فنفخ علي طه ضجرا وقال بيأس ملموس: لا أدري، إني الآن مهيض الجناح.
فقطب محجوب متظاهرا بالإشفاق، وقال وهو يلعن في سره نحسه الملازم: كفى الله الشر، ماذا تقول؟
وكان علي عصبي المزاج، لا يكاد يطوي سرا، فقال: كما ترى ... الأمر يتعلق بإحسان!
وكأن ماء باردا رش على وجهه، فثار اهتمامه، وغمغم متسائلا: خطيبتك!
فتنهد علي وقال بانكسار وحسرة: خطيبتي!
فازدادت دهشة محجوب، وقال بلهجة من يود معرفة كل شيء: لا أفهم شيئا ...
وتردد علي ثانية، أيبوح بسره؟ ... وكان بطبعه غير كتوم، وكان محجوب من أصحابه الذين أفضى إليه بقصة حبه، وكان إلى هذا وذاك في أشد الحاجة إلى الترويح عن نفسه، فقال بصوت أبان عن تأثره العميق ويأسه: ولا أنا، لشد ما أنا ذاهل حائر، ولشد ما أسائل نفسي، ما الذي حدث ؟! ما البواعث الخفية الأسيفة التي تنفث سمومها في الظلام؟ ... كانت الحياة تسير سيرا جميلا، كنا متحابين ونزداد على الأيام حبا، وكنا متفاهمين ونزداد على الأيام تفاهما. عرفنا ماضينا وأحببناه، وخبرنا حاضرنا ورضينا به، وأملنا مستقبلنا وانتظرناه، وتتابع اللقاء، وتمت الألفة، ورسخت المودة ...
وسكت علي لحظة، وعينا صاحبه لا تفارقان وجهه المتجهم، ثم اندفع يقول مسحورا بحرارة الحديث: ما الذي بث الفساد في حياتنا؟ إنه شيء لا يصدق، ولكنه الحقيقة دون زيادة، كيف حدث هذا؟! بدأت تتغير! وكان التغير طفيفا بادئ الأمر، ولكنه لم يخف عن قلبي اليقظ الساهر. رأيت في عينيها نظرة قلقة حائرة، تناوبها الشرود وفترت ابتسامتها، ومضت تتجافى عن حديث الحب، وتتقي ذكر آمالنا وعهودنا، فأخذت نفسي بالصبر عهدا عرفت فيه مرارة الحيرة وعذاب الشك، ولكن دون جدوى، فلم يتغير الحال، وكاشفتها بوساوسي، وقلت لها ما أجدر حبنا بأن يكون هباء إذا طوت دوني سرها! ولكنها اتهمتني بالمبالغة، واعتذرت عن تغيرها بتوعك مزاجها، فتضاعف عذابي وألمي ... كيف أصدق أن حبا كحبنا يموت فجأة وبغير نذير؟ وجددت بها، فصارت اللقيا جحيما، ثم انقطعت عني، أتصدق؟ لقد جننت، فرصدتها في كل مكان، وراسلتها، وثابرت على مطاردتها بعناد، فجاءت لمقابلتي، جاءت تتعثر بالحزن والخجل، فصحت بها أن تحولها سيورثني الجنون.
وأمسك الشاب، وكان محجوب يتابعه بحواس مرهفة، ويوليه اهتماما كاد ينسيه غرضه من الزيارة، وتظاهر بالتأثر الشديد ليشجع صاحبه على الاسترسال، فقال علي: قلت لها إن تحولها سيورثني الجنون، فقالت لي إن لقاءنا أورثها الجنون بالفعل، وقالت لي إن آمالنا مقضي عليها بالفناء؛ فينبغي أن نعالج حزننا بالحكمة، وأن نرضى بالنهاية المحتومة. هل أرضى بالشقاء دون دفاع؟! أأفرط في سعادتي دون سؤال؟! قالت لي إنها رغبة والديها، وإنها يئست من إقناعهما، وإنها لم تدع وسيلة، وضرعت إلي في النهاية أن نفترق وألا أضاعف لها العذاب.
ونظر الشاب إلى محجوب طويلا، حتى أفاق قليلا من سكرة الحديث، فتورد وجهه وقال: لماذا أطيل عليك؟ ... لقد انتهى كل شيء، تحطمت آمالي. إن دراسة الحكمة لا تغني عني شيئا.
Unknown page