إذا خالف المنصوص بالقدح والرد
وترجم المؤلف شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب بما لم يخرج عما تقدم من ترجمته آنفا، ومما قاله: إنه كان أكثر لبثه لأخذ العلم بالبصرة، وأخذ في بث الدعوة، ثم سكن حريملا مع والده، مثابرا على دعوته، تاركا ما سلكه علماء السوء، فانتظم في سلكه عصابة اتخذوه جليسا، واتبعوا طريقته فقرءوا عليه كتب الحديث والفقه، واشتهر في بلدان العارض من حريملا والعينية، والدرعية، والرياض، ومنفوحة، وانحاز لدعوته جم غفير، وأقام في حريملا سنين، واهتدى به أحد الأمراء عثمان بن معمر في العينية، فأقام بها وساعده الأمير على الإرشاد فبدأ يعظم أمره ففشا الدين في بلدان العارض، فأمر الشيخ الأمير بهدم القباب، والمساجد المبنية على قبور الصحابة، وقطع الأشجار التي كان ينتابها الناس للتبرك وعدلت على السنن المشروعة، فأنكر عليه ذلك وحكوا بكفره واستحلال دمه وماله، وتقول بعضهم عليه ووشوا به إلى علماء الإحساء والبصرة والحرمين، وأفتوا الحكام بأنه أقبح الضلال والفساق وأشر الخوارج، وحسبوا أنهم إذا حرشوا عليه الحكام يجدون في قتله، فصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله، وقالوا: إنه مغير السنة والأحكام؛ يقصد تنفير الخواص والعوام ليشاقوا الولاة فيعصوهم، ولما تظاهر الشيخ بالدعوة والناس قد أشربت محبة المعاصي قلوبهم لم يكفر أولئك العربان وتوقف تورعا حتى تألبوا عليه وكفروه وجماعته، ولم يأمر بسفك دم أكثر أهل الأهواء، حتى حكموا عليه وأصحابه بالقتل والتكفير، ومع ما كان ينقل إليه من الأذى لم يكترث بهم، وكان يتضرع إلى مولاه أن يشرح للحق صدورهم، ولم يعامل أحدا بالإساءة بعد القدرة عليه، ولما وفدوا عليه ومثلوا بين يديه، لم يوبخ أحدا منهم، وأسدى إليهم معروفه وتجاوز عما فعلوه، فعل به أعداؤه ذلك، وأكثرهم معترف أن ما أتى به هو الحق والصواب، ولكن خشوا أن تسلب رئاستهم ودنياهم، توفي صاحب الدعوة وله من العمر قريب من اثنين وتسعين سنة، كان في خلالها مستمرا في تحصيل نافع الزاد، وصنف مصنفات كثيرة منها «كتاب التوحيد»، ورسالة عامة للمسلمين تسمى «كشف الشبهات» جوابا لشبههم التي أدلوا بها فيها خلاصة دعوته، ولباب علمه وكتب رسائل كثيرة في حث مجاوريه على الأخذ بما ارتآه والرد على خصومه، قال من جملة جواب له: إن تعليق التمائم من الشرك، وكتب الطلاسم في الحجب هي من السحر، والسحر يكفر صاحبه، وإن من دعا نبيا، أو صحابيا، أو وليا مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني وأغثني كافر بالإجماع، وأنكر التذكير، وقال: إنه من البدع، وذكر السيوطي في الأوائل أن أول ما حدث التذكير يوم الجمعة ليتهيأ الناس بصلاتها بعد السبعمائة في زمن الناصر بن قلاوون.
قال المؤرخ: والسبب الذي دعا ابن عبد الوهاب إلى الخروج من بلدة العينية بعد أن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أن امرأة من أهل تلك البلدة عرفت بسوء، فأقرت على نفسها وتكرر ذلك منها، فأعرض الشيخ عنها، ثم أقرت وعادت إلى الإقرار مرارا، فسأل عن عقلها، فأخبر بتمامه وصحته، فأمهلها أياما؛ رجاء أن ترجع عن الإقرار إلى الإنكار، فأقرت أربع مرات فأمر برجمها، فشدت عليها ثيابها لترجم بالحجارة على الوجه المشروع، فخرج الأمير عثمان وجماعة فرجموها حتى ماتت، فلما طار هذا الخبر كثر لغط أهل البدع، وطارت قلوبهم شعاعا، فلما أعياهم رد ما قاله من تلك المسائل عدلوا إلى ردها بالمكر والحيلة، فشكوه إلى شيخهم فأغروه به، فطلب إلى الأمير عثمان يأمره بقتله أو إجلائه عن وطنه، فأمر هذا الأمير الشيخ بالخروج فجاء الدرعية، فلما سمع الأمير محمد بن سعود بقدومه، أسرع إليه مسلما عليه فلطف منه محله وأخبره بأن يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده من جميع من عاداه، وطلب إلى الشيخ ألا يرحل عن بلده، وكان هذا الأمير معروفا في جاهليته بحسن السيرة، فعاهده الشيخ على عدم الخروج، وقام يدعو الناس إلى التوحيد وآزره وزراء الأمير وأعوانه وإخوانه من أهل الدرعية، وذلك في حدود سنة 1157ه، وبقي الشيخ سنتين يناصح الناس، وهاجر إلى الدرعية خلق كثير بينهم زمرة من أهل البيوتات ، وسنة 1206ه توفي الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحاله من العبادة في الصلاة والصيام مشهورة، يتلو القرآن أبدا ويحيي غالب الليل بالقيام والتأني في تنفيذ الأحكام من كتب الأئمة الأربعة المقلدة، وكان يجبى إليه المال من جميع بلدان المسلمين، فيتفرقه عليهم في طريقة من الزهد مرضية، وكان متكففا من ذلك المال، لا يأكل منه إلا بالمعروف، وكان سمحا كريما لا يرد سائلا، ومات ولم يخلف دينارا ولا درهما، وكان عليه دين كثير وفي عنه.
وذكر ابن غنام في تاريخه أيضا غزوات أتباع ابن عبد الوهاب مع من جاورهم من القبائل والبلدان، وكلها دائرة على بث دعوة واحتياز مغنم ومقابلة شر بمثله أخبار متشابهة، كان يجري مثلها في تلك الأصقاع، ويظهر للمتأمل أن معظم تلك الحروب التي جرت على عهد ابن عبد الوهاب كانت للدين، فلما مات عادت المطامع إلى مجراها السابق، والغالب أن الأمير النجدي وابنه اللذين عملا بمشورة الشيخ طول حياته، قاما ببث دعوته بين الأمراء المجاورين بعد أن اشتدت شكيمتهما.
ومن طالع هذا التاريخ وعرف حال الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يلبث أن يقع في ذهنه أن كل تاريخ هذه الطائفة قتل وقتال وقيل وقال. نعم، إن الأمر على ما يقول؛ فقد ذكر لي أحد عقلاء النجديين يوما ما معناه: يعاب على قومنا شيئان مهمان: أحدهما الفتن التي ما فتئت يثور ثائرها بين أظهرنا، والدماء التي تهراق من رفيعنا ووضيعنا ، وإن تكن غارات اليوم بين ابن سعود وابن الرشيد مثلا ليست كغارات أمس - تفرد السلطان عبد العزيز بن سعود منذ بضع سنين بحكم نجد كلها - المذكورة في تاريخ ابن غنام، فإن تلك كانت لنشر كلمة التوحيد بين أولئك الأعراب الجفاة، وهذه تدعو إليها المطامع - وثانيهما انقسام الناس في نجد إلى قبيلين، قبيل يقال له الخضيرية، وآخر يقال له قبيلية أو شيوخ، فالأول في حل من تعاطي الصناعات كلها، والثاني لا يجوز له تعاطيها؛ لأن ذلك يعد شينا عليهم وعرة في وجوه أنسابهم، فيقتصرون على التجارة والفلاحة، وإذا تعاطى أحد الشيوخ، وبعبارة ثانية الأشراف صناعة ما، وكان في الأصل شريفا يسقط عندهم شرفه، ويمسي معدودا من الطبقة النازلة طبقة الصناع والأجراء في بلاده طبقة الخضيرية، وإذا تزوج أحد الشيوخ من بني خضير؛ أي صاحب الشرف من فاقده، وكان للشريف عصبة يستحلون قتله مدعين أنه أسقط شرفهم. قلت له: وأنا أعيب عليكم أمرا ثالثا، ولطالما ذاكرتكم به وهو جمودكم على حالة واحدة في العلم، وتحريمكم مطالعة كتب لا تخلو مطالعتها من إنارة عقولكم، ووقوفكم عند حد البحث في الدين دون الالتفات إلى ما لا بد منه من علوم الدنيا، وما يخيل إلي إلا أن رجالكم الذين يأتون الأمصار عارفون ما تمس إليه حاجة بني نحلتهم من العلوم والصنائع، وما ينقصهم من المتممات التي لا أثر لها في باديتكم، أما انقسام الناس في نجد إلى فئتين فليس بالأمر الجديد، فإن الرومان كانوا كذلك، بل كان أشراف أسلافكم العرب الخلص يرون الصنائع مضيعة لشرفهم، ويعتدون في الغزو والغارة شرفهم الوحيد.
هذا ما لقفناه من تاريخ الإحسائي في أتباع محمد بن عبد الوهاب وهم الحنابلة بعينهم، وما ابن عبد الوهاب إلا داعية هداهم من الضلال، وساقهم إلى الدين السمح، وإذا بدت شدة من بعضهم فهي ناشئة من نشأة البادية، وقلما رأينا شعبا من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص مثل هؤلاء القوم، وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم سنين طويلة، فلم نرهم حادوا عن الإسلام قيد غلوة، أما الغزوات التي يغزونها فهي سياسية محضة، ومذهبهم برئ منها، وما يتهمهم به أعداؤهم زور لا أصل له والله أعلم.
دولة الأدب في حلب1 على عهد سيف الدولة بن حمدان
لكل قرن من قرون العز في العرب نابغة أو نوابغ من الملوك والأمراء، ومثلهم من العلماء والأدباء، وقد امتاز القرن الرابع في الشام - وإذا قلنا الشام عنينا هذا القطر المحبوب الممتد من العريش إلى الفرات، ومن جبال طورس إلى البادية على نحو ما كان يعرفه العرب - بقيام بني حمدان فيه، ورئيسهم سيف الدولة بن حمدان استولى على القسم الشمالي منه، والدولة العباسية قد أخذت تتناوشها ملوك الأطراف، وأمراؤها في العراق ومصر والشام والجزيرة، وأخذت دولة الخلافة بالضعف بصنع بعض الخوارج، ومنهم من كان ينازعها السلطة علنا، ومنهم من كان يشاركها فيها، ويخضع لها في الصورة الظاهرة، وبنو حمدان كانوا من هذا النوع الأخير.
أصل بني حمدان بطن من بني تغلب بن وائل من العدنانية، وهم بنو حمدان بن حمدان، كانوا ملوك الموصل والجزيرة وحلب في أيام المقتفي بالله العباسي، وأول من ملك منهم أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان، ثم أخوه إبراهيم بن حمدان، ثم أخوه سعيد ونصر أبناء حمدان، ثم استولى على الشام وحلب معين الدولة علي بن أبي الهيجاء بن حمدان، ثم لؤلؤ مولى سعد الدولة بن حمدان، ثم غلبه على ذلك صالح بن مرداس أمير بني كلاب وانتزعه منه في سنة 402ه.
كان للقبائل سلطان في هذه الديار، وأي سلطان؛ لأن البادية خلقوا رجال حرب وغزو أكثر من الحضر؛ لذلك كان العرب قبل الإسلام بخمسة أو ستة قرون يحكمون هذه الديار، أو يغيرون على المعمور منها، أو ينزلون في صقع معين منها فيبنون المصانع، ويغتنون كما يغتني أهل الحضر ويعيشون عيشهم، ومن هؤلاء العرب من كان لهم قبل الهجرة وبعدها مدنية رائعة مثل النبطين في الجنوب، وهم عرب تعزى إليهم آثار البتراء، أو وادي موسى، وآثار جرش في عجلون، ومثل الغسانيين في حوران، والصفا، واللجاة، ودمشق ، وحمص وغيرها، ومثل التنوخيين في أرجاء حلب، ومثل بني لخم وجذام، وكلب، وكلاب، وتميم وطي، وسليم، وعاملة، والضجاعم وغيرها من قبائل العرب التي نزلت الشام، فكانت عرضة كل حين لاستيلاء البادية عليها؛ لأن أهلها أشد مراسا وأجرأ على القتال يوم النزال؛ ولأن سلاح المدن والبوادي كان واحدا إذ ذاك، وهذا ما حدا بدولة الرومان لما أضافت هذه الديار إلى مملكتها أن تنشئ على سيف البادية مخافر كثيرة؛ ليأمن المعمور عيث البادية، ومن جملة الدواعي إلى استيلاء الحمدانيين على حلب طمع العرب فيها، وغزوهم لها المرة بعد المرة، ففي سنة 292ه ولى المكتفي أبا الحسن ذكا بن عبد الله الأعور حلب، ودام بها إلى سنة 302، فعاثت بنو تميم في أيامه في حلب، وأفسدت فسادا عظيما وحاصروا ذكا بحلب، فكتب المقتدر إلى الحسين بن حمدان في إنجاد ذكا بحلب، فأسرى من الرحبة حتى أناخ عليهم بخناصرة وأسر منهم جماعة، وقامت على الحسين بن حمدان العرب من كلب، واليمن، والنمر، وأسد وغيرهم فاجتمعوا بنواحي حلب، فخرج للقائهم سنة 294 فهزموه حتى بلغوا به باب حلب.
Unknown page