وتفكر محجوب مليا، وانقبض صدره، وتكدر صفوه. كيف يتاح له التفوق في مثل هذا المجتمع؟! إنهم يعلون بمبادئه بغير حاجة إلى تفلسف، ولن يمتاز دونهم باستهتار أو جرأة، فما الفائدة؟! أليس من الأفضل أن ينقلب مصلحا كمأمون رضوان أو كعلي طه؟! وقطع أفكاره ظهر شاب كالقمر، ممشوق القوام، بديع الحسن، ناعم البشرة، فاتن العينين، أخاذ الملامح، لامع الشعر، يخطر كالغزال نافثا سحر الأنوثة والذكورة معا، فما تمالك أن تمتم قائلا: لله ما أجمله! ... أتعرفه؟
فقال أحمد بدير مبتسما: أحمد مدحت، أشهر من نار على علم، يدعونه بحق كوكب الشرق! - موظف؟! - ببنك مصر، متخرج في الحقوق منذ عام، مرتب ثلاثون جنيها. - ثلاثون جنيها! ومن كان شفيعه؟
فضحك بدير قائلا: هو شفيع نفسه يا أحمق!
ورن جرس يدعو المبعثرين في جوانب الحديقة إلى بهو التمثيل، فعادوا جميعا وأخذوا مجالسهم بهدوء ونظام، ورفعت الستار بعد قليل عن مجموعة من بنات الطبقة الراقية في أردية فرعونية رائعة، ورقصن جميعا رقصة فاتنة التصوير، دقيقة التعبير، أخذت بمجامع القلوب، حتى همس أحمد بدير بأغنية سيد درويش: «دا بأف مين اللي يألس على بنت مصر بأنه وش.» وصفق الجمهور للراقصات بحماس وإعجاب.
وأعلن بعد ذلك عن مسابقة الجمال، فسرت في الحاضرين هزة شوق واهتمام، وشملهم سرور عجيب، وظهرت على المسرح هيئة المحكمين. كانت المسابقة أمتع ما في السهرة، بل كانت المشهد الوحيد الذي أجمع الحاضرون على الاهتمام به، وقد تفحص أحمد بدير المحكمين بإمعان، ثم جرت على شفتيه ابتسامة خفيفة ساخرة، وأبرز من جيبه بطاقة كتب عليها كلمة أو كلمتين وطواها حتى صارت كالعويد، ودسها في جيب محجوب وهو يقول: دع هذه البطاقة حيث هي حتى تعلن النتيجة، ثم ابسطها تجد اسم ملكة الجمال!
فسأله محجوب بدهشة: وكيف عرفته؟ - صه ... انتباه!
وتركز انتباه الجميع في مكان واحد، ودعا الداعي أولى المتسابقات، فطلعت في سماء المسرح كالكوكب النير في بهاء وأناقة، وكانت ترفل في ثوب من الحرير الأبيض، وتبسم ابتسامة توحي بالهدوء واللطف، بيد أنها أخفقت في إخفاء ارتباكها. وقال أحمد بدير بأسف: في أوروبا تبدو المتسابقات عرايا! أما نحن فنقنع بالحكم على الظواهر ...
فتساءل محجوب ساخرا كعادته: ولماذا لا يختارون المحكمين من المطلعين؟!
وحملقت الأعين، وأمسك كثيرون بالنظارات المكبرة، وأثبت البعض ملاحظاتهم في مذكرات، واستمر العرض والفحص بلا سأم ولا ملال. وتتابعت الوجوه كالأقمار، ثم اختفت هيئة المحكمين للمداولة فتصاعد اللغط، وعلا النقاش، وتراهن كثيرون، وعادت اللجنة بعد قليل وأعلنت اسم الفائزة: آنسة هدى حيدر. فصفق الجميع، وصفق والدها في مقدمة الجميع، وأبرز محجوب البطاقة من جيبه، وبسطها، فوجد فيها اسم الفائزة «هدى حيدر» بخط واضح، فلاحت الدهشة في وجهه، وسأل رفيقه: ما معنى هذا؟
فابتسم أحمد بدير فخورا بفراسته وحسن اطلاعه على البواطن، ورغب أن يترك صاحبه لحيرته، ولكن الآخر ألح عليه، فلم ير بدا من إسكاته، فقال بصوت لا أثر للفخر فيه: عرفته بطريق المصادفة! رأيت الفائزة منذ يومين مع الأعضاء الصحافيين من لجنة التحكيم عند سفح الهرم، أيدهشك هذا؟!
Unknown page