وتنهد محجوب يائسا، ثم تفكر قليلا وقال: أظن شرط عبد العزيز بك راضي أرفق؛ فإني لا أملك مما تطلبه المطربة مليما، ولكني أستطيع أن أتنازل عن نصف مرتبي إذا صار لي مرتب، فكيف أتصل به؟ - ليس الآن ... ليس قبل شهر ونصف، بعد عودته من أداء فريضة الحج ...
تبا له! ولكن الجوع لن يبقي عليه حتى يعود الحاج. وقال بصوت خافت وهو يخشى أن يضيق به صاحبه ذرعا: الانتظار معناه الجوع ... فما عسى أن أصنع؟
فقال الإخشيدي ضاحكا لأول مرة: لست بالفتى الأمرد، ولا أمك بالفاتنة اللعوب، فما عسى أن أصنع أنا؟!
وساد الصمت، وبات في حكم المقرر أن ينهي الإخشيدي المقابلة، لولا أن خطر له خاطر، وتفكر سريعا ثم قال لنفسه إن استفادة محجوب محتملة، أما استفادته هو - إذا حقق هذا الخاطر - فمؤكدة! ثم قال: هنالك السيدة إكرام نيروز. - منشئة جمعية «الضريرات»؟ - نعم. - ولكنها مثرية جدا، ويضرب بثرائها المثل ... - نعم ... نعم ... السيدة لا تطلب مالا، ولكنها مغرمة بالشهرة والثناء، ويمكن أن أقدمها إليك في إحدى المناسبات، وعليك بعد ذلك بقلمك ومجلة النجمة؛ فإذا وفقت إلى رضاها ضمنت مستقبلك، إنها صاحبة نفوذ واسع يمتد إلى وزارات كثيرة، وأحزاب كثيرة.
وكان يرمي إلى استغلال الشاب في الدعاية لها، بعد أن يقدمه كأحد تابعيه الذين يأتمرون بأمره، فقال: ستقيم السيدة نيروز حفلة خيرية يوم الأحد القادم بدار «الضريرات»، فاحضر الحفلة وسأقدمك للسيدة، واكتب عن الحفلة وصاحبتها، ولننتظر، ولننتظر. - أيبلغني هذا ما أريد؟ - ربما توقف هذا على قلمك! ... وعليك أن تبتاع تذكرة بخمسين قرشا؛ لأنك لست صحافيا محترفا، وربما عرفت فيما بعد أن هذا المبلغ الزهيد أجل فائدة من ستين جنيها تؤديها للآنسة دولت ... فهلم دون تردد.
وعلى جسارته لم تؤاته شجاعته على أن يستلف منه ثمن التذكرة، فنهض قائما، وصافحه شاكرا، وغادر الحجرة.
20
خمسون قرشا! مبلغ زهيد حقا، ولكن كيف يحصل عليه؟ حقا إنه يدخر مكتبه وكتبه لينتفع بثمنها في الشهر الذي يسبق صرف أول مرتب إليه - ترى هل ينتظر يوما حقا هذا المرتب؟ - فمن يعطيه ثمن التذكرة؟
مأمون رضوان ارتحل إلى طنطا ليودع أسرته قبل السفر إلى أوروبا، فلم يبق إلا علي طه، ولا بد مما ليس منه بد.
وذهب إلى مكتبة الجامعة صباح السبت، واستقبله علي بالابتسامة المعهودة، ولكن محجوب أدرك من أول نظرة أن صاحبه حزين! ليس هذا علي طه الذي يعرفه، انطفأ نور عينيه البهيج، وهمدت روحه المتوثبة الحية، وكل هذا حقيق بأن يوليه سرورا لو وجده في ظروف غير هذه، أما اليوم فهو يشفق من أن يلقى هذا الحزن عثرة في سبيل الغرض الذي تجشم من أجله هذه الزيارة! وتعامى عما قرأه في وجه صاحبه وسأله: أين بلغ بك موضوع بحثك؟
Unknown page