جنيه واحد! أو ما يساوي إيجار حجرة بدار الطلبة؟ ... رباه، بالأمس ضاقت به الدنيا ونفقته ثلاثة جنيهات، فماذا هو صانع غدا بجنيه واحد؟ ولم يمهله الرجل طويلا، فاستدرك قائلا: لا حيلة لي، والخيار بين يديك!
هل يملك خيارا حقا؟ كلا، إن أباه مكره، وما عليه إلا الإذعان والتسليم. قال: لتكن مشيئتك.
فقال الشيخ: لتكن مشيئة الله، والله مسئول أن يوفقك لما فيه الخير، وأن يصل بك جناحنا المهيض.
واقترح الرجل على ابنه أن يرحل مساء حتى لا يضيع وقتا هو في أشد الحاجة إليه، وعند المساء ودع الشاب والديه، فقبل يد والده، واستسلم لأمه تقبله وتباركه، وحين هم بمغادرة الحجرة سمع والده يقول له: الله معك، اجتهد وتوكل على الله، ولا تنس أنك أملنا الوحيد ...
ومضى إلى المحطة، ومهما يكن من أمر فقد استنقذ من الحيرة التي نهكته عند مجيئه، وعلم الآن أن أمله لا يزال معلقا بخيط لم يقطع بعد. أما ما ينذر به المستقبل من متاعب فسيعرف كيف يعالجها مهما كلفه الأمر، وودع البلد وداعا فاترا، واتخذ مكانه بالقطار، وسرعان ما تناسى البيت والأسرة فلم يعد يذكر إلا نفسه. تساءل وهو ينتف حاجبه الأيسر: لماذا قدر له أن يولد في ذلك البيت؟ وماذا ورث عن والديه سوى الهوان والفقر والدمامة؟ أليس من الظلم أن يرسف في هذه الأغلال قبل أن يرى النور؟ ولو كان ابن حمديس بك مثلا لكان له جسم غير هذا الجسم، ووجه غير هذا الوجه، وحظ غير هذا الحظ، ولذاق الطمأنينة والسلام، ولاقتنى سيارة. وتفكر محزونا في الفقر الذي يتربص به، فرآه يبتسم إليه هازئا كأنما يقول له: «ما استطعت دفعي بثلاثة جنيهات، فهل تدفعني غدا بجنيه واحد؟!» أين يسكن؟ ... كيف يأكل؟ ... وهز رأسه في كمد، ولكنه لم يشعر بخور أو تخاذل. كان عظيم الثقة بنفسه، جريئا إلى أقصى حد، بيد أنه تميز غيظا وحنقا.
9
وشارف شارع رشاد باشا والشمس تذوب في بحيرة الشفق الدامية، والسمرة تلون حواشي الآفاق، ولاحت منه التفاتة وهو ينعطف إلى الشارع، فرأى علي طه قادما من ناحية الجامعة، فوقف ينتظره، وتصافحا، ثم قال علي باهتمام: حدثني الأستاذ مأمون عن مرض والدك، فأسفت لذلك غاية الأسف، وإنه ليسرني أن أستدل بسرعة عودتك على اطمئنانك!
وكره أن يطلع مخلوقا على أحزانه، فقال باقتضاب مبتسما: شكرا لك ... - أليس هو بخير؟ - بلى ... شكرا.
وسارا جنبا لجنب على مهل كأنهما يتنزهان، وتساءل محجوب: ترى أآت صاحبه من موعد غرام أم ذاهب إليه؟! هذا الشاب الذي يجد في محضره من دواعي السرور قدر ما يجد من دواعي الألم. واسترق إليه النظر، فرآه يسير حالما يضيء الابتسام وجهه، ويقبس جبينه من نور البشر والبشاشة، ويهتز طربا من نشوة الحب. أليس توفيق العاشق كظفر المحارب لذة وخيلاء؟ وشعر برغبة لا تقاوم في استدراجه إلى هذا الحديث الجميل، فقال مشيرا إلى مغارس الشجر مبتسما ابتسامة لها معناها: آه لو ينطق هذا الشجر!
ففطن علي طه إلى مرمى إشارته، وكان وجدانه من اليقظة بحيث ألحت عليه الإبانة والحاجة إلى التعبير، فقال بتأثر: أستاذ محجوب، هو ما تظن، ولكن لا تنظر إلى الأمر بعين السخرية، كلا، ما هو بالهزل، إن هزة قلب خطير له من المغزى في هذا الوجود ما لحركة الأفلاك في السموات، فلا تذكر أبدا خزان البخار وصمام الأمن.
Unknown page