وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ، إلى أن قال:
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب * ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود .
ولشرف الخطابة وتأثيرها في تطهير النفوس أوجبها الشارع، وسنها للمسلمين في مساجدهم كل جمعة وعيد، وفي الحج؛ أي في عرفة، وأوجب على الحضور التزام الأدب مع الخطيب، بل علمهم حسن الإصغاء، وفي الحديث: إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت، ولم يعين الشارع للخطب الدينية أو خطب الجوامع والمواسم موضوعا خاصا بل جعلها مطلقة، يتناول الخطيب الكلام من المناسبات الزمنية، ويورد للحضور من هدي الشارع، ما يذهب به أرواحهم ويهيب بهم إلى بارئهم، ويغرس فيهم مكارم الأخلاق، ويطبعهم بطابع الفضائل، ويحذرهم البغي والظلم، ويستل بلطيف أسلوبه سخائمهم وأحقادهم، ويأمر بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويزين لهم العمل الصالح، ويربأ بهم عن مهلكات الشهوات. (3) البلاغة للعرب
قال الجاحظ: إنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس، وأما الهند فإنما لهم معان مدونة، وكتب مخلدة، لا تضاف إلى رجل معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنما هي كتب متوارثة وآداب على وجه الدهر سائرة مذكورة، ولليونانيين فلسفة وصناعة منطق، وكان صاحب المنطق نفسه بكيء اللسان، غير موصوف بالبيان مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه بخصائصه، وهم يزعمون أن جالينوس كان أنطق الناس، ولم يذكروه بالخطابة ولا بهذا الجنس من البلاغة.
وفي الفرس خطباء إلا أن كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم، وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين أن يمنح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمنافلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف همه إلى جملة المذاهب ، وإلى العمود الذي يليه بقصد، فتأتيه المعاني إرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحدا من ولده.
وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأمهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، أو يحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم من غير تكلف، ولا قصد، ولا تحفظ، ولا طلب، وإن شيئا الذي أبدينا جزءا منه لبالمقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب، وعدد التراب، وهو الذي يحيط بما كان والعالم بما سيكون.
ونحن أبقاك الله إذا ادعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيدة والإرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنمط الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان، أن يقول في مثل ذلك إلا في اليسير والنبذ القليل، ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولدة، إذا كان مثل ابن المقفع، وسهل بن هارون، وأبي عبيد الله، وعبد الحميد، وغيلان، وفلان وفلان لا يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السير، وأخرى أنك متى أخذت بيد الشعوبي، فأدخلته بلاد الأعراب الخلص، ومعدن الفصاحة التامة، ووقفته على شاعر مفلق، أو خطيب مصقع، علم أن الذي قلت هو الحق وأبصر الشاهد عيانا، فهذا فرق ما بيننا وبينهم، فتفهم عني فهمك الله ما أنا قائل.
هذه حجة الجاحظ في أن العرب أفصح الأمم، وقال أيضا: إن جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر، والبدو والحضر على حزبين، منها الطوال ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به، وموضوع يحسن به، ومن الطوال ما يكون مستويا في الجودة، ومشاكلا في استواء الصنعة، ومنها ذوات الفقر الحسان، والنتف الجياد، وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ، وإنما حفظها التخليد في بطون الصحف، قال: ومتى شاكل أبقاك الله ذلك اللفظ معناه، وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقا، ولذلك القد لفقا، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف، كان قمينا بحسن الموقع، وبانتفاع المستمع، وأجدر أن يأمن جانبه من تناول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العيابين، ولا تزال القلوب به معمورة، والصدور مأهولة، ومن كان اللفظ أيضا كريما في نفسه، متحيرا في جنسه، وكان سليما من الفضول، بريئا من التعقيد، حبب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، ودهشت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريض.
فإن أراد صاحب الكلام صلاح شأن العامة ومصلحة حال الخاصة، وكان ممن يعم ولا يخص، وينصح ولا يغش، وكان مشغوفا بأهل الجماعة، شنقا لأهل الاختلاف والفرقة، جمعت له الحظوظ من أقطارها، وسبقت إليه القلوب بأزمتها، وجمعت النفوس المختلفة الأهواء على محبته، وجبلت على تصويب إرادته، ومن أعاره الله من معرفته نصيبا، وأفرغ عليه من محبته ذنوبا، حنت إليه المعاني، وسلس له نظام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع من كد التكلف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم، ولم أجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأقحاح، ألفاظا مسخوطة، ولا معاني مدخولة ، ولا طبعا رديا، ولا قولا مستكرها، وأكثر ما نجد ذلك في خطب المولدين البلديين المتكلفين ومن أهل الصنعة المتأدبين، سواء كان ذلك منهم على جهة الارتجال والاقتضاب، أو كان من نتاج التخير والتفكر. ا.ه. (4) مكانة الخطابة وعيوب الخطباء
تقدم لك قانون البلاغة والخطابة الذي وضعه عمرو بن بحر الجاحظ في صفحة، وتدارسه يغني طالب الخطابة عن كتاب، ورب مقالة خير من سفر. ولقد عرفت العرب مع ما كانت عليه من الغريزة الفائقة في البيان صعوبة الخطابة، وأنها لا يوفق إليها إلا أفراد، ولذلك كانت تكرم الخطيب أكثر من إكرام الشاعر، وقد ضربت المثل بالخطيب في قولها: «الخطب مشوار كثير العثار»، والمشوار هو المكان الذي تعرض فيه الدواب، وقالوا: «عقل المرء من فوق لسانه»، وكانت تتعاير بالفهاهة وقلة الإجادة في البيان، وتقول: نعوذ بالله من الإهمال، ومن كلال الغرب في المقال، ومن خطيب دائم السعال. قال بشر بن معمر في مثل ذلك:
Unknown page