وكره محجوب عبد الدائم أن يدهش حقا، فتمالك نفسه، وقال بضجر: كلا لا يدهشني شيء، اختيار الموظفين تزييف، رسو العطاءات تزييف، الانتخابات نفسها تزييف، فلماذا لا يكون انتخاب ملكة الجمال تزييفا؟ •••
وأوشك الجمع أن ينفض، فذكر محجوب غرضه، ورأى الأستاذ سالم الإخشيدي يتجه نحو أحد الأبواب، فودع صاحبه ومضى نحوه. وكان الأستاذ قد نسيه تماما، فتصافحا وسارا معا إلى الباب المقصود، ودخلا حجرة كبيرة فاخرة الأثاث، جلست السيدة نيروز في صدارتها مع نفر قليل من أصحابها، وأهاب محجوب بجسارته أن يخونه الارتباك، واقترب مع صاحبه من السيدة الجليلة، وانحنى الإخشيدي على يدها مسلما، وقدمه إليه بصوته الرزين الهادئ: «الأستاذ محجوب عبد الدائم، مندوب النجمة! من خريجي الجامعة المعجبين بما أحدثت عصمتك من نهضة رائعة.» وانحنى لها محجوب فمدت له يدها قائلة: إني فخور بالجيل الجديد ... (وأتمت بالفرنسية) فقد طفح الإناء بالماء القذر، ولا بد من تطهيره وملئه من جديد ...
فقال محجوب بالفرنسية: هذا حق يا سيدتي ...
وكان الإخشيدي يقوم لها بدعاية في بعض الصحف إما بنفسه أو بواسطة بعض أصدقائه، فرجا أن تضيف ما عسى أن يؤديه محجوب إلى أفضاله السابقة. وألقت السيدة على الشاب أسئلة تتعلق بثقافته وتخصصه وآماله، فأجاب محجوب بلباقة، وجرى الحديث مجرى جديدا، فاستأذن الإخشيدي وصاحبه، وغادر المكان وهو يقول له مودعا: الشيء الكثير يتوقف على قلمك ...
حقا؟ ... أتحقيق أمله رهن بمقاله عن حفلة اليوم؟ ... وعاد إلى الجيزة متفكرا تستأثر به الأحلام، وأرق تلك الليلة كما كان يؤرقه الجوع في ليالي فبراير، تاه في وادي الأحلام والآمال، ثم ذكر طويلا السهرة التي عاش فيها نصف الليل كله؛ جمال الرفاهية، ومشاهد النعيم، ومجالي الحسن، وروعة العشق، وجنون الإباحية؛ تلك الحياة الباهرة التي تذوب روحه شوقا إليها ...
22
وعند ضحى اليوم الثاني كان يقطع حجرته الصغيرة ذهابا وجيئة مفكرا في المقال الخطير. ماذا يقول؟ كيف يبدأ؟ وبم يختم؟ ثم ركز ذهنه في حصر النقط الهامة، ثم هداه منطقه إلى طريقة لبقة في كشف النقط الخطيرة، فبسط صفحة، وشطرها نصفين بخط رأسي، وجعل لكل شطر عنوانا:
الحقيقة
ما ينبغي أن يكتب (1) إكرام نيروز كريمة رجل من صنائع الاحتلال. (1) أسرة إكرام نيروز وعراقتها في الوطنية. (2) غرامها بالشبان. (2) زوج وفية وأم بارة. (3) تفوقها في الفرنسية وعجزها في العربية. (3) اغترافها من الثقافتين العربية والفرنسية. (4) دار الضريرات حانة. (4) مشروعاتها الخيرية. (5) مدعووها على مثالها. (5) مدعووها على مثالها. (6) المدعوون يهتمون بكل شيء إلا الضريرات. (6) عاطفة الخير.
هكذا استخرج نقط الموضوع الخطير، ثم جلس إلى مكتبه يتهيأ للكتابة، ولكنه لم يكد يمسك بالقلم حتى سمع طرقا على باب حجرته - لأول مرة منذ انتقاله من دار الطلبة - فنهض منزعجا ساخطا وفتح الباب. رأى جسما ضخما يملأ عليه الفراغ ، فتذكره وخفق قلبه خفقة مروعة، كان ساعي سالم الإخشيدي دون غيره. ورفع عينيه إلى الرجل في تساؤل ولهفة، فقال الرجل مبتسما ولكن بصوت غليظ: سعادة البك يريدك على أن تقابله الآن. - سالم بك؟ - نعم! - أين؟ - في مكتبه بالوزارة!
Unknown page