فقالت المرأة المتعبة: أجل يا بني، كان في عمله عصر الثلاثاء الماضي كالعادة، فسقط فجأة فاقد النطق، وجاءوا به محمولا، ودعوا بالطبيب، وأتى الطبيب فحجمه وحقنه، ولا يزال يعوده كل صباح، ولكن لم يعاوده النطق إلا قبل ظهر اليوم. - ماذا قال الطبيب؟
فلاحت في عينيها نظرة حيرى، وتحركت شفتاها دون أن يسمع لها صوت، فقال أبوه: قال إنه شلل ... شلل ... جزئي ...
وارتاع الشاب لفظاعة الاسم، وإن كان يجهل حقيقته كل الجهل.
وأرادت أمه أن تفرخ روعه فقالت: ولكنه أكد صباح اليوم زوال الخطر ...
فاستطرد الأب بصوته المتقطع الغامض: إني ... أفهم ... ما يقال ... لن أعود كما كنت أبدا ...
فعض محجوب على شفتيه وسأل والدته: هل وقع الأمر بغتة؟ - كلا يا بني، كان أبوك كعهدنا به صحة وعافية، بيد أن ثقلا اعتور ساقه اليمنى، وصداعا شق عليه مساء الإثنين ...
وساد الصمت، فأغمض المريض جفنيه، ولبث بلا حراك، كأنما راح في سبات عميق، وعطف الشاب رأسه إلى أمه، فأيقن أول وهلة أنها لم تذق للنوم طعما منذ مساء الثلاثاء ، عيناها محمرتان ذابلتان، تطوقهما هالتان زرقاوان، وبشرتها شديدة الصفرة، وامتلأ حزنا وكمدا، ولاح والداه لعينيه مخلوقين بائسين مثله تماما، وجلس على كرسي قريبا من الفراش ثم أطرق متفكرا: هذه أسرة يتعلق مصيرها بحياة رجل مهدم، فماذا تحت الجفنين المطبقين؟ ... أحياة أم موت؟ ... أنجاح أم تشرد؟ لماذا لم يتأخر الشلل عاما آخر؟! وذكر شارع رشاد باشا الصامت الجليل، والقصور القائمة على جانبيه، والباشوات والبكوات تحملهم السيارات منه وإليه، والنساء اللاتي يلحن وراء ستائره وبين خمائله، فأين من أولئك والداه البائسان؟! وهذا البيت المتداعي! وجعل يقول لنفسه: إنه لو كان وريث أحد تلك القصور وأشفى أبوه - الباشا - على الموت، لانتظر موته بفارغ الصبر، وتنهد من قلب مكلوم وقد احتدم الغيظ في قلبه، ثم تساءل وهو لا يتحول عن إطراقه: ترى كيف تنتهي هذه المأساة؟! •••
واسترق النظر إلى أمه، وكانت تجلس مطرقة عند قدميه، فرآها غارقة في السواد الذي حلفت ألا تخلعه مدى الحياة منذ ماتت له أختان بالتيفود، ذابلة الوجه، تبدو أكبر من سنها الذي جاوز الخمسين بقليل، تنوء بأثقال عمر أنفقته أمام لهب الكانون ووهج الفرن، تعجن وتخبز وتغسل وتكنس، فتحجرت أصابع يديها، وبرزت عروق ظاهر كفيها، لم تجد في حياتها وقتا للثرثرة، كانت كالبترول الذي يحرك آلة كبيرة دون أن تدركه الحواس، وكانت تحب ابنها حب عبادة، وقد تضاعف هذا الحب بعد وفاة شقيقتيه في ميعة الصبا، ولكنها لم تترك أثرا يذكر في تكوينه وتربيته، وكانت لا تجد في حياتها من تكلمه، فعاشت كالبكم في صمت وجهالة. وقد أقسرت الظروف أباه على الاختفاء من حياته كذلك، فكان يواصل العمل في الشركة من الصباح حتى ما بعد العشاء، ثم يهرع بعد ذلك إلى حلقات الأذكار حتى منتصف الليل، فكان لا يكاد يرى ابنه. وكان رجلا مجدا دءوبا، مخلصا لبيئته، وصورة منها، لا يشذ عنها في شيء، يفاخر كثيرا بقرابته لأحد كبار الموظفين - قريب زوجته - وكان كزوجه لا يعرف الراحة، فلم يهنأ بحياته الزوجية، واقتصرت رعايته لابنه على إلزامه بالقيام ببعض فروض دينه مستعينا بالعصا في أحايين كثيرة؛ لذلك جميعه نشأ محجوب على خوف من أبيه، وانطلق إلى الشارع الذي أتم تربيته وتكوينه؛ ولذلك كانت صلته بوالديه واهية باهتة. كان يحب أمه أكثر من أبيه، ولكنه بات على استعداد دائما لأن يخضع صلته بهما لفلسفته المدمرة التي لا تبقي على شيء؛ فلم يكن حزنه حزنا على والده بقدر ما كان إشفاقا على الرجل الذي ينفق عليه ثلاثة جنيهات كل شهر.
8
في صباح اليوم الثاني جاء الطبيب وفحص المريض وحقنه بالكافور، ثم صرح بارتياحه للحالة مؤكدا أن الخطر زال تماما، وغادر الرجل الحجرة يتبعه محجوب حتى أدركه في الفناء، والتفت الطبيب إليه وقد أدرك الباعث الذي حمله على اللحاق به: الحقيقة ما قلت لأبيك، الإصابة جزئية، وإلا كانت القاضية، بيد أني صارحته كذلك بأنه لن يعود إلى عمله، وسيلازم الفراش بضعة أشهر، ولكنه سيحرك جنبه المشلول، بل ربما عاود المشي.
Unknown page