فقال محجوب وهو يبتسم ليستبقي ثقته بنفسه: كما ترى يا بك.
ونظر إلى الإخشيدي فلم ير ما اضطره قديما إلى إجلاله، وشعر في أعماقه برغبة في تحديه والاستهانة به. قال الرجل: سيأتي المأذون عما قليل ...
فابتسم محجوب وقال بغرابة: المأذون!
فقال الإخشيدي مبتسما أيضا: ستدخل دنيا يا عم، والآن دعني أقدمك إلى العروس ووالديها.
وتبع الإخشيدي خافق الفؤاد، تلوح في عينيه نظرة تطلع وما يشبه الخجل والتردد، وكان لا يكف عن دعاء جراءته وقحته، ويرسل ناظريه لرؤية حياته ومستقبله ... وسبقه الإخشيدي إلى الدخول وهو يقول: هاكم عضو جديد في أسرتكم المحترمة ...
ودخل وراءه، فوقعت عيناه على وجه غريب، رأى إحسان شحاتة، إحسان شحاتة تركي دون غيرها، والتفت عيناهما ...
25
كانت إحسان شحاتة دون غيرها، ولكن غير الفتاة الطاهرة التي أحبها علي طه فتعاهدا على الحب والزواج. حدث تاريخ جديد، بدأ بنظرة عين ثم أعقبتها أمور. حدث ذلك وهي عائدة عصرا من المدرسة، عند رأس شارع رشاد باشا فيما يلي شارع الجيزة، أمام القصر المعروف بالفيلا الخضراء. ولكم مرت بهذه الفيلا ذهابا وإيابا منذ أعوام، ولكن في ذلك اليوم وقعت عليها عينان جميلتان خبيرتان، مغرمتان بكل حسن صبيح، وشعرت الفتاة بالنظرة الثاقبة فلم يخل وقعها من أثر. رأت رجلا جليل الشأن، إن لم يكن باشا فهو بك، أنيق المنظر، جميل المحيا، ذا شارب صغير فاتن، يكتنفه جلال وجمال على دقة جسمه وميله إلى القصر نوعا. ولعل ذلك وحده ما جعلها تلتفت إلى الوراء بعد أن ابتعدت أذرعا، فوجدته مصوبا نحوها عينين أحست - في حياء - نفاذهما وحرارتهما! كانت الفيلا ملكا لمدير شركة إيطالي، باعها إلى هذا البك منذ أشهر، وقيل يومئذ إنه موظف خطير، ونوه البعض باسمه، ولكنها نسيت ذلك جميعه. وما بلغت دارها الباهتة حتى كادت تنسى البك ونظرته. في عصر اليوم الثاني - وعند عودتها من المدرسة أيضا - رأته بموقف الأمس. التهمتها العينان الجميلتان وهي مقبلة نحوه، وتبعاها بعد أن جازته، وتساءلت: ترى هل وجد ذلك الوقت مصادفة كالأمس أم إنه انتظر اليوم على عمد؟! وسارت دون أن تلتفت وراءها، وإن ظل ذهنها متفكرا. وعند منتصف الطريق شعرت بدنو سيارة من الطوار الذي تمشي عليه، فعطفت رأسها إلى يسارها فرأت سيارة تكاد توازيها؛ سيارة رائعة كأنها فيلا متحركة، ولمحت وراء نافذتها عيني البك ترسلان إليها بنظرة غريبة، فيها ابتسام مستتر، وإعجاب ظاهر، وفجر فاضح، وبطؤت حركة السيارة حتى سارت تسايرها، فتولاها الحياء والارتباك، وحثت خطاها، وابتعدت داخل الطوار. ولما اقتربت من دار الطلبة اندفعت السيارة مسرعة، ودارت إلى طريق الجامعة، واختفت عن الأنظار. قطع الشك؛ فهذا غزل. وخالط فؤادها شعور بالسرور والخيلاء، وغلبتها خفة ودلال ورثتهما عن أمها، فترنمت بصوت خفيض بأغنية: «التاكسي على الباب مستنيني.» ثم قالت لنفسها: «ليس تاكسيا، ولكنها سيارة ولا سيارات عابدين!» بيد أنه كان شعورا بريئا أحدثه زهو الصبا ، أما الرجل العظيم الجميل فلم يمسك، بل تمادى في غزله يوما بعد يوم، فلم تر بدا من الاستياء والتجهم له، وقالت له عيناها: «هذا سلوك لا يليق.» ولكنه لم يأبه لإنذارها. ويوما رأت إلى جانبه في السيارة شخصا جديدا مثلث الوجه مستدير العينين، ثم استمرت المطاردة وعنفت، حتى باتت الفتاة في حيرة. كانت تحب علي طه، فرأت أن من المنطق أن تنتهي هذه المطاردة الملحة، ومن ناحية أخرى لم يترك البك الجميل في نفسها أثرا سيئا، وعلى العكس من ذلك أبهج نفسها ولوعه ونظرة عينيه الجذابتين. وقالت لنفسها متألمة: إنه على كهولته أجمل من علي وأروع منظرا، ولولا أن قلبي قال كلمته لما دريت كيف أصده عن صاحب السيارة العظيم! وجعلت تتساءل مغيظة: هل ارعوى؟ متى يغيب عن ناظري؟ متى يبعد عن سبيلي؟! ولكن هل كانت صادقة في تساؤلها؟ أو لأي درجة كانت صادقة؟ فلم تجد لذلك جوابا صريحا. باتت في حيرة من أمر نفسها، وراحت تقول لنفسها كالمعتذرة ... إن كانت تسر لمطاردته ... فما ذلك إلا إرضاء لغرورها الأنثوي وتأثرا بمقامه الكبير. وما تدري يوما إلا وأبوها يقول لها بلهجة ذات معنى - وكانت راجعة من المدرسة - «ألم تثوبي إلى رشدك بعد؟!» واضطرب فؤادها، وتوردت وجنتاها. هل يعلم الرجل بما يحدث في شارع رشاد باشا؟! رباه، أدائما هو بالمرصاد لها؟! ونظرت إليه نظرة المتسائلة المتجاهلة، فقال وكانت أمها لحقت به: «رجل لا يقل مقاما عن وزير، وأعظم جاها وثروة، ألا ترين سيارته؟ ألا ترين قصره؟ فماذا تريدين؟!» فسألته الفتاة بحدة: «ماذا يريد هو؟» فقال المعلم شحاتة تركي بصوت غليظ أخافها على غير عادته: «يريد بك خيرا، ويريد بنا خيرا. يريد الله أن يرفعك إلى طبقة السادة، وأن يزقق إخوتك الجياع ... كلمني مدير مكتبه الذي أعرفه منذ عهد تلمذته، سيتزوج منك. نعم. لم لا؟ أنت جميلة، وأنا رجل من صلب كريم. لعن الله الزمن، فحتام تلوي بوزك؟ افتحي عينيك. أبوك يستغيث بك، وأمك تستغيث بك، وإخوتك يستصرخونك!» واستفاض الحديث، واشتركت فيه أمها . في تلك الليلة لم يغمض لها جفن حتى مطلع الفجر. قضت الليلة تتقلب على جنبيها وتفكر، وعند عصر اليوم الثاني في الموعد المعهود، اقتربت السيارة منها وفتح الباب. وترددت قليلا، ثم صعدت إليها ...
كيف وقع هذا؟! ألم تكن تحب علي طه؟ بلى كانت، ولكنه ليس الحب الذي يعمي ويصم. ليس الحب الذي يصمد للتجارب الشديدة والمغريات العنيفة. كانت تحب الجاه كذلك وتكره الفقر، كانت تئن تحت حمل أسرتها الثقيل. كانت الفيلا منظرا بديعا، والسيارة كنزا نفيسا، والبك إلها من آلهة الذهب والسلطان. لقد قاومت أول مرة الشاب الحقوقي؛ لأنها كانت أول مرة، ثم راح والداها لا يسكتان عن الإلحاح، وقد جعلاها منذ التجربة الأولى في حل من كل استهتار، بل جعلا عصمتها بيدها، ولولا علي لهوت وانتهت من زمن بعيد، بيد أنها لم ترد فيما بينها وبين نفسها أن تعترف بضعفها. تجاذبتها في ليلتها المسهدة عهود كثيرة وعواطف متباينة، ترددت بين البك وعلي طه، بين زوج اليوم وزوج الغد البعيد، بين الراحة والتعب، بين حياة الدعة والاطمئنان وحياة الكد والكفاح، بين عيش رغيد لها ولأسرتها وحياة جلها مغالبة لفقر لا يغلب وضنك لا يزول، ثم اختارت دامعة العينين، خافقة الفؤاد، وأوهمت نفسها أنها تضحي بسعادتها في سبيل الآخرين، وأن الليل استقبلها فتاة معذبة، وطلع عليها شهيدة من الشهداء. قالت لنفسها: «إني أحب علي، ولكني أحب إخوتي كذلك، ولا يجوز أن يذهب إخوتي ضحية لأنانيتي؛ لذلك - لا لشيء آخر - ينبغي أن أذعن لأبي. أنا لا أحب البك، ولا أحب الجاه، والله يعلم بذلك!» وهكذا صعدت إلى السيارة التي ظلت تطاردها بعناد وإصرار. كانت السيارة سحرا، وكان صاحبها ساحرا كذلك. كان علي طه عاشقا وناقدا في آن واحد، يحب ولكنه ينقد ويعلم ويرشد أيضا، أما البك فرجل فاتن، منظره جميل، وكلامه لذيذ، ودعاباته جنون وفتون. كانت عيناه بأعين المنومين أشبه، وكان إذا نظر في عينيها الجميلتين وعاطاها الحديث شعرت بتخدير عام واستسلام حالم. وجزى الله صبر المعلم شحاتة تركي خيرا، فجاءته يوما سيارة شيكوريل، وأفرغت حمولتها من الثياب الفاخرة! وحركت أم إحسان رأسها على طريقة العوالم وغنت: «حود من هنا وتعال عندنا.» ولاح السرور في عيني إحسان وهي تقلبهما في ألوان الحرير لتختار ما يروقها. وهكذا بدأ تاريخ جديد، ثم كانت نزهة الهرم بعد ذلك بأسابيع. انطلقت السيارة بالبك الجليل، إلى يمينه فلقة قمر تبعث الجنون. والحق أن إحسان بعد أن تريشت وأخذت زينتها، وصار شيكوريل ومدام جريكور الخياطة في خدمتها، أصبحت، على حد قول البك، جنونا رسميا. في ذلك اليوم بيت أمر؛ تعطلت السيارة في الطريق فتركها الراكبان، وقال البك إن له فيلا على مقربة من المكان، واقترح أن يستريحا فيها حتى يتم إصلاح السيارة، ومضيا إلى فيلا جميلة تحيط بها حديقة غناء، ثم قال البك إنها وقد شرفت بيته الخلوي فينبغى أن يحتفل بزيارتها الميمونة، وأمر خادما فهيأت لها مائدة من التفاح والشمبانيا، وقشر لها تفاحة، وقدم لها كأسا من الشمبانيا وهو يقول لها إنها شراب غير مسكر، ولذيذ. كان الوقت أصيلا، والحياة في أطيب أحوالها. كانت النافذة تشرف على خضرة يانعة يتيه فيها البصر، والسماء موردة الوجنات بحمرة الشفق، والحدأة تولي مودعة ضاربة بجناحيها، ووسائد الكرسي الكبير تتلقاها وكأنها تضمها بحنو، وقدماها منغرستين في سجادة وثيرة. وبعثت الشمبانيا الدفء في العقل، والعقل إذا أحس دفئا تهيأت له قوة سحرية يحول بها عالم المحسوس إلى عالم أطياف روحية، خال من الخوف والهم والأحزان. وتصاعد همس محبوب أشهى من نفثات الأماني، ونقرت على معصمها أصابع مسحورة، تدغدغ حواسها وتحمل دمها رسائل الاستفزاز، ونفذت أنفاس حارة مترددة كشكات الإبر من جيب فستانها إلى ثغرة صدرها وما بين ثدييها، وجعلت تدافع بساعدين مخذولتين، حتى يئست، فضمت بهما. •••
ونطقت عيناها بالفزع والارتباك والحياء، فقال لها البك بلهجة مطمئنة: لا تحسبي أني غدرت بك، إن مستقبلك أمانة بين يدي، والله على ما أقول شهيد ...
Unknown page