقال الملك: «نعم أيها السادة، إن اسكتلندا وعدتنا أن تنجدنا بهذا الأمير الجليل وبكتيبة من نخبة رجالها، ثم عدلت عن عزمها، فلم يرتض هذا الأمير أن يغمد السيف الذي كان قد وطن نفسه على نجدتنا به، فجمع نفرا من الفرسان وغير اسمه وانضم إلينا في جزيرة صقلية، ثم قتل كل أتباعه ولم يبق معه إلا واحد منهم، وكاد هذا التخفي يجعلنا نقتل أشرف أمير من أمراء أوروبا. لماذا لم تعرفنا بنفسك أيها الأمير؟ أخفت من أننا نغتنم هذه الفرصة ونفتك بك لما بيننا وبين قومك من العدوان؟»
فقال الأمير: «كلا أيها الملك، فإن ذلك لم يخامر فكري قط، ولكن لم تسمح عزة نفسي أن أتخذ نسبي وسيلة للتكفير عن ذنبي، ولا سيما لأنني آليت على نفسي أن أبقى متخفيا إلى أن تنقضي هذه الحرب، ولم أظهر من أنا إلا عند الضرورة الشديدة، وذلك في سر الاعتراف لهذا الناسك.» فقال الملك: «قد فهمنا الآن لماذا كان الناسك يلح علينا أن نحجب دمك، ولماذا قال إننا سنندم ونود لو قطعت يدنا ولم نقتلك. نعم نود أن يقطع رأسنا ولا يقال: «إن ريكارد قتل ولي عهد اسكتلندا لما كان في قبضة يده».»
فقالت الملكة: «ألا يجوز لنا أن نعرف أيها الملك كيف اتصلت إلى معرفة أصل هذا الأمير الجليل؟»
فقال: «أتتنا رسائل من بلادنا تقول إن ملك اسكتلندا قبض على ثلاثة من أشرافنا وأخذهم رهنا، مدعيا أن ابنه الذي ظنه أولا في جرمانيا هو معنا في هذه الحرب، ثم إن ده فو رأى خادم هذا الأمير في عسقلان، وكان قد ذهب إليها ليكشف لده فو هذا السر الذي كان يجب عليه أن يكشفه لنا ولا يتحمل مشقة السفر.»
فقال ده فو: «يجب أن تعذره؛ لأنه يعلم أنني ألين قلبا من آل بلنتجنت.» فصرخ الملك: «أأنت ألين منا قلبا؟ معاذ الله! فنحن في السلم إنس وفي يوم الوغى جان، نحن ألين الناس قلبا، أليس الأمر كذلك يا جوليا؟» قال ذلك والتفت إليها وأخذ يدها ويد البرنس داود بيده فصبغ الخجل وجنتيها وكلل العرق جبينها.
وكان السلطان صلاح الدين قد أدب مأدبة للملك ريكارد ورجاله ودوق النمسا ورجاله، فأتى الضيوف إلى مكان الوليمة فوجدوه خيمة فسيحة الرحاب مفروشة بالبسط الفاخرة، وفيها سماط من الحرير الصيني الموشى بالذهب، وعليه صحاف الطعام وكئوس الشراب، وهي من الذهب الإبريز والخزف الصيني النادر المثال، والشراب مبرد بالثلج ومطيب بالطيوب الغالية الأثمان، وحول السماط وسادات من الحرير والكشمير ليجلس عليها الفرسان بدل الكراسي، وجدران الخيمة مغطاة بالأعلام والبيارق التي غنمها السلطان في حروبه وفتوحه.
وقبل أن يدخل الضيوف ركض نكتبانس القزم إلى السلطان وهو يقول باللاتينية: «خذها خذها.» ثم قص عليه قصة وهو يرتجف ويرتعد، وحينئذ بوقت الأبواق معلنة قدوم الضيوف، فقام صلاح الدين للقائهم وترحب بهم وهنأ البرنس داود (أي السر وليم) على الظفر. وقبل أن يشرعوا في الطعام التفت البرنس إلى الجلاب الذي أمامهم، وكان مبردا بقطع الثلج وقال: «عجبا ممن لا يعرف الجليد ويبرد شرابه بالثلج!» أشار بذلك إلى ما جرى بينهما من الحديث بقرب درة القفر. فأجابه السلطان: «البس لكل حالة لبوسه، وأنا لم يحسن بي أن أكلمك حينئذ إلا بما كلمتك.» فلما سمع دوق النمسا ذكر الثلج التفت فرأى كئوس الجلاب مبردة به فتناول كأسا كبيرة وجرع جرعة منها وناولها لرئيس الهيكليين فهم أن يشربها، وكان صلاح الدين واقفا بجانبه فنادى القزم فأقبل وهو يقول باللاتينية: «خذها خذها.» فارتعدت فرائص المركيز وأدنى الكأس من فمه ليخفي اضطرابه، وقبل أن تمسها شفتاه استل صلاح الدين سيفه وضربه به فأطاح رأسه عن كتفيه وبقيت جثته لحظة قائمة وقابضة الكأس، فأجفل دوق النمسا حاسبا أن رأسه يكون الثاني ووضع بقية الفرسان أيديهم على سيوفهم، فالتفت إليهم السلطان وقال: «لا تخف أيها الدوق، وأنت أيها الملك لا تغتظ مما جرى، فإنني لم أقتل هذا الخائن لأنه حاول قتلك غدرا، ولا لأنه تبعني وتبع هذا الأمير (مشيرا إلى البرنس) وحاول الإيقاع بنا، ولا لأنه جيش الموارنة علينا في هذا الوقت حتى اضطررت أن أضع جيوشي على مقربة منا خوفا، بل لأنه منذ أقل من نصف ساعة طعن مركيز منسرات طعنة قضت عليه لكي لا يعترف بالمكايد الكثيرة التي كان مشتركا معه فيها.»
فصرخ ريكارد: «أقتل كنراد؟! أوقتله هذا الرجل؟!» إنني لا أشك في قولك أيها السلطان المعظم، ولكن لا بد من إقامة البينة على ذلك وإلا اضطررتنا إلى ما لا نحب.»
فقال السلطان: «إن الله سبحانه وتعالى يكشف الخفيات، وما على الله أمر عسير، ثم قص عليهم ما أخبره به القزم وهو أنه دخل خيمة المركيز فوجده نائما بفعل الدواء، ولم يجد عنده أحدا، ثم رأى رئيس الهيكليين مقبلا فاختفى في زاوية من الخيمة بحيث يرى ولا يرى، فدنا الرئيس من المركيز ففتح المركيز عينيه وكأنه أوجس منه خيفة، فجعل يتوسل إليه أن يرفق به، فقال له الرئيس: «قد أتيت لأحلك.» ثم طعنه بخنجره في صدره وهو يقول: «خذها خذها.» فقتله، وإن كنتم في ريب من ذلك فانظروا في جثة المركيز.» فقال الملك ريكارد: «إننا متأكدون صدق مقالك، ولكن علام قتلته بيدك؟ وعلام قتلته هذه الساعة؟» فقال السلطان: «إنه لو أكل من طعامي وشرب من شرابي لحرم علي قتله ولزمتني حمايته، ولو كان قاتلا أبي.» ثم أمر فرفعوا الجثة وأزالوا البسط الملطخة بالدماء، وأقام لضيوفه بحقوق الضيافة، ولكن كانت أفكارهم مضطربة فلم يلتذوا بطعام ولا بشراب.
وفي اليوم التالي عقدت شروط الصلح بين السلطان صلاح الدين والملك ريكارد ومن معه من الأمراء الصليبيين، كما هي مقررة في كتب الأخبار، وعاد الصليبيون إلى أوطانهم واقترن البرنس داود بالأميرة جوليا، وأرسل إليهما السلطان صلاح الدين هدية نفيسة وفي جملتها الطلسم الذي شفى به الملك ريكارد، وهو حجر صغير مثلث الشكل أحمر اللون، ولم يزل هذا الحجر في اسكتلندا إلى يومنا هذا. ا.ه.
الخاتمة
قد لخصنا هذه الرواية من رواية إنكليزية شهيرة اسمها الطلسم (تلسمن) للكاتب البليغ السر والتر سكوت، وتصرفنا فيها بزيادة، وإسقاط، وتغيير، وإبدال؛ لتوافق ذوق القراء في هذه البلاد، وهي تطابق الحقائق التاريخية في أكثر وقائعها. وأشهر مخالفتها لها في أن دوق النمسا لم ينصب علمه بجانب علم الإنكليز في وسط المحلة، بل على أسوار عكاء، ومركيز منسرات لم يقتله رئيس الهيكليين بل اغتاله اثنان من الخوارج في مدينة صور، وصلاح الدين لم يقتل رئيس الهيكليين بل قتل رينو ده شاتيليون أمير الكرك. ومن جملة فوائد هذه الرواية الجليلة تفصيل عوائد الناس في تلك الأيام، وتمثيل أحوالهم أحسن تمثيل، فعسى أن تقع عند القراء الكرام موقع القبول والاستحسان.
Unknown page