مُقَدّمَة الْمُؤلف
الْحَمد لله الَّذِي أنزل الْقُرْآن الْمُبين مَعَ الرّوح الْأمين على قلب سيد الْمُرْسلين وَجعل مِنْهُ النَّاسِخ والمنسوخ رَحْمَة للْمُؤْمِنين وفتنة للْكَافِرِينَ أَحْمَده ﷾ على نعْمَة الْإِسْلَام وتيسير أُمُور الْمُسلمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيد الْعَالمين وأمام الْمُتَّقِينَ النَّاسِخ بمحكم أَحْكَام شَرِيعَته مَا سلف من شرائع النَّبِيين وعَلى آله وَأَصْحَابه أولى البصيرة وَالْيَقِين وعَلى الْأَئِمَّة الْعلمَاء الْأَعْلَام من التَّابِعين وتابع التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين
وَبعد
فَهَذِهِ عرائس تجلى للناظرين ونفائس تشرى بالدر الثمين جمعت فِيهَا آيَات النَّاسِخ والمنسوخ بعد أَن كَانَت لطول كَلَام الْأَئِمَّة مفرقة بالغت حسب الطَّاقَة فِي ضمهَا وقدمت بعض فوائدي إِلَيْهَا فَإِذا هِيَ عرائس مشرقة هَذَا وَقد صنف الْأَئِمَّة من الْعلمَاء الْأَعْلَام فِي نَاسخ الْقُرْآن ومنسوخه كتبا جمة إرشادا لأهل الْإِسْلَام فَمن جُمْلَتهَا كتاب هبة الله الْمُفَسّر الْبَغْدَادِيّ الْعَلامَة الْأَمَام ذكر انه استخرج مَا فِيهِ من كتب عدتهَا خَمْسَة وَتسْعُونَ كتابا على التَّمام
1 / 19
فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك وَعلمت أَن علم النَّاسِخ علم الْحَلَال من الْحَرَام وَفِيه من الغموض مَعَ كَثْرَة التَّطْوِيل مَا يدق فهمه عَن كثير من ذَوي الأفهام دَعَاني دَاعِي الْمَشِيئَة والإلهام إِلَى جمع مؤلف مزيلا للظلام مبالغا فِي اختصاره على وضوحه خشيَة تَطْوِيل الْأَحْكَام لَا سِيمَا والهمم قد ضعفت والنفوس قد جبلت على حب الْمُخْتَصر من الْكَلَام واعتمدت فِيهِ على مَا ذكره الْأَئِمَّة الْعلمَاء من الْمُفَسّرين هداة الْأَنَام
وَمَعَ ذَلِك فالفقير معترف بقصر الباع مغترف من بَحر غَيره للِانْتِفَاع موقن بِأَن أغراض المصنفين أغراض سِهَام أَلْسِنَة الحساد مَا وجدوا إِلَيْهَا سَبِيلا سنة الله الَّتِي قد خلت من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وسميته
قلائد المرجان فِي بَيَان النَّاسِخ والمنسوخ فِي الْقُرْآن فَأَقُول وَالله خير موفق ومعين وَبِه فِي أموري كلهَا استعين لَطِيفَة فِيهَا الْحَث على معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ وذم من لم يعرفهُ وَلَو كَانَ عِنْده فِي الْعلم رسوخ
قَالَ صَاحب كتاب الإيجاز رُوِيَ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عليا كرم الله وَجهه رأى رجلا فِي الْمَسْجِد يذكر النَّاس فَقَالَ لَهُ أتعرف النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ قَالَ لَا فَقَالَ لَهُ هَلَكت وأهلكت وَأخرجه من الْمَسْجِد وَمنعه من الْقَصَص فِيهِ وَرُوِيَ مثل ذَلِك عَن عبد الله بن عَبَّاس وَأَنه ركله بِرجلِهِ وَقَالَ لَهُ هَلَكت وأهلكت
وروى عَن ابْن عَبَّاس فِي قَول الله تَعَالَى
﴿وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا﴾ فَقَالَ هُوَ معرفَة الْقُرْآن الْكَرِيم ناسخة ومنسوخة ومحكمة ومتشابهة
1 / 20
ومجمله ومفصله ومقدمة ومؤخرة وَحَرَامه وَحَلَاله وَأَمْثَاله
وروى عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان أَنه قَالَ
إِنَّمَا يُفْتِي النَّاس أحد ثَلَاثَة رجل يعلم مَنْسُوخ الْقُرْآن وناسخه وَرجل قَاض لَا يجد من الْقَضَاء بُد وَرجل متكلف وَلست بِالرجلَيْنِ الماضيين وأكره أَن أكون الثَّالِث
قَالَ الشَّيْخ الْجَلِيل هبة الله بن سَلامَة فِي كِتَابه النَّاسِخ والمنسوخ
جَاءَ عَن أَئِمَّة السّلف أَن من تعلم فِي شَيْء من علم هَذَا الْكتاب وَلم يعلم النَّاسِخ والمنسوخ كَانَ عمله نَاقِصا لِأَنَّهُ يخلط النَّهْي بِالْأَمر وَالْإِبَاحَة بالحظر
إِذا علمت ذَلِك فَعلم النَّاسِخ والمنسوخ أَمر مُهِمّ ومتفق عَلَيْهِ وَبَيَانه فرض لَازم فَلذَلِك سارعت إِلَيْهِ وَوضعت فِيهِ هَذَا الْمُخْتَص على أحسن تأسيس وأبرزت فِيهِ الْفَوَائِد لطَالب النفيس وقللت حجمه لنيل المطالب ووضحت نظمه ليقرب فهمه على الطَّالِب وَلم أودعهُ إِلَّا مَا وَجب التَّنْبِيه عَلَيْهِ ودعت الْحَاجة إِلَيْهِ وَقد ختمته أخيرا بِأَحْسَن خَاتِمَة راجيا من الله فِي الْآخِرَة حسن الخاتمة
وَبِاللَّهِ مولَايَ أستعين فَهُوَ نعم الْمولى وَنعم الْمعِين
1 / 21
ﷺ َ - الْبَاب الأول
الْفَصْل الأول
مُقَدّمَة فِي معنى النّسخ
قَالَ الْعلمَاء بِلِسَان الْعَرَب النّسخ لُغَة التبديل وَالرَّفْع والإزالة وَالنَّقْل وَسَيَأْتِي مَعْنَاهُ شرعا وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُم النّسخ على ثَلَاثَة أَقسَام
الأول من مَعَاني النّسخ فِي الْقُرْآن بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيّ أَن يكون مأخوذا من قَول الْعَرَب نسخت الشَّمْس الظل إِذا أزالته ورفعته بانبساطها وحلت مَحَله وَهَذَا مُوَافق لما أَزَال الْقُرْآن لَفظه وَحكمه وَحل مَحَله
قلت ويمثل لَهُ بِآيَة الْخمس رَضعَات أَو حكمه دون لَفظه
الثَّانِي أَن يكون مأخوذا من قَوْلهم نسخت الرّيح الْآثَار وَكَذَا يَقُولُونَ فِي الأمطار إِذا أزالتها ومحتها قلت وَهُوَ بِمَعْنى الأول من حَيْثُ الْإِزَالَة لَا من حَيْثُ الْحُلُول لِأَن الرّيح لَا تحل مَحل مَا أزالته حينا وَهَذَا مَوَاقِف فِي الْقُرْآن لما زَالَ لَفظه دون حكمه كآية الرَّجْم
1 / 22
أَو زَالا مَعًا
الثَّالِث أَن يكون مأخوذا من قَوْلهم نسخت الْكتاب إِذا نقلته حاكيا للفظه وحروف هجائه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْمَعْرُوف بمكي فِي كِتَابه النَّاسِخ والمنسوخ وَهَذَا الْوَجْه لَا يَصح أَن يكون فِي الْقُرْآن وَأنكر على جَعْفَر أَحْمد بن النّحاس حَيْثُ أجَاز أَن يكون فِي الْقُرْآن وَاحْتج بِأَن النَّاسِخ فِيهِ لَا يَأْتِي بِلَفْظ الْمَنْسُوخ وَإِنَّمَا يَأْتِي بِلَفْظ آخر
وانتصر صَاحب كتاب الإيجاز لِأَبْنِ النّحاس فَقَالَ وَالَّذِي قَالَه أَبُو جَعْفَر قَرِيبا مُسْتَعْملا فِي كتاب الله قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ وَقَالَ ﴿وَإنَّهُ فِي أم الْكتاب لدينا﴾ الْآيَة وَمَعْلُوم أَن مَا نزل من الْوَحْي هُوَ مَا فِي أم الْكتاب وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ كَمَا قَالَ تَعَالَى
﴿فِي كتاب مَكْنُون لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ﴾ وَمِنْه ينْقل مَا ينزل
قَالَ تَعَالَى ﴿يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب﴾ فَهَذَا أدل دَلِيل على جَوَاز النّسخ فِي كتاب الله تَعَالَى يَعْنِي بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور
فالقرآن على هَذَا التَّأْوِيل مَنْسُوخ من أم الْكتاب مَنْقُول بالخط وحروف الهجاء وَأم كل شَيْء فِي كَلَام الْعَرَب أَصله
وَأم الْكتاب اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَالَّذِي علل بِهِ مكي وَاعْترض لَا يبطل اسْتِعْمَال هَذَا الْوَجْه ومجيئه
قلت وَفِي جَوَاب صَاحب الإيجاز عَن ابْن النّحاس ليرد مَا قَالَه مكي نظر فَأن هَذَا أَمر مُتَّفق عَلَيْهِ
وَالْقُرْآن بِهَذَا الْمَعْنى كُله مَنْسُوخ لِأَنَّهُ نسخ من اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَي نقل مِنْهُ وَلَيْسَ هُوَ بِمُرَاد مكي فَأَنَّهُ لَا يجهل ذَلِك وَلَا يَسعهُ إِنْكَاره
1 / 23
فالاحسن حمل كَلَام مكي على الْقُرْآن بعد نُزُوله مَعَ الرّوح الْأمين على قلب سيد الْمُرْسلين
والنسخ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور ينفى مِنْهُ قطعا
فَكَلَام مكي على هَذَا فِي غَايَة التسديد لَكِن اعتراضه على ابْن النّحاس غير سديد لحمل كَلَامه على مَا قَالَه صَاحب الإيجاز إِذن لَا خلاف بِحَسب الْحَقِيقَة فَتَأمل
1 / 24
الْفَصْل الثَّانِي
فَائِدَة فِي أَقسَام الْمَنْسُوخ فِي الْقُرْآن
هُوَ سِتَّة
الأول مَا رفع رسمه من غير بدل مِنْهُ وبقى حكمه مجمعا عَلَيْهِ نَحْو آيَة الرَّجْم
قَالَ الإِمَام عمر وَالله لقد قَرَأنَا على عهد رَسُول الله ﷺ لَا ترغبوا عَن آبائكم فَإِن ذَلِك كفر بكم الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم
1 / 25
وَقد رجم ﵊ المحصنين وَهُوَ المُرَاد بالشيخ وَالشَّيْخَة
الثَّانِي مَا رفع حكمه بِحكم آيَة أُخْرَى وَبَقِي رسمه وَكِلَاهُمَا ثَابت بِاللَّفْظِ والخط فِي الْمُصحف الْمجمع عَلَيْهِ
وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَر فِي الْمَنْسُوخ كآيتي عدَّة الْوَفَاة قَالَ هبة الله إِن هَذَا فِي ثَلَاث وَسِتِّينَ سُورَة
1 / 26
الثَّالِث مَا رفع حكمه ورسمه وَزَالَ حفظه من الْقُلُوب
وَإِنَّمَا علم ذَلِك من أَخْبَار الْآحَاد كَمَا رُوِيَ عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنه قَالَ نزلت سُورَة نَحْو بَرَاءَة ثمَّ رفعت
وروى هبة الله الْبَغْدَادِيّ فِي كِتَابه عَن أنس بن مَالك أَنه قَالَ كُنَّا نَقْرَأ على عهد رَسُول الله ﷺ سُورَة تعدلها سُورَة التَّوْبَة مَا أحفظ مِنْهَا إِلَّا آيَة وَاحِدَة وَهِي لَو أَن لِأَبْنِ آدم واديين من ذهب لابتغى لَهما ثَالِثا وَلَو أَن لَهُ ثَالِثا لابتغى إِلَيْهِمَا رَابِعا فَلَا يمْلَأ جَوف ابْن آدم إِلَّا التُّرَاب وَيَتُوب الله على من تَابَ وَكَذَلِكَ روى ابْن مَسْعُود قَالَ أَقْرَأَنِي النَّبِي ﷺ آيَة فحفظها وأثبتها فِي مصحفي فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل رجعت إِلَى حفظي فَلم أَجدهَا وغدوت على مصحفي فَإِذا التَّوْرَاة بَيْضَاء فَأخْبرت رَسُول الله ﷺ
فَقَالَ لي يَا ابْن مَسْعُود تِلْكَ رفعت البارحة
وَذكروا أَن سُورَة الْأَحْزَاب كَانَت مثل سُورَة الْبَقَرَة فَرفع أَكْثَرهَا
1 / 27
الرَّابِع مَا رفع حكمه ورسمه وَلم يزل حفظه من الْقُلُوب فَلذَلِك وَقع الِاخْتِلَاف فِي الْعَمَل بالناسخ وَهَذَا أَيْضا إِنَّمَا علم من طَرِيق أَخْبَار الْآحَاد نَحْو حَدِيث مُسلم عَن عَائِشَة ﵂ كَانَ فِيمَا أنزل الله عشر رَضعَات مَعْلُومَات فنسخت بِخمْس مَعْلُومَات فَحكم الْعشْر رَضعَات غير مَعْمُول بِهِ إِجْمَاعًا وَإِنَّمَا الْخلاف فِي التَّحْرِيم برضعة وَاحِدَة على نَص الْقُرْآن فِي قَوْله ﴿وأخواتكم من الرضَاعَة﴾
قلت وبظاهر نَص الْقُرْآن أخذت الْحَنَفِيَّة والمالكية فحرموا برضعة وَبِحَدِيث عَائِشَة أخذت الشَّافِعِيَّة والحنابلة فحرموا بِخمْس رَضعَات
الْخَامِس مَا فرض الْعَمَل بِهِ لعِلَّة ثمَّ ترك الْعَمَل لزوَال الْعلَّة الْمُوجبَة وبقى اللَّفْظ والخط نَحْو قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار﴾ الْآيَة وَقَوله
1 / 28
تَعَالَى ﴿وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا﴾ كل ذَلِك أمروا بِهِ بِسَبَب المهادنة الَّتِي كَانَت بَينه ﵊ وَبَين مُشْركي قُرَيْش ثمَّ زَالَ ذَلِك الْفَرْض لزوَال الْعلَّة وَهِي الْهُدْنَة
السَّادِس مَا حصل من مَفْهُوم الْخطاب بقرآن متلو وَنسخ وبقى الْمَفْهُوم مِنْهُ متلوا
نَحْو قَوْله تَعَالَى ﴿لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى﴾ فهم من هَذَا أَن السكر جَائِز إِذا لم يقرب بِهِ الصَّلَاة فنسخ ذَلِك الْمَفْهُوم بقوله ﴿فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ﴾
فَحرم الْخمر وَالسكر من الْخمر وبقى اللَّفْظ الْمَفْهُوم مِنْهُ متلوا
1 / 29
الْفَصْل الثَّالِث
فَائِدَة فِي أَقسَام النَّاسِخ من الْقُرْآن
وَهُوَ ثَلَاثَة
الأول أَن يكون النَّاسِخ فرضا والمنسوخ كَانَ فرضا وَلَا يجوز فعل الْمَنْسُوخ بعد نسخه نَحْو قَوْله تَعَالَى ﴿واللاتي يَأْتِين الْفَاحِشَة من نِسَائِكُم﴾ الْآيَة
نسخ آيَة الْحَبْس إِلَى الْمَوْت بِآيَة الْجلد
قَالَ بعض الْعلمَاء هَذِه الْآيَة نسخ الله أَولهَا بآخرها وَهُوَ قَوْله ﴿أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا﴾ وَبَين السَّبِيل مَا هُوَ بِآيَة الْجلد
الثَّانِي أَن يكون النَّاسِخ فرضا والمنسوخ كَانَ فرضا وَنحن مخيرون فِي فعل الْفَرْض الْمَنْسُوخ وَتَركه نَحْو قَوْله تَعَالَى ﴿إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ﴾ الْآيَة
فَفرض على الْمُؤمن الْوَاحِد أَلا ينهزم من عشرَة من الْمُشْركين ثمَّ نسخ بقوله تَعَالَى ﴿فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ﴾ فَفرض على الْمُؤمن الْوَاحِد أَلا ينهزم من اثْنَيْنِ من الْمُشْركين
1 / 30
وَفعل الْفَرْض الْمَنْسُوخ غير محرم بل جَائِز لنا فعله وَنحن مأجورون عَلَيْهِ فَلَو وقف وَاحِد من الْمُؤمنِينَ لعشرة من الْمُشْركين صَار محتسبا منتظرا للنصر من الله الَّذِي جَاءَ بِهِ وعده الصَّادِق لم يكن عَاصِيا بل جَزَاؤُهُ الْأجر الْكَبِير
قَالَ تَعَالَى ﴿كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة﴾ الْآيَة
وَقَالَ بَعضهم وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى ﴿شهر رَمَضَان الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن﴾ نسخ فرض صِيَامه مَا كَانَ كتب على الَّذين من قبلنَا من صَوْم عَاشُورَاء وَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر فَهَذَا فرض نسخ فرضا فعل الْمَنْسُوخ جاءئز لنا وَنحن عَلَيْهِ مأجرون
الثَّالِث أَن يكون النَّاسِخ أمرا بترك الْعَمَل بالمنسوخ الَّذِي كَانَ فرضا وَنحن مخيرون فِي فعل الْمَنْسُوخ وَتَركه وَفعله أفضل وَذَلِكَ مَا نسخ من قيام اللَّيْل بعد أَن كَانَ فرضا
وَمثله مَا كَانَ فرضا على الْمُسلمين من تَحْرِيم الْأكل وَالشرب وَالْوَطْء فِي شهر رَمَضَان بعد النّوم فَهَذَا النَّاسِخ أَمر بترك الْمَنْسُوخ مَعَ أَن لنا فعله
وَزَاد بَعضهم قسما رَابِعا وَهُوَ أَن يكون النَّاسِخ فرضا والمنسوخ كَانَ ندبا كالقتال كَانَ ندبا ثمَّ صَار فرضا
قَالَ بَعضهم وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة لَا يُسمى نسخا وَإِنَّمَا هَذَا أَمر مُؤَكد وَلَا رخصَة فِيهِ وتاركه عَاص معاقب
وَالْأول كَانَ تَاركه محروم الْأجر لَا غير فَصَارَ صَرِيح الْأَمر فارضا لِلْقِتَالِ
1 / 31
الْفَصْل الرَّابِع
فَائِدَة فِيمَا يجوز أَن يكون نَاسِخا ومنسوخا
وَذَلِكَ خَمْسَة أَقسَام
الأول
نسخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ وَهُوَ ثَابت بِالْإِجْمَاع كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿مَا ننسخ من آيَة﴾ أَي حكم آيَة ﴿أَو ننسها﴾
أَي نتركها فَلَا ننسخها أَو نؤخر حكمهَا فَيعْمل بِهِ حينا نأت بِخَير مِنْهَا
أَي أَنْفَع مِنْهَا
ثمَّ قَالَ تَعَالَى ﴿ألم تعلم أَن الله على كل شَيْء قدير﴾ من أَمر النَّاسِخ والمنسوخ لِأَن إثباتهما فِي الْقُرْآن دلَالَة على الوحدانية ﴿أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر﴾
1 / 32
الثَّانِي نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ
وَفِيه خلاف بَين الْعلمَاء فَمنهمْ من منع وَمِنْهُم من أجَاز وعَلى الْجَوَاز أَكثر الْأَئِمَّة وَجُمْهُور الْعلمَاء
فَمن منع احْتج بِأَن السّنة مبينَة لِلْقُرْآنِ فَلَا يجوز أَن يكون الْمُبين نَاسِخا للمبين لِأَن نسخ مَا يبين الشَّيْء دَاع إِلَى عدم الْبَيَان
قَالَ تَعَالَى ﴿لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم﴾
وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا﴾ الْآيَة
وَأجِيب عَن الْجُمْهُور
بِأَن هَذَا لَيْسَ بدافع لما قَالُوا بِهِ من الْجَوَاز لِأَنَّهُ إِذا جَازَ نسخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الَّذِي لَا يجوز على منزله البداء فِيهِ فأحرى وَأولى أَن يكون الْقُرْآن نَاسخ فعل من يجوز عَلَيْهِ البداء
أَلا ترى أَن ﵊ كَانَ قد أحل الْمُتْعَة فِي بعض الْغَزَوَات ثَلَاثَة أَيَّام وَأمر الْمُسلمين بالتوجه إِلَى بَيت الْمُقَدّس فِي الصَّلَاة ورد من جَاءَ مُهَاجرا من الْمُشْركين للمعاهدة وَغير ذَلِك من أَفعاله الَّتِي نسخهَا الله تَعَالَى بِمَا أنزل عَلَيْهِ نَحْو مَا نسخ سُبْحَانَهُ من فعله ﵊ وَفعل أَصْحَابه بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْكَلَام فِي الصَّلَاة بقوله تَعَالَى ﴿وَقومُوا لله قَانِتِينَ﴾
وَنَحْو استغفاره ﵇ لِعَمِّهِ نسخ بقوله تَعَالَى ﴿مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين﴾ وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن
1 / 33
قلت هَذَا حَاصِل مَا قَالُوهُ وَفِي الْحَقِيقَة لَا خلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ لِأَن من أجَاز نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ أطلق فِي السّنة وَمن منع قيد السّنة المبينة لِلْقُرْآنِ وَلَا شكّ أَن الْمُبين لِلْقُرْآنِ من السّنة لَا ينْسَخ وَلَو سلمنَا نسخ السّنة المبينة لِلْقُرْآنِ لرجع فيالحقيقة إِلَى نسخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ فَإِذا لَا خلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ بِحَسب الْحَقِيقَة فأفهم
فَأَنِّي لم أر أَي حرج بِالْجمعِ بَين كَلَام الْفَرِيقَيْنِ وَيُؤَيّد مَا قلته قَول بعض الْمُحَقِّقين أَن الْمُبين من السّنة لِلْقُرْآنِ نوع على حِدته لَا يُسمى نَاسِخا وَلَا مَنْسُوخا
الثَّالِث نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ المتواترة
وَهَذَا أَيْضا فِيهِ خلاف كثير بَين الْعلمَاء فَمنهمْ من أجَاز وَمِنْهُم من منع
1 / 34
فَقَالَ الْمُجِيز إِن قَول النَّبِي ﷺ لَا وَصِيَّة لوَارث نَاسخ لقَوْله تَعَالَى ﴿الْوَصِيَّة للْوَالِدين﴾ الْآيَة
وَاحْتج بقوله تَعَالَى ﴿وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا﴾ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى﴾ فعمم وَلم يخصص فَوَجَبَ علينا قبُوله
وَقَالَ الْمَانِع الْقُرْآن معْجزَة وَالسّنة غير معْجزَة فَلَا ينْسَخ المعجز من الْقُرْآن مَا لَيْسَ بمعجز من السّنة
وَاحْتج بِأَن السّنة مبينَة لِلْقُرْآنِ وَلَا يكون الْمُبين للشَّيْء نَاسِخا
وَاسْتدلَّ على الْمَنْع بقوله تَعَالَى ﴿مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا﴾ وَالسّنة لَيست مثل الْقُرْآن إِذْ هِيَ محدثة وَالْقُرْآن غير مُحدث
قلت هَذَا اسْتِدْلَال ظاهري فِيهِ مَا فِيهِ وَأجَاب أَي الْمَانِع عَن قَوْله ﴿وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا﴾ أَي
مَا أَعْطَاكُم مِمَّا أنزل عَلَيْهِ من الْكتاب فَخُذُوهُ واقبلوه وَصَدقُوا بِهِ
وَعَن قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَا ينْطق عَن الْهوى﴾ أَي الَّذِي يأتيكم بِهِ مُحَمَّد ﷺ من الْقُرْآن هُوَ من عِنْد الله
لم ينْطق بِهِ من عِنْد نَفسه بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى بعد ذَلِك
﴿إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى﴾
1 / 35
وَأجَاب عَن آيَة الْوَصِيَّة بِأَنَّهَا نسخت بِآيَة الْمَوَارِيث
وَيُؤَيِّدهُ قَول الإِمَام مَالك إِن آيَة الْمَوَارِيث نسخت آيَة الْوَصِيَّة للْوَالِدين فعلى هَذَا إِنَّمَا نسخ الْقُرْآن بقرآن مثله وَالسّنة إِنَّمَا هِيَ مبينَة لِلْآيَةِ الناسخة
قلت وَدَلِيل الْمَانِع قوي وَهُوَ الْحق إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَقَول بَعضهم
إِن قَوْله ﵊ لَا تقتلُوا أهل الذِّمَّة نَاسخ لقَوْله تَعَالَى ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْركين﴾ فِيهِ نظر إِذْ هُوَ تَخْصِيص لَا نسخ
وترجيح بعض الْمُحَقِّقين للْجُوَاز وتعليله بِأَن مَحل النّسخ هُوَ الحكم وَالدّلَالَة عَلَيْهِ بالمتواتر ظنية كالآحاد فِيهِ نظر
لاسيما وَالْقُرْآن ثَابت بِالْإِجْمَاع لم يُخَالف فِيهِ مُخَالف ثَابت فِي الْمَصَاحِف متلوا بالألسن مَحْفُوظًا فِي الصُّدُور وَقد شهد الله تَعَالَى بإحكامه وَأخْبر بحفظه وعصم رَسُوله من الْغَلَط والسهو فِيهِ بِخِلَاف السّنة فَإِنَّهَا لم تأت مروية عَن جَمِيع أهل الْقبْلَة بل عَن الْوَاحِد والاثنين أَو من لم يبلغ عَددهمْ عدد من أجمع على الْقُرْآن فهما قطعا غير متساويين فِي الإعجاز وَالْحِفْظ وَالنَّقْل
قَالَ بعض الْمُحَقِّقين وأجود مَا قيل هُوَ أَن السّنة مبينَة لَا ناسخة
كَمَا جَاءَ عَنهُ فِي آيَة الزواني فِي قَوْله تَعَالَى ﴿أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا﴾
فَقَالَ ﵇ خُذُوا عني فقد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا وَبَين السَّبِيل مَا هُوَ بِآيَة الْجلد
1 / 36
الرَّابِع نسخ السّنة بِالسنةِ
وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ بَين الْعلمَاء وَهُوَ كثير
نَحْو حَدِيث مُسلم كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها
وَهَذَا يعرفهُ أهل الْعلم بالآثار
فَائِدَة فِي كَيْفيَّة معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ والمكي وَالْمَدَنِي
وَالَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ النَّاظر فِي النَّاسِخ والمنسوخ من السّنة وَالْقُرْآن معرفَة التَّارِيخ فَينْسَخ الْمُتَقَدّم بالمتأخر إِذْ هُوَ الْمُعْتَبر وَلَا يعْتَبر ذَلِك بمواقع الْآي من الْمُصحف لِأَنَّهُ قد جَاءَ فِيهِ النَّاسِخ فِي التَّرْتِيب قبل الْمَنْسُوخ كَمَا فِي آيتي عدَّة الْوَفَاة
وَيجب أَن نعلم مَا نزل بِمَكَّة من السُّور والآيات وَمَا نزل بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّهُ أصل كَبِير فِي معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ
لِأَن النَّاسِخ الْمنزل بِمَكَّة إِنَّمَا نسخ مَا قبله من الْمنزل بهَا
والمنزل بِالْمَدِينَةِ نسخ مَا قبله من الْمدنِي والمكي
ونزول الْمَنْسُوخ بِمَكَّة كثير ونزول النَّاسِخ بِالْمَدِينَةِ كثير
قَالَ بَعضهم مِمَّا يسْتَدلّ بِهِ على الْمَكِّيّ أَن كل سُورَة فِيهَا ﴿يَا أَيهَا النَّاس﴾ وَلَيْسَ فِيهَا ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا﴾ فَهِيَ مَكِّيَّة وَفِي الْحَج خلاف وكل سُورَة فِيهَا ﴿كلا﴾ فَهِيَ مَكِّيَّة
أوفي أَولهَا حُرُوف المعجم فَهِيَ مَكِّيَّة إِلَّا الْبَقَرَة وَآل عمرَان وَفِي الرَّعْد خلاف
وكل سُورَة فِيهَا ذكر الْمُنَافِقين فَهِيَ مَدَنِيَّة سوى العنكبوت
قَالَ ابْن هِشَام عَن أَبِيه أَن كل سُورَة ذكرت فِيهَا الْحُدُود والفرائض فَهِيَ مَدَنِيَّة
1 / 37
وكل مَا كَانَ فِيهِ ذكر الْقُرُون الْمَاضِيَة فِي الْأَزْمِنَة الخالية فَهِيَ مَكِّيَّة
قَالُوا وكل آيَة نزلت فِي الصفح والإعراض فَهِيَ مَكِّيَّة
الْخَامِس نسخ الْقُرْآن بِالْإِجْمَاع وَنسخ الْإِجْمَاع بِالْإِجْمَاع وَنسخ الْقيَاس بِالْقِيَاسِ
أما نسخ الْقُرْآن بِالْإِجْمَاع فَمَنعه أَكثر الْأَئِمَّة من الْعلمَاء الراسخين وَكَذَلِكَ نسخ الْإِجْمَاع بِالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس بِالْقِيَاسِ ذكره البغداديون والمالكيون فِي اصولهم
1 / 38