ترى العامل في الولايات المتحدة وأوستراليا يتنقل من المدن إلى القرى وبالعكس؛ لأن الأجور واحدة في الزراعة والصناعة وكلها رابحة، والقاعدة العامة في ذلك أن المدن والقرى تمسك السكان متى كانت أجورهم مضمونة وحالتهم مأمونة، فقد قل المهاجرون من ألمانيا منذ كثرت صناعتها ونمت بحريتها وتجارتها، ويقل المهاجرون من المجر وروسيا وإيطاليا متى حسنت حالة الزراعة فيها، وانتظمت أسباب التملك، وجودت الأسباب الاقتصادية أي الأجور، فإذا كانت البلاد الجديدة تستميل إليها المهاجرين بمئات الألوف بل بالملايين؛ فذلك لأنها توزع أجورا عالية، وأوروبا وانكلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وروسيا والمجر تبقي اليد العاملة في الحقول إذا ارتفع سعر الأجور الزراعية، وذلك لا يكون إلا بتنويع الزراعة وتكثير المحاصيل والمواشي وتكثير الإيراد ولو قلت أسعار الحاصلات.
إن هولاندة التي تعتبر مجموعها أرضا فقيرة؛ لأن في استثمارها صعوبة قد كثر سكانها اليوم كثرة زائدة بفضل عملهم بحيث حق على الهولانديين ما قاله فرنكلين: «بالقرب من رغيف الخبز يولد رجل»، والمرء كلما دفعته الحاجة يحسن الاحتيال على المعاش، وأميركا وأوستراليا إلى اليوم لم تستثمر من أرضها خيراتها كلها، بل إن خصبها هو المساعد فقط على العكس في غربي أوروبا، فإن العمل هو الذي يستثمرها، وبعد فإن المجتمعات لا تتحرك بالنظريات بل بالعمليات، وكل نظرية تخالف المصالح الحاصلة المبنية على العدل لا يتأتى أن تجري في العمل إلا إذا جعلت هذه المصالح قيد النظر.
الهجرة إلى مصر1
إذا كان أصلي من تراب فكلها
بلادي وكل العالمين أقاربي
دحا الله الأرض ليعيش عليها البشر ويتناسلوا فيها فيعمروها ويحيوا مواتها ويسيطروا على المخلوقات كلها، فالأرض هي المنزل العام يجلس أهله في أي ناحية منه أحبوها وراقتهم، ويتنقلون في بقاعها وأصقاعها، ووهادها ونجادها، وسهلها وحزنها، وبحرها وبرها، على حسب ما تقضي أحوال الصحة، وطبائع الأجسام، وخواص النفوس.
فقد هاجر الفينيقيون قديما وأقاموا قرطجنة، عمروها وغيرها من شواطئ البحر الرومي، وهاجر الغوط من جرمانيا إلى جنوبي أوروبا وداهموا المملكة الرومانية، وهاجر الروم من بلادهم إلى شواطئ البحر المتوسط وجزره وشواطئ البحر الأسود وبلاده وعمروها، وكثير من الأمم أمثالهم غادروا مساقط رءوسهم، واتخذوا لهم بلادا ثانية استعمروها .
وهاجرت في العهد الحديث أمم كثيرة، وأهم هجرة وقعت هجرة الأوروبيين إلى أميركا، عمروها بجنسهم الأبيض بعد أن كانت خربة بالجنس الأسود، وكذلك هجرة الهولانديين إلى جنوبي أفريقيا وهجرة الروس إلى سيبيريا، وهجرة القافقاسيين والجراكسة إلى البلاد العثمانية، وهجرة الإسرائيليين من بلاد روسيا، وهجرة المسلمين الروسيين إلى أميركا وغيرهم.
وللعرب حظ وافر من الهجرة والتنقل في الجاهلية والإسلام، بل إن الهجرة من طبيعة جزيرتهم يعمدون إليها طلبا للكلأ والمراعي أو للاتجار بنتائج مواشيهم وحاصلاتها، وأول هجرة في الإسلام كانت هجرة عشرة من الصحابة وأربع نسوة وقيل أكثر، أمرهم الرسول بالهجرة إلى الحبشة لما رأى ما يصيبهم من البلاء قائلا: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه، فخرجوا ثم عادوا بعد سنين، وهكذا هاجرت العرب إلى فارس ومصر والشام وإفريقية والأندلس والسند وكشغر لما فتحت، ولولا إقدامهم على الهجرة ما رأينا الإسلام منتشرا في قلب آسيا وأفريقيا.
ولا نزال إلى اليوم نشهد أثرا من آثار حب العرب للهجرة، وقد زادها اليوم قرب المواصلات وسهولة السفر، نرى أهل حضرموت في جنوبي الجزيرة يهاجرون إلى حيدر آباد الدكن الهندية، فيكون معظم جيش البلاد منهم، ونراهم يهاجرون إلى جاوة فيكثر فيها سوادهم ويغتني بعض أفرادهم، ونرى النجديين يهاجرون إلى الهند في التجارة ثم يستوطنونها ويصبحون فيها أصحاب كلمة ونفوذ، ونشهد السوريين يهاجرون إلى أميركا وأفريقيا فيرتاشون ويتأثلون.
Unknown page