Qadim Wa Hadith

Kurd Cali d. 1372 AH
131

Qadim Wa Hadith

القديم والحديث

Genres

سلام على وادي دمشق، إنه آية الحسن والإحسان، فيه تتجدد الحياة كل حين؛ لأنه بمنزلة الربيع من الزمان، ويحلو العيش في ظل أفيائه على سذاجته مهما كان مرا، وتطمئن النفس إلى التنقل في رباعه بردا كان أو حرا، إيه غوطة جلق لم يؤثر عنك أن أمسكت خيراتك عاما عن أبنائك، فلا تفتئين على الدهر تخرجين لساكنيك أفلاذ أكبادك، على تعاقب الأمم والدول، وتصدقين الود لكل من يطلب قربك، فيعيش معك في رخاء وصفاء.

سلام على سكونك في الليالي الظلماء والقمراء، ربيعا كان أو صيفا أو خريفا أو شتاء، وهنيئا مريئا لمن يستمتعون بالنظر إليك من الصباح إلى المساء، ويتعهدونك بالحرث والكرث والتقليم والتنقية والزرع والإرواء، سواء عندهم حمارة القيظ وصبارة القر، وظلمة الليل وشمس النهار، سلام عليهم أنهم مثال النشاط في المزارعين، لا يضنون على أرضهم بأوقاتهم وأتعابهم، وهي تجودهم ضروب الخير والمير كلما جودوا زراعتها، وتزيدهم بركات على بركات كلما رعوها فأحسنوا رعايتها، وهم مهما صهرت جسومهم حرارتها، وصفرت سحناتهم رطوبتها بيض الوجوه شم الأنوف؛ لأن رزقهم مناط أيديهم العاملة، لا يعتمدون في تحصيل قوتهم على غير قوتهم، ولا يتكلون إلا على من ينزل الغيث، ويمرع الزرع، ويدر الضرع، ولو حسن فيها نزع الفضول من العقول، وأنيرت بأنوار علوم المدنية على الأصول، فتعهد أبناؤها بالتربية كما تربى عندهم الرياض والحقول، وتوقى مما يؤذي الزروع والثمار والبقول، لكانت خير بقعة يسكنها ساكن في الحياة، ولصح عليها قول من قال: طوبى لمن كان له في أرضها مربض شاة.

سلام غوطة دمشق كلما غردت أطيارك، فلك على المشاعر سجع الحمام واليمام، وهديل العندليب والهزار، وتغريد العصفور والشحرور، كيف لا تستهوين النفس، ونعيق الغربان، ونقيق الضفادع، إذا رددهما الصدى في لياليك يفسرهما القلب بمعان لا تفهم منهما في الكور الأخرى، كما يفسر في النهار ثغاء الماعز والحملان، وجؤار البقر وخوار الثيران.

فسلام وألف سلام عليك يا كريمة الطبع، وبديعة الصنع، وعريقة المجد، ونبيلة الجد والجد، وزكية العرق، وهينة الرزق، وطيبة النجار، والمحسنة للأهل والجار، ففي مغانيك تصفو النفس من كدورات هذه الحضارة الملفقة، وتنجو من سماع فظائع الإنسانية المعذبة، وبقليلك - وإن كان قليلك لا يقال له قليل - يغتبط الإنسان، ولا يتكالب على حطام الدنيا تكالب الضاري من الحيوان، ويطلع الزهرة ربة الجمال من منافذ أفقك، توحي إلى الخيال روحا من عندها، فتفيض القرائح وترق العواطف، وفي منبسط صعيدك الطيب، يسلو الخاطر همومه، وتطرب الحواس، من دون ما كاس، ولا نغمة أوتار وأجراس.

في هذا الريف العجيب تقرأ سور العدل الإلهي في تقسيم الأرزاق، فلا فقر مدقع، ولا غنى مفرط، ويعيش القائمون على تعهده عيشا متشابها إلا قليلا، يغتني أفراد منهم بذكائهم واقتصادهم، فلا ترى في فقرائهم سلاطة الجياع أرباب النهم، ولا في أغنيائهم قسوة قلوب أهل الرفاهية والنعم، فسبحان من وفر للغوطة قسطها من الغنى والغناء، وضاعف لها حظها من الجمال والاعتدال، وأجزل لها عناصرها الحيوية، فزادها كر الجديدين نماء إلى نماء.

شبه جزيرة كليبولي

إلى هذه البقعة الطيبة بمناظرها وغاباتها وسهولها وجبالها يهوي اليوم ويحق له أن يهوي فؤاد كل عثماني يحب هذا الوطن المحبوب ، ويتفانى في التبرك بتربته، ويخاف عليها من عوادي المعتدين، ويكره لها ظل المستعمرين من الغربيين.

جزيرة مستطيلة كهذه يبلغ عرضها - فيما أذكر - من ستة كيلومترات إلى ثلاثين، وطولها 85 كيلومترا، تتقاذفها القنابل والقذائف والدمرات والمنفجرات وطيارات السماء ودوارع الماء منذ زهاء سبعة أشهر، وهي لا تزال صابرة على الأذى باسمة الوجه للقاء العدى.

في هذه الشبه الجزيرة تجلى العقل العثماني، وتم آخر ما وصلت إليه مدارك أبناء هذا الوطن في استكمال أسباب الدفاع، والأخذ بحظ أوفر من أساليب الكر والفر والتعبئة والمصاف، ولولا هذه العناية والاستهانة بكل عزيز في سبيل الذود عن حمى هذه الشبه الجزيرة؛ لتبدلت وجه الحرب الأوروبية، ولنالنا من الاضطهاد ما لا يكاد يخطر لنا على بال.

هذه الأرض المحاطة بالبحر من أكثر أطرافها عرفت دول الاتفاق المربع أن هناك قوة أسمى من قوة البشر، وهي القوة الإلهية التي استند إليها العثمانيون قبل كل شيء، ودونها قوى الأساطيل والغواصات والطيارات والمقذوفات والمفرقعات، يضاف إليها يقين مازج الأفئدة، والأرواح من ثقة الانتصار، وكراهة ليس بعدها غاية لحكم الأجنبي والتشبيع بمعاني الوطنية والجنسية.

Unknown page