Qadim Wa Hadith

Kurd Cali d. 1372 AH
129

Qadim Wa Hadith

القديم والحديث

Genres

قضى الله على هذا القطر أن يكون منذ القديم مهاجرا لأمم الأرض، ولا سيما من الأولى قيض لهم الحكم عليه من روم وفرس وترك وجركس وكرد، أو كانوا مجاورين له من شماله وجنوبه وشرقه وغربه، فيأتيه بعضهم متاجرا، وآخر موظفا، وفريق غازيا وغيره مسالما، وتربة مصر الجيدة تبتلع من تبتلع من تلك العناصر وتحيلهم بوتقة النيل مصريين، ومنهم من يعود من حيث أتى بعد أن يقضي في ربوعها زمنا، وقد استفادوا منها ماديا أو معنويا.

وكان بعض تلك الأجناس إذا نزلوا العاصمة وقواعد المدن في القطر يجتمعون في بقعة واحدة، ويؤلفون جماعة أو حزبا، ويتخذون لهم حارات خاصة بهم يسكنونها، ومحال تجمعهم وعادات يحرصون على الاحتفاظ بها والجنسية علة الضم، أو كما قال امرؤ القيس:

وكل غريب للغريب نسيب

أما إذا نزلوا الأرياف فقلما كنت ترى لهم كلمة، فيبقون في غمار السكان في الغالب ويمتزجون بأهلها، فيجعل ذلك لهم فقد لغاتهم أن يكونوا لا يتكلمون العربية، أو فقد جنسياتهم إن كانوا عربا، وما هي إلا بضع سنين حتى يصبحوا مصريين صرفا.

والغالب أن كل فاتح يستعين بالغرباء على قيام أمره، ويعتمد في الأكثر على أناس من بني جنسه، هكذا فعل الرومي والفارسي قبل الإسلام، وهكذا فعل التركي والجركسي والكردي والأرناؤدي بعده، وإن كان الإسلام قد منع من القول بالجنسية والعصبية، ولكن الدول تراعي في هذا الشأن حالة الزمان والمكان، ثم إن الغالب يرى من الواجب عليه أن يقرب إليه الأقرب والأقرب، والأقربون أولى بالمعروف.

هذا إجمال من تاريخ نزول الذين هبطوا مصر في الأدوار السالفة، وإنا لنرى منه اليوم مثالا مجسما من المحتلين وتوسيدهم الوظائف الكبرى الرابحة إلى أبناء جلدتهم، فإذا لم يجدوا منهم من يرتضونه، يختارون أن يوسدوها إن أمكن لرجل أوروبي بدل المصري أو العثماني، كما يختارون توسيدها للمسيحي أو غيره من غير أهل الإسلام.

بمثل هذه الحال السياسية يحدث الخلف بين الوطني والنزيل، ويلتف كل فريق على فريقه، والحكام من وراء ذلك يسرون بهذه الفرقة بين الأجناس والعناصر، ما دامت القاعدة التي سارت عليها الحكومات هي «فرق تسد»؛ ولذلك كان يزداد هذا التنافر بين الدخيل والأصيل، كلما نفخ الحاكم في ضرامه، ويخمد كلما انقطعت عنه مادة التفريق، وهذا ما دعا إلى أن تكون لكل عنصر من النزلاء جمعياتهم الخاصة بهم ومدارسهم وكنائسهم وحاراتهم ومحالهم وأنديتهم.

لا يكاد يمضي شهر إلا ويجيئني كتاب من جماعة، يطلبون إلي أن أشاركهم في جمعية سورية، يريدون تأسيسها لغرض اجتماعي أو أدبي أو خيري، وأن أساعدهم مساعدة أدبية بالقلم إن لم تتيسر لي مساعدتهم بالدينار والدرهم فأعتذر إليهم، فمنهم من يقبل العذر، ومنهم من لا يقنعه قولي ويحمله على ما يقع في نفسه من الظنون، ومعظم هؤلاء الداعين جماعة من المسيحيين يريدون أن يكثروا بالمسلمين سوادهم، ويستعينوا بهم على غرض يرون فائدته لأبناء بلادهم.

المسلمون العثمانيون أو السوريون في مصر أفراد قلائل بالنسبة لسائر العناصر؛ ولذلك لم ير اللورد كرومر في كتابه «مصر الحديثة» أن يخصهم بكلمة لقلة سوادهم، وبعبارة أخرى إن أكثرهم من التجار أو من السوقة لا يدخلون في مسائل البلاد العمومية، ولا يتأتى للاحتلال أن يعتمد عليهم؛ لأن الدين يمنعهم من خدمة أفكاره، وهم يرون المصريين إخوانهم في الدين والتابعية واللغة والجوار، وهل أعظم من ذلك رابطة؟!

وما راعني أمس إلا كتاب من أحد المسلمين السوريين من تجار هذه العاصمة، يقول لي: إنه ساع مع بعض أصحابه في تأسيس جمعية خيرية إسلامية سورية بالقطر المصري، تساعد الفقراء السوريين المسلمين ممن لا ناصر لهم ولا ملجأ، يلجئون إليه عند الشدائد؛ وذلك لأن إلقاء حبلهم على غاربهم مما يشين سمعتنا الأدبية بين الخاص والعام، ولا فرق في ذلك بين الدمشقي والحلبي والبيروتي والطرابلسي وغيرهم؛ لأنهم كلهم أبناء طائفة واحدة، وتظلهم راية واحدة، ويدور محور أعمال هذه الجمعية على مواساة الفقراء، وتربية الأيتام على الطرق الحديثة، وإدرار الأرزاق على الأرامل والمرضى، وتجهيز الموتى، وتسفير الفقراء، وتتولى الجمعية غير ذلك من أعمال الخير، وستكون قيمة الاشتراك في الشهر عشرة قروش صحيحة، وإذا تبرع بعض الأغنياء بأكثر من ذلك فيكون لهم الفضل ... إلخ.

Unknown page