وظن أنه ينبغي أن يذهب إلى حجرة البك ليخبره، فأعاد السماعة إلى موضعها الأول، فأقفل السكة وهو لا يدري، ومضى إلى حجرة البك وقال باحترام: محمد رشاد ... بك، يريد أن يكلم سعادتك. - خله يدخل ... - إنه يتكلم في التليفون.
فسأله البك بدهشة: ولماذا لم تحول السكة إلي ...؟
فلم يحر جوابا، ولاح في وجهه الارتباك على غير عادته، فضحك البك وقال: حول السكة علي، استعمل الموصل في مثل هذه الأحوال.
وغادر الحجرة مرتبكا، وقد أدرك أنه أخطأ. كيف تحول السكة؟ وأي شيء هذا الموصل؟ وعاد إلى مكتبه، ورفع السماعة إلى أذنه، فسمع نقيقا متصلا فقال: يا سعادة البك ...
فلم يجبه أحد مع معاودة الدعاء، ولم يسمع إلا النقيق المستمر، فاشتد ارتباكه، وخاف أن يكون قد ارتكب خطأ جديدا، ولبث ممتعضا. ما كان يعلم أن للتليفون ثقافة خاصة ينبغي أن يعلمها، ودعا الساعي على مضض ليلقنه سر التليفون، ودون بعض الملاحظات على ورقة كي لا ينسى ما يجب ذكره في المستقبل، ثم دبت الحياة في الحجرة، فتوارد عليها أناس مختلفون من طبقات متباينة يستأذنون في مقابلة قاسم بك فهمي، فاستقبلهم دون ارتباك، وعاونته جسارته الطبيعية على تمالك أعصابه، والظهور بمظهر الرزانة والثبات، واستقبل أحد الباشوات المعروفين الذين لم يكن يراهم إلا من بعيد، فسلم عليه، واستأذن له، ودعاه إلى مقابلة البك. وعلى رغم تظاهره بالهدوء كان يكتم بعنف انفعال السرور والفرح. ومضى نهار العمل في حركة دائبة ونشاط متصل وسرور لا مزيد عليه؛ وبهذا النشاط غير المنقطع نسي أفكاره ووساوسه، فارتاح باطنه وهو لا يدري، وغادر الوزارة معافى كأنما ينهض من نوم عميق.
وكان غير الفتى الذي جاء الصبح ساعيا؛ فقد عرف بكوات وباشوات، وثقف فن التليفون، ودعي «محجوب بك» عشرات المرات، فكان أعظم ثقة وخيلاء، بل أوشكت أن تتغير مشيته ونظرة عينيه، وذكر - في نشوة المجد المباغت - قريبه أحمد بك حمديس، فود لو يأتي يوما لمقابلة قاسم بك ليجيء حجرته مستأذنا، فأي دهشة تتولاه؟! وكيف يتصافحان تصافح الأنداد، ثم يقص ما رأى على أسرته فتسمع تحية، وتعلم أنها أغلقت باب سيارتها دون فتى ذي نباهة ومجد! ... ولكم يود أن تراه تحية مع زوجه الحسناء! فزوجه تفوقها حسنا وفتنة، وإنه ليود أن يتفرس في وجهها وهي تنظر شزرا إلى زوجته وقد أدركت مدى حسنها الفتان!
صبرا صبرا، إن الحياة بدأت تبتسم ...
29
وفي ذلك اليوم نفسه ذهب محجوب عبد الدائم إلى الإخشيدي - كوعد سابق - ومضى به الرجل إلى الشقة ليسلمها له، وحمل محجوب معه حقيبة ثيابه وكتبه القلائل، وأعطاه الإخشيدي مفتاح الشقة وهو يقول: الشقة وما تحتوي - لكما - إلا صوانا صغيرا في حجرة النوم.
أدرك محجوب أن الصوان خاص بقاسم بك فهمي، وتورد وجهه، وشعر محجوب برغبة قوية في أن يركله بما أوتي من قوة! وقال الإخشيدي: يحسن أن يجدد العقد باسمك. - أهو الآن باسم قاسم بك؟
Unknown page