قال جول هوري:
9
يمكن إرجاع الأمم الرئيسة في أوروبا إلى ثلاثة عناصر مختلفة: العنصر اللاتيني، والعنصر الجرماني، والعنصر الإسكلافوني. فالعنصر اللاتيني هم الطليان، والفرنسيس، والإسبانيون، والبرتغاليون ، وقد ورثوا من الرومان مدنيتهم ولسانهم، والألمان، والسويسريون، والإنكليز، والسويدان، والدانمركيون، والهولانديون هم من الشعوب التويونية، والروس والبولونيون هم من الشعوب الإسكلافونية. وإن الأمم التي كان تهذيبها العقلي من أصل لاتيني، هي أعرق في المدنية من غيرها، ورثت، إلا قليلا، من ذكاء الرومان ومهارتهم في إدارة أعمال هذا العالم، وقبل أن تتأصل فيهم النصرانية قاموا بإنشاء معاهد اجتماعية بنيت على أساس الوثنية.
ولما جاءت أمم الشمال تفتح بلادهم قبلت هذه الأمم أخلاق البلاد التي افتتحتها، قال: وهذه الملاحظات تختلف، ولا شك باختلاف الأهوية والحكومات والحوادث التاريخية، فقد أثرت سلطة الكنيسة مثلا في إيطاليا آثارا لا تمحى، وكان من نتائج الحروب الطويلة مع العرب أن قويت العادات العسكرية، وفكرة الإقدام على العظائم في الإسبانيين. ويقال بالإجمال: إن هذا الجزء من أوروبا الذي اشتقت ألسنته من اللسان اللاتيني وامتزج منذ الزمن الأطول بسياسة رومية، تقرأ في صفحاته آثار مدنية قديمة كانت فيما مضى وثنية، وإذا كانت الأمم الجرمانية قاومت سلطة الرومان لم تتشبع بالمدنية إلا مؤخرا، دخلتها من طريق انتشار الديانة المسيحية، فلم تلبث في الحال أن انقلبت من نوع من البربرية إلى مجتمع مسيحي. أما مدنية الإسكلافونيين فهي أحدث المدنيات وأسرعها من سائر مدنيات الشعوب؛ ولذلك لا تزال ترى فيها حتى اليوم آثار النقل والاحتذاء، وتفقد فيها صفات الإبداع والاختراع. •••
ولو شئنا أن نعدد الأمثلة من هذا القبيل، لأصاب نفوس الحضور سأم، ولكن اكتفينا بما أوردنا على مسامعكم برهانا على تمازج أجدادنا العرب بأهل الغرب، تمازجا حمد الإخلاف عاقبته، وإن جمودنا عن الأخذ بكل ما في مطاوي مدنيتهم من الأوضاع أمر طبيعي يعد في باب حبنا لوطنيتنا. وإذا كانت أوروبا ظلت تتسكع في دياجي الجهالة قرونا حتى صحت نيتها على اقتباس المدنية القديمة الرومانية واليونانية والعربية، أفلسنا نحن أسرع منها خطى! ولقد رأيتنا في قرن أو بعض قرن اقتبسنا طرفا صالحا لا يستهان به من علوم الغرب وقوانينه في ترتيباته ومصطلحاته. وهاك الآن جملة لإمام العرب في العقل والعلم أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ - رحمه الله - فهي فصل الخطاب في هذا الباب، استمعوا إليها بقلوبكم، فإنها مثال العلم الناضج منذ أحد عشر قرنا، وأنموذج البيان العربي، أذكرها لا على سبيل التفاضل بين الأمم بل للعبرة والحكمة.
قال الجاحظ في رسالته إلى الفتح بن خاقان في مناقب الترك وعامة جند الخلافة: إن كل أمة وقرن، وكل جيل وبني أب وجدتهم قد برعوا في الصناعات، وفضلوا الناس في البيان، أو فاقوهم في الآداب، أو في تأسيس الملك، أو في البصر بالحرب، فإنك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية إلا أن يكون الله تعالى قد سخرهم لذلك المعنى بالأسباب، وقصرهم عليه بالعلل التي تقابل تلك الأمور وتصلح لتلك المعاني؛ لأن من كان متقسم الهوى مشترك الرأي متشعب النفس غير موفر على ذلك الشيء ولا مهيأ له، لم يحذق من تلك الأشياء شيئا بأسره، ولم يبلغ فيه غايته؛ كأهل الصين في الصناعات، واليونانيين في الحكم والآداب، والعرب فيما نحن ذاكروه في موضعه، وآل ساسان في الملك، والأتراك في الحروب. ألا ترى أن اليونانيين الذين نظروا في العلل ثم لم يكونوا تجارا ولا صناعا بأكفهم، ولا أصحاب زرع ولا فلاحة، ولا بناء وغرس، ولا أصحاب جمع ومنع وحرص وكد، وكانت الملوك تفرغهم وتجري عليهم كفايتهم، فنظروا حين نظروا بأنفس مجتمعة وقوى وافرة وأذهان فارغة، حتى استخرجوا الآلات والأدوات والملاهي التي تكون جماما للنفس، وراحة بعد الكد، وسرورا يداوي قرح الهموم؛ فصنعوا بعد المرافق، وصاغوا من المنافع كالقرسطونات والقبانات والإسطرلابات، وآلة الساعات ، وكالكونيا، والكشتوان، والبركار، وكأصناف المزامير، والمعازف، وكالطب، والهندسة، واللحون، وآلات الحرب كالمجانيق، والعرادات، والرتيلات، والدبابات، وآلة النفاط، وغير ذلك مما يطول ذكره، وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا فعلة يصورون الآلة ويخرطون الأداة ويصوغون المثال ولا يحسنون العمل به، ويشيرون إليها ولا يمسونها، يرغبون في العلم ويرغبون عن العمل.
فأما سكان الصين فهم أصحاب السبك والصياغة، والإفراغ، والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنحت والتصاوير، والنسج والخط، ورفق الكف في كل شيء يتولونه ويعانونه وإن اختلف جوهره وتباينت صنعته وتفاوت ثمنه، فاليونانيون يعرفون العلل ولا يباشرون العمل، وسكان الصين يباشرون العمل ولا يعرفون العلل؛ لأن أولئك حكماء، وهؤلاء فعلة، وكذلك العرب لم يكونوا تجارا ولا صناعا، ولا أطباء ولا حسابا، ولا أصحاب فلاحة فيكونوا مهنة، ولا أصحاب زرع؛ لخوفهم من صغار الجزية، ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم وطلب ما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورءوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغناء الذي يورث التبليد - ترك الاتجاه لشيء - والثروة التي تحدث الغرة، ولم يتحملوا ذلا قط فيميت قلوبهم أو يصغر عندهم أنفسهم، وكانوا سكان فياف وتربية عراء لا يعرفون الغمق ولا اللثق - أي ركوب الندى الأرض وركود الريح وكثرة الندى - ولا البخار، ولا الغلظ، ولا العفن ولا التخم، أذهان حداد ونفوس مفكرة، فحين حملوا حدهم ووجهوا قواهم إلى قول الشعر وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة، وتصاريف الكلام، وقيافة البشر بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، وتعرف الأنواء والبصر بالخيل والسلاح، وآلة الحرب والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب والمثالب؛ بلغوا في ذلك الغاية وحازوا كل أمنية، وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر وهممهم أرفع، وهم من جميع الأمم أفخر ولأيامهم أذكر.
وكذلك الترك أصحاب عمد وسكان فياف، وأرباب مواش، وهم أعراب العجم كما أن هذيلا أكراد العرب، فحين لم تشغلهم الصناعات، ولا التجارات، ولا الطب، ولا الفلاحة، والهندسة، ولا غرس ولا بنيان، ولا بثق أنهار، ولا جباية غلات، ولم تكن هممهم غير الغزو والغارة والصيد وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال وطلب الغنائم وتدويخ البلدان، وكانت هممهم إلى ذلك مصروفة، وكانت لهذه المعاني والأسباب مسخرة ومقصورة عليها وموصولة بها؛ أحكموا ذلك الأمر بأسره وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم ولذتهم وفخرهم وحديثهم وسمرهم، فلما كانوا كذلك صاروا في الحرب، كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا وكآل ساسان في الملك والسياسة. قال الجاحظ: وليس في الأرض كل تركي كما وصفنا، كما أنه ليس كل يوناني حكيما، ولا كل صيني في غاية من الحذق، ولا كل أعرابي شاعرا فائقا، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم، وفيهم أظهر وأكثر. ا.ه.
وقال الجاحظ في فخر السودان على البيضان يميز بين اليهود والصينيين: وأما الهند فوجدناهم يقدمون في النجوم والحساب، ولهم الخط الهندي خاصة، ويقدمون في الطب، ولهم أسرار بالطب وعلاج فاحش الأدواء خاصة، ولهم خرط التماثيل ونحت الصور بالأصباغ تجد من المحاريب وأشباه ذلك، ولهم الشطرنج وهي أشرف لعبة وأكثرها تدبيرا وفطنة، ولهم السيوف القلعية وهم ألعب الناس بها وأحذقهم ضربا بها، ولهم الرقى النافذة في السموم وفي الأوجاع، ولهم غناء معجب، ولهم الكنكلة وهي وتر واحد يمر على قرعة، فيقوم مقام أوتار العود والصنج، ولهم ضروب الرقص والخفة، ولهم الثقافة عند الثقاف خاصة، ولهم معرفة المناصفة، ولهم السحر والتدخين والدمازكية، ولهم خط جامع لحروف اللغات وخطوط أيضا كثيرة، ولهم شعر كثير، وخطب طوال، وطب في الفلسفة والأدب، وعنهم أخذ كتاب كليلة ودمنة، ولهم رأي ونجدة، وليس لأحد من أهل الصين ما لهم، ولهم من الرأي الحسن والأخلاق المحمودة مثل الأخلة والقرن، والسواك، والاحتباء، والفرق والخضاب، وفيهم جمال وملح واعتدال وطيب عرق، وإلى نسائهم تضرب الأمثال، ومن عندهم جاءوا الملوك بالعود الهندي الذي لا يعدله عود، ومن عندهم خرج علم الفكر، وما إذا يكلم به على السم لم يضر، وأصل حساب النجوم من عندهم أخذه الناس خاصة.
هذا أجمل وصف للأمم القديمة في الحضارة، وما امتاز به الأبيض والأصفر والأحمر والأسود، والفروق لا ترتفع من بين الأجيال إلا بالتربية والتهذيب، والعلوم الأدبية الصحيحة، وتبقى كل أمة في العاقبة على ما لا غنية لها عنه، وهو من دواعي أفقها وتاريخها، والرجاء معقود بأن يكون الدور الجديد الذي تدخل فيه العرب اليوم دور التجدد والنشوء الاجتماعي الكبير، فننبذ كل ما لا يمس أصلا من أصولنا القديمة، ونقبل كل جديد فيه النهوض والاعتلاء، وأن يعطينا الغرب القدر الذي أخذه من علم أجدادنا نستعين به على قيام أمرنا، فإن الأيام دول، والدهر بالناس قلب حول، فسبحان من لا يشغله شأن عن شأن وهو القابض الباسط المعز المذل.
Unknown page