مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل للعرب بالنسب المحمدي منتمى تنعقد على فضله الخناصر، وأيد عزهم بأعز مليك، وأعز جانبهم بأعز ناصر، وخصهم من كثرة القبائل بما يقفون عده العاد، ويعترف بالعجز عن حصره الحاصر، وأنالهم من الشرف الباذخ ما لا تمتد إليه يد أحد من الأمم، فكل مدع عن بلوغ درجته قاصر.
أحمده على أن رفع عماد بيت النسب البارزي وأعلى درجه، ومدّ أطناب ممادحه في الآفاق وأطاب بالذكر الجميل أرجه؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يشيع في القبائل ذكرها، ويضوع في كل نادٍ من أندية الأحياء نشرها؛ وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أفضل نبي زكا أصلًا وطاب أرومة، وأكرم رسول شرُف عنصرًا وكرم جرثومة؛ صلى الله على آله وصحبه الذين سموا بانتسابهم إلى شريف نسبه، ودخلوا في زمرته الفاخرة فاندرجت أحسابهم في كريم حسبه.
وبعد، فلما كان العلم بقبائل العرب من لازم كتابة الإنشاء الذي أُهمل جانبه، وسكن لقلة معانيه بعد الحركة ضاربه، ورُفض تداوله حتى قل مُعانيه وعز طالبه؛ وكان كتابي المسمى «نهاية الأرب، في معرفة قبائل العرب» قد احتوى من ذكر القبائل على الجم الغفير، وطمع في الاستكثار فلم يكتف من ذكر
1 / 1
الشعوب باليسير؛ إلا أن من القبائل المذكورة فيه ما أخنى عليها الزمان، وجهل حالها الآن في الوجود والعدم فلم تعرف لها أرض ولم يوقف لها على مكان؛ مع أن القدر الذي يحتاج كاتب الإنشاء منه إلى الأخذ بتفصيله، ويضطر إلى معرفة تفريعه وتأصيله؛ من يضمه نطاق الديار المصرية من عربان الزمان، ومن يكاتب على أبواب سلطانها أو تدعو الحاجة إلى خطابه في حين أو أوان؛ مع من يتعلق بأذيال قبائلهم ممن لم يبلغ رتبة الخطاب، أو ينتمي إليهم بمحالفة أو يعتزي إلى قبيلتهم بعلاقة سبب من الأسباب.
وكان المقر الأشرف العالي المولوي القاضوي الكبيري النظامي المدبري السفيري اليميني المشيري الأصيلي العريقي الكفيلي الناصري: نظام الملك نجي السلطنة، لسان المملكة، مالك زمام الأدب، جامع أشتات الفضائل أبو المعالي محمد الجهني البارزي الشافعي المؤيدي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، جمل الله الوجود ببقائه، وأدام علوه ولا رتبة في الرياسة فوق رتبته فتعالى نسبًا وزاد في ارتقائه، قد أُلقي إليه من الممالك الإسلامية مقاليدها، ودانت لسورة كتبه الأقطار المتقاصية قريبها وبعيدها؛ وصُرفت بتصاريف أقلامه أمور الدولة فجرت بها على السداد، ونفذت بتنفيذه أمورها فأربت مقاصدها والحمد لله على المراد.
وإن أُمور الملك أَضحى مَدارها ... عليه كما دارت على قُطبها الرحَى
وكنت ممن عمه فضله، وغمره غيثه الهامع ووبله؛ وولج حماه المنيع فاحتمى، ونزل بساحة بابه العالي فبات منه في أعز حمى، ما أمتني بائقة احتياج إلا قمعها، ولا عرتني كارثة احتياج إلا ردعها؛ ولا سامني الدهر ضيمًا إلا كبحه، ولا أغلق عني الزمان باب خير إلا فتحه؛ ولا تربت يدي إلا أغناها، ولا قصدت
1 / 2
أدنى رتبة إلا بلغ بي أعياها: ولا استعنت بجاهه من حرّ ضنك إلا كان لي خير مقيل، ولا لُذت بجنابه من هجير ضر إلا أويت منه إلى ظل ظليل:
بِتْ جاره فالعيشُ تحت ظلاله ... واسْتَسقه فالبحرُ من أنوائه
وكانت خزانته العالية عمرها الله تعالى بدوام أيامه، وأراه من محاسن جمعها في اليقظة ما يمتنع أن يراه القاضي الفاضل في منامه؛ قد سعدت بإسعاد جدوده، وخصت من نفائس التأليف بكل نفيس لا سيما مصنفات آبائه وجدوده؛ مع اشتماله من شريف النسب على الصفقة الرابحة، وتمسكه من الانتساب إلى العرب العاربة من بني قحطان بالكفة الراجحة:
مَعالٍ تمادت في العُلّو كأنما ... تُحاول ثأرًا عند بعض الكواكبِ
أحببت أن أخدم جانب علاها بمختصر من ذكر قبائل العرب المنتظم في سلك الزمان الآن وجودهم، والمحيطة بعنق الآفاق في هذا العصر عقودهم؛ مُصدِّرًا له بذكر طرف من أنساب الأمم ليتم بذلك منه الغرض، واصلًا نسب كل أمة منها بعمود النسب المحمدي ليعلم اتصال الأمم بعضها ببعض؛ ذاكرًا كل قبيلة وما فوقها من الشعوب، وما يتفرع منها من العمائر والبطون والأفخاذ على اختلاف الأصناف والضروب؛ ذاكرًا مقر كل قبيلة منها في القديم والحديث، مستندًا في ذلك إلى ما تضمنته كتب الأنساب والتاريخ وكتب أسماء رجال الحديث؛ موردًا في خلال كل قبيلة من كان منها من صحابي مذكور، أو شاعر مجيد أو فارس مشهور؛ ليكون بانتسابه إليه كالغرة في وجه كتبه، ويدخر بخزانته السعيدة ليكون كلمة باقية في عقبه؛ على أني في ذلك كنافل التمر إلى هجر، وممد
1 / 3
البحر ببلالة القطر ورشح الحجر؛ إذ كان المقر المشار إليه - خلد الله تعالى أيامه - في معرفة الأنساب هو واسطة عقدها الثمين، وجهينة أخبارها وعبد جهينة الخبر اليقين؛ وسميته: «قلائد الجمان، في التعريف بقبائل عرب الزمان» والله تعالى يقرنه بالتوفيق في جمع مقاصده، ويورده موارد القبول في بدو الأمر وعائده. وقد رتبته على مقدمة ومقصد وخاتمة.
١ -
المقدمة في ذكر أمور يُحتاج إليها في علم الأنساب،
ومعرفة القبائل وفيها خمسة فصول:
الفصل الأول:
في فضل علم الأنساب ومسيس الحاجة إليه.
الفصل الثاني: في بيان من يقع عليه اسم العرب، وذكر أنواعهم وما ينخرط في سلك ذلك.
الفصل الثالث: في معرفة طبقات الأنساب، وما يلتحق بذلك.
الفصل الرابع: في ذكر مساكن العرب القديمة التي منها درجوا إلى سائر الأقطار.
الفصل الخامس: في ذكر أمور يحتاج إليها الناظر في علم الأنساب.
٢ - المقصد في معرفة تفاصيل أنساب القبائل وفيه فصلان: الفصل الأول: في ذكر عمود النسب النبوي، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، وما يتفرع عنه من الأنساب.
1 / 4
الفصل الثاني: في ذكر تفاصيل القبائل، وما يتيسر ذكره من مساكنهم الآن.
الخاتمة في ذكر نبذة من أوصاف المقر الأشرف الناصري المؤلف له هذا الكتاب، ومناقبه، ونُبذة من سيرته الغراء.
1 / 5
المقدمة في ذكر أمور يحتاج إليها في علم الأنساب
ومعرفة القبائل
وفيها خمسة فصول
الفصل الأول
في فضل علم الأنساب
وفائدته ومسيس الحاجة إليه لا خفاء أن معرفة الأنساب من الأمور المطلوبة، والمعارف المندوبة؛ لما يترتب عليها من الأحكام الشرعية، والمعارف الدينية. فقد وردت الشريعة باعتبارها في مواضع: منها: العلم بنسب النبي ﷺ، وأنه النبي القرشي الهاشمي الذي كان بمكة وهاجر منها إلى المدينة وتوفي ودفن بها، فإنه لا بد لصحة الإيمان من معرفة ذلك، ولا يعذر مسلم في الجهل به وناهيك بذلك.
ومنها: التعارف بين الناس حتى لا يعتزي أحد إلى غير أبيه، ولا ينسب إلى سوى أجداده. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (يأيُها الناس إنا خلقناكُم من ذَكر وأُنثى وجعلناكم شُعوبًا وقبائل لتعارفوا) . ولولا معرفة الأنساب لفات إدراك ذلك وتعذر الوصول إليه.
ومنها: اعتبار النسب في الإمامة التي هي الزعامة العظمى. فقد حكى الماوردي في الأحكام السلطانية الإجماع على كون الإمام قرشيًا، ثم قال: ولا اعتبار بضرار حيث. فجوزها في جميع الناس. فقد ثبت أن النبي ﷺ، قال: الأئمة
1 / 7
من قريش. قال أصحابنا الشافعية: فإن لم يوجد قرشي اعتبر كون الإمام كنانيًا من بني كنانة من خُزيمة، فإن تعذر اعتبر كونه من بني إسماعيل ﵇، فإن تعذر اعتبر كونه من بني إسحاق ﵇، فإن تعذر اعتبر كونه من جرهم، لشرفهم بصهارة إسماعيل ﵇، بل قد نصوا أن الهاشمي أولى بالإمامة من غيره من قريش.
فلولا المعرفة بعلم النسب لفات وتعذر حكم الإمامة العظمى التي بها عموم صلاح الأمة، وحماية البيضة، وكف الفتنة، وغير ذلك من المصالح.
ومنها: اعتبار النسب في كفاءة الزوج للزوجة عند الشافعي ﵁، حتى لا يكافئ الهاشمية والمطّلبية غيرها من قريش، ولا يكافئ القرشية غيرها من العرب ممن ليس بقرشي، ولا يكافئ الكنانية غيرها من العرب ممن ليس بكناني ولا قرشي على الأصح.
وفي اعتبار النسب في العجمي أيضًا وجهان: أصحهما الاعتبار. فإذا لم يعرف النسب تعذرت هذه الأحكام.
منها: مراعاة النسب الشريف في المرأة المنكوحة، فقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «تنكح المرأة لأربع: لدينها، وحسبها، ومالها، وجمالها» فراعى ﷺ في المرأة الحسب، وهو شرف الآباء.
ومنها: جريان الرق على العرب في أحد قولي الشافعي ﵁ وموافقيه، فإذا لم يعرف النسب تعذر ذلك، إلى غير ذلك من الأحكام الجارية هذا المجرى.
ثم ليعلم أنه قد ذهب كثير من أئمة المحدثين والفقهاء، كالبخاري، إلى جواز الرفع في الأنساب احتجاجًا بعمل السلف، فقد كان أبو بكر الصديق ﵁
1 / 8
في علم الأنساب في المقام الأرفع والجانب الأعلى، وذلك أذل دليل وأعظم شاهد على شرف هذا العلم وجلالة قدره.
وقد حكى صاحب الريحان والريعان عن أبي سليمان الخطابي ﵀ قال: كان أبو بكر ﵁ نسّابة فخرج مع رسول الله ﷺ ذات ليلة فوقف على قوم من ريبعة فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: وأي ربيعة أنتم، أمن هامتها أم من لهازمها؟ قالوا: بل من هامتها العظمى. قال أبو بكر: ومن أيها؟ قالوا من ذُهل الأكبر. قال أبو بكر: فمنكم عوف بن مُحلِّم الذي يقال له: لا حُرّ بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: فمنكم بِسطام بن قيس أبو القِرَى ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: فمنكم اَلْحوفزان قاتل الملوك وسالبها أَنْعُمها؟ قالوا: لا. قال: فمنكم المزدلف الحرّ صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا. قال: فمنكم أخوال الملوك من كِندة؟ قالوا: لا. قال: فمنكم أصهار الملوك من لَخم؟ قالوا: لا. قال: فلستم بذُهل الأكبر بل ذهل الأصغر. فقام إليه غلام من شيبان يقال له: دِغْفَل حين بَقَل وجهه فقال: إن على سائلنا أن نسأله: يا هذا إنك قد سألت فأخبرناك ولم نكتمك شيئًا من خبرنا، فمن الرجل؟ قال أبو بكر: أنا من قريش. قال: بخٍ بخٍ أهل الشرف والرياسة، فمن أي القرشيين أنت؟ قال: من تَيم بن مُرة. قال الفتى: أمكنت والله الرامي من سواء الثُّغرة، فمنكم قُصي الذي جمع القبائل من فِهر وكان يُدعى مُجمعًا؟ قال: لا. قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه؟ قال: لا. قال: فمنكم شيبة الحمد مطعم
1 / 9
طير السماء؟ قال: لا. قال: فمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. واجتذب أبو بكر ﵁ زمام ناقته، فقال الفتى:
صادف دَرُّ السيل درًّا يدفعه ... يَهيضه حينًا وحينًا يصدعُهْ
أما والله يا أخا قريش لو لبثت لأخبرتك أنك من رعيان قريش ولست من الذوائب. فأخبر رسول الله ﷺ بذلك فتبسم. فقال عليّ ﵁: يا أبا بكر، لقد وقعت من الغلام الأعرابي على باقعه. فقال: يا أبا الحسن، ما من طامة إلا وفوقها طامة.
ودِغْفل هذا هو دغفل ابن حنطلة النسابة الذي يُضرب به المثل في معرفة النسب، قدم مرة على معاوية بن أبي سفيان في خلافته فاختبره فوجده رجلًا عالمًا، فقال: بِم نلت هذا يا دغفل؟ قال: بقلب عَقول، ولسان سؤول، وآفة العلم النسيان.
وممن اشتهر بمعرفة الأنساب أيضًا ابن الكيّس، من بني عوف بن سعد ابن ثعلب بن وائل وفيهما يقول مسكين بن عامر:
فحكِّم دِغْفلًا وارحل إليه ... ولا تَدِع المعطيَّ من الكَلالِ
أو ابن الكيِّس النَّمري زيدًا ... ولو أمسى بمُنخرق الشمال
1 / 10
وقد صنف في علم الأنساب جماعة من جلة العلماء وأعيانهم، كأبي عبيد القاسم ابن سلام، والبيهقي، وابن عبد البر، وابن حزم، وغيرهم؛ وذلك دليل شرفه ورفعة قدره.
1 / 11
الفصل الثاني
في بيان ما يقع عليه اسم العرب، وذكر أنواعهم
وما ينخرط في سلك ذلك أما من يقع عليه اسم العرب فقد قال الجوهري في صحاحه: «العرب جيل من الناس، وهم أهل الأمصار، والأعراب سكان البادية».
والتحقيق أن اسم العرب يشمل الجميع، والأعراب نوع منهم.
قال الجوهري: «وجاء في الشعر الفصيح الأعاريب، ويقال: تعرّب العجمي، إذا تشبه بالعرب».
وقد ذكر صاحب «العِبر» أن لفظ العرب مشتق من الإعراب، وهو البيان، أخذًا من قولهم: أعرب الرجل عن حاجته، إذا أبان، سُمُّوا بذلك لأن الغالب عليهم البيان.
وتصغير العرب: عُريب، والنسبة إلى العرب: عربيّ، وإلى الأعراب: أعرابيّ، لأنه لا واحد له يُرد إليه، بخلاف مساجد، حيث ينسب إليها: مسجدي، نسبة إلى الواحد منها من حيث إن لها واحدًا ترد إليه.
ثم إن كل من عدا العرب فهو عجمي، سواء الفرس أو الترك أو الروم أو غيرهم، وليس كما تتوهم العامة من اختصاص العجم بالفرس، أما الأعجم فالذي لا يفصح في الكلام وإن كان عربيًا، ومنه سميّ: زياد الأعجم الشاعر، وكان عربيًا.
وأما أنواع العرب فقد اتفقوا على تنويعهم أولًا على نوعين: عاربة ومستعربة.
فأما العاربة، فقال الجوهري: هم العرب الخلّص.
1 / 12
قال في العبر: وهم العرب الأُوَل الذين فهّمهم الله اللغة العربية ابتداء فتكلموا بها فقيل لهم: عاربة، إما بمعنى الراسخة في العروبية، كما يقال: ليل لائل، وإما بمعنى الفاعلة للعروبية والمبتدعة لها، لمّا كانوا أول من تكلم بها.
قال الجوهري: وقد يقال فيها: العرب العَرْباء.
والمستعربة: الداخلون في العروبية بعد العجمة، أخذًا من استفعل بمعنى الصيرورة، نحو استنوق الجمل، إذا صار في معنى الناقة، لما فيه من الخنوثة، واستحجر الطين، إذا صار في معنى الحجر ليُبسه.
قال الجوهري: وربما قيل لهم المتعربة.
ثم اختلف في العاربة والمستعربة، فذهب ابن إسحاق والطبري إلى أن العاربة هم: عاد، وثمود، وطَسْم، وجَديس، وأُميم، وعَبيل، والعَمالقة، وعبد ضَخْم، وجُرْهم الأولى، التي كانت في زمن عاد، ومن في معناهم.
والمستعربة: بنو قحطان بن عابر بن شالخ بن أُد بن سام بن نوح ﵇، لأن لغة عابر كانت عجمية، إما سريانية، وإما عبرانية، فتعلّم بنو قحطان العربية من العاربة ممن كان في زمنهم، وتعلم بنو إسماعيل العربية من جُرهم من بني قحطان حين نزلوا عليه وعلى أمه بمكة.
وذهب آخرون، منهم المؤيد صاحب حماه، إلى أن بني قحطان هم العاربة، وأن المستعربة هو بنو إسماعيل فقط.
والذي رجحه صاحب «العبر» الأول. محتجًا بأنه لم يكن في بني قحطان من زمن نوح ﵇ إلى عابر من تكلم بالعربية، وإنما تعلموها نقلًا عمن كان قبلهم من العرب، من عاد وثمود ومعاصريهم، ممن تقدم ذكرهم.
1 / 13
الفصل الثالث
في معرفة طبقات الأنساب وما يلحق بذلك
قد عد أهل اللغة طبقات الأنساب ست طبقات: الطبقة الأولى: الشعب، بفتح العين، وهو النسب الأبعد، كعدنان مثلًا.
قال الجوهري: وهو أبو القبائل الذين ينسبون إليه. ويجمع على شعوب.
قال الماوردي في «الأحكام السلطانية»: وسمي شعبًا، لأن القبائل تتشعب منه.
وذكر الزمخشري في «كشافه» نحوه.
الطبقة الثانية: القبيلة، وهي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومُضر.
قال الماورديّ: وسميت القبيلة لتقابل الأنساب فيها. وتجمع القبيلة على قبائل وربما سميت القبائل: جماجم أيضًا، كما يقتضيه كلام الجوهري حيث قال: وجماجم العرب هي القبائل التي تجمع البطون.
الطبقة الثالثة: العِمارة، بكسر العين المهملة، وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة، كقريش وكنانة. وتجمع: على عمارات، وعمائر.
1 / 14
الطبقة الرابعة: البطن، وهي ما انقسم فيه أقسام العمارة، كبني عبد مناف، وبني مخزوم. ويجمع: على بطون، وأبطن.
الطبقة الخامسة: الفخذ، وهي ما انقسم فيه أقسام البطن، كبني هاشم، وبني أمية، وتجمع على: أفخاذ.
الطبقة السادسة: الفصيلة، بالصاد المهملة. وهي ما انقسم فيه أقسام الفخذ، كبني العباس.
هكذا رتّبها الماوردي في «الأحكام السلطانية»، ومثّل بما تقدم. وعلى نحو ذلك جرى الزمخشري في تفسيره في الكلام على قوله تعالى: (وجعلناكم شُعوبًا وقبائل) إلا أنه مثل للشعب بخزيمة، وللقبيلة بكنانة، وللعمارة بقريش، وللبطن بقُصي، وللفخذ بهاشم، وللفصيلة بالعباس.
وبالجملة فالفخذ يجمع الفصائل، والبطن يجمع الأفخاذ، والعمارة يجمع البطون، والقبيلة تجمع العمائر، والشعب يجمع القبائل.
قال النووي في «تحرير التنبيه»: وزاد بعضهم «العشيرة» قبل «الفصيلة».
قال الجوهري: وعشيرة الرجل: رهطه الأدنون.
حكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم الفخذ. وعليه جرى الجوهري في مادة «فخذ».
1 / 15
واعلم أن أكثر ما يدولا على الألسنة من الطبقات الستة المتقدمة: القبيلة ثم البطن، وقلّ ما تذكر العمارة والفخذ والفصيلة، وربما عُبر عن كل واحد من الطبقات الست بالحي، إما على العموم، مثل أن يقال: حيّ من العرب، وإما على الخصوص، مثل أن يقال: حيّ بني فلان.
1 / 16
الفصل الرابع
في ذكر مساكن العرب القديمة
التي منها درجوا إلى سائر الأقطار اعلم أن مساكن العرب في ابتداء الأمر كانت بجزيرة العرب الواقعة في أواسط المعمور وأعدل أماكنه وأفضل بقاعه، حيث الكعبة الحرام وتربة أشرف الخلق نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وما حول ذلك من الأماكن.
وهذه الجزيرة متسعة الأرجاء ممتدة الأطراف يحيط بها من جهة الغرب بعض بادية الشام حيث البلقاء، إلى أيلة، ثم بحر القلزم الآخذ من أيلة حيث العقبة الموجودة بطريق حجاج مصر إلى الحجاز إلى أطراف اليمن، حيث طيّ وزبيد وما داناهما.
ومن جهة الجنوب بحر الهند المتصل به بحر القُلزم المقدم ذكره، من جهة الجنوب إلى عدن إلى أطراف اليمن حيث بلاد مهرة، من ظفار وما حولها.
ومن جهة الشرق بحر فارس الخارج من بحر الهند إلى جهة الشمال إلى بلاد البحرين، ثم إلى أطراف البصرة، ثم إلى الكوفة من بلاد العراق.
ومن جهة الشمال الفرات آخذًا من الكوفة على حدود العراق إلى عانة، إلى بالس من بلاد الجزيرة الفراتية، إلى البلقاء من برية الشام، حيث وقع الابتداء.
ودور هذه الجزيرة، فيما ذُكر في تقويم البلدان، سبعة أشهر وأحد عشر يومًا تقريبًا بسير الأثقال، فمن البلقاء إلى الشراة ثلاثة أيام، ومن الشرا إلى أيلة نحو ثلاثة أيام، ومن أيلة إلى فرضة المدينة النبوية نحو عشرين يومًا،
1 / 17
ومنها إلى ساحل الجُحفة إلى جُدة - فرضة مكة المشرفة - ثلاثة أيام، ومن جدة إلى عدن نحو من شهر، ومن عدن إلى سواحل مهرة نحو من شهر، ومن مهرة إلى عمّان من البحرين نحو من شهر، ومن عمان إلى هَجر - قاعدة البحرين - نحو من شهر، ومن هجر إلى عبادان من سواد العراق نحو خمسة عسر يومًا، ومن عبادان إلى البصرة نحو يومين، ومن البصرة إلى الكوفة نحو اثنتي عشر يومًا، ومن الكوفة إلى بالس نحو عشرين يومًا، ومن بالس إلى سَلَميّة نحو سبعة أيام، ومن سَلَمية إلى مشارف غوطة دمشق نحو أربعة أيام، ومن مشارف غوطة دمشق إلى مشارف حوران ثلاثة أيام، ومن مشارف حوران إلى البلقاء نحو ثلاثة أيام.
قال المدائني: وجزيرة العرب هذه تشتمل على خمسة أقسام: تهامة، ونجد، وحجاز، وعروض، ويمن.
فتهامة: هي الناحية الجنوبية من الحجاز.
ونجد: هي الناحية التي بين الحجاز والعراق.
والحجاز: هو ما بين نجد وتهامة، وهو جبل يقبل من اليمن حيث يتصل بالشام، وسمي حجازًا لحجزه بين نجد وتهامة.
1 / 18
والعروض: هي اليمامة إلى البحرين.
ويدخل في هذه الجزيرة قطعة من بلاد الشام، منها: تدمر، وتيماء، وتَبُوك.
واعلم أن اليمن كان هو منازل العرب العاربة من عاد، وثمود، وطَسم، وجديس، وأُميم، وجُرهم، وحضرموت، ومَن في معناهم، ثم انتقلت ثمود منهم إلى الحِجْر من أرض الشام، فكانوا به حتى هلكوا، كما ورد به القرآن الكريم.
وهلكت بقايا العاربة باليمن من عاد وغيرهم، وخلفهم فيه بنو قحطان من عابر، فعرفوا بعرب اليمن إلى الآن، وبقوا فيه إلى أن خرج منهم عمرو مزيقياء عند توقّع سيل العَرم، وكانت أرض الحجاز منازل بني عدنان إلى أن غزاهم بُخْتنصر، ونقل من نقل منهم إلى الأنبار من بلاد العراق. ولم تزل العرب بعد ذلك كله في التنقل عن جزيرة العرب والانتشار في الأقطار إلى أن كان الفتح الإسلامي، فتوغلوا في البلاد حتى وصلوا إلى بلاد الترك وما داناها، ونزلت منهم طائفة بالجزيرة الفراتية وصاروا إلى أقصى المغرب وجزيرة الأندلس وبلاد السودان، وبلغوا الآفاق وعمروا الأقطار، وصار بعض عرب اليمن إلى الحجاز فأقاموا به، وربما صار بعض عرب الحجاز إلى اليمن فأقاموا به، وبقى من بقى منهم بالحجاز واليمن على ذلك إلى الآن، ومن تفرق منهم بالأقطار منتشرون في الآفاق قد ملأوا ما بين الخافقين.
1 / 19
الفصل الخامس
في بيان أمور يحتاج الناظر في علم الأنساب إليها
وهي عشرة أمور: الأول - قال الماوردي: إذا تباعدت الأنساب صارت القبائل شعوبًا، والعمائر قبائل، يعني: وتصير البطون عمائر، والأفخاذ بطونًا، والفصائل أفخاذًا، والحادث بعد ذلك فصائل.
الثاني - قد ذكر الجوهري: أن القبيلة هي بنو أب واحد.
وقال ابن حزم: جميع قبائل العرب راجعة إلى أب واحد سوى ثلاث قبائل، وهي تَنوخ، والعُتْق، وغسّان، فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون.
وسيأتي بيان ذلك في الكلام على كل قبيلة من القبائل الثلاث في موضه، إن شاء الله.
ثم أن القبيلة قد يكون له عدة أولاد فيحدث عن بعضهم قبيلة أو عدة قبائل، فتنسب إليه كل قبيلة تحدث عنه وتُترك النسبة إلى القبيلة الأولى، كحنظلة بن تميم، فينسب إلى «حنظلة» ويترك «تميم» ويبقى بعضهم بلا ولد، بألا يولد له أو لم يشتهر ولده، فينسب إلى القبيلة الأولى.
الثالث - إذا اشتمل النسب على طبقتين فأكثر، كهاشم، وقريش، ومُضر، وعدنان، جاز لمن في الدرجة الأخيرة من النسب أن ينتسب إلى الجميع، فيجوز لبني هاشم أن يُنسبوا إلى هاشم وإلى قريش وإلى مضرو إلى عدنان، فيقال في أحدهم: الهاشميّ، والقرشيّ، والمضريّ، والعدنانيّ.
بل قد قال الجوهري: إن النسبة إلى الأسفل تُغني عن النسبة إلى الأعلى،
1 / 20
فإذا قلت في النسبة إلى «كلب بن وبرة» الكلبي، استغنيت أن تنسبه إلى شيء من أصوله.
وذكر غيره أنه يجوز الجمع في النسب بين الطبقة العليا والطبقة السفلى.
ثم بعضهم يرى تقديم العليا على السفلى، مثل أن يقال في النسب إلى عثمان ابن عفان ﵁: الأموي العثماني، وبعضهم يرى تقديم السفلى على العليا، فيقال: العثماني الأموي.
الرابع - قد ينضم الرجل إلى غير قبيلته بالحلف والموالاة، فينسب إليهم، فيقال: فلان حليف بني فلان، أو مولاهم؛ كما يقال في البخاري: الجُعفي مولاهم، ونحو ذلك.
الخامس - إذا كان الرجل من قبيلة ثم دخل قبيلة أخرى جاز أن ينسب إلى قبيلته الأولى، وأن ينسب إلى قبيلته التي دخل فيها، وأن ينسب إلى القبيلتين جميعًا، مثل أن يقال: التميمي ثم الوائلي، أو الوائلي ثم التميمي، وما أشبه ذلك.
السادس - القبائل في الغالب تسمى باسم الأب والد القبيلة، كربيعة ومضر والأوس والخزرج، ونحو ذلك، وقد تسمى القبيلة باسم أمها الوالدة لها، كخندف وبِجَيلة ونحوهما، وقد تسمى باسم حاضنة ونحوها، وربما وقع اللقب على القبيلة بحدوث سبب، كغسان، حيث نزلوا من ماء يسمى غسان، فسموا به، كما سيأتي إن شاء الله.
السابع - غالب أسماء العرب منقولة عما يدور في خزانة خيالهم مما يخالطونه ويجاورونه، إما من الوحوش، كأسد ونمر، وإما من النبات، كنَبت وحنظلة، وإما من الحشرات، كحيّة وحنش، وإما من أجزاء الأرض، كفِهر وصَخر، ونحو ذلك.
1 / 21