قال: وأما سبب الهجرة فلارتفاع وصاية الحكومة عليهم، ولعدم قوانين لحماية الزراعة، ولندرة معاهد المعاونة والإحسان، ولإرهاق العشارين والمرابين، ولكسل لا ينفض غباره إلا بالإقلاع عن البلاد وحبا بالأرباح السهلة، واقتداء بمواطنيهم المغتنين ولجذب البلاد الجديدة لهم، وبينا نرى الوطنيين - ولا سيما من سورية - يهاجرون، نرى الأجانب يهاجرون إليها ولا سيما في فلسطين (أي الصهيونيين). ا.ه.
وبعد، فقد كانت الهجرة مقصورة بادئ بداء على المسيحيين، فأخذ إخوانهم المسلمون يقتفون آثارهم، وكثر المهاجرون من جميع الطوائف في السنين الأربع الأخيرة عندما طبقت الحكومة قانون الجندية على عامة شبان هذا الوطن، فكان الوالد يسفر ولده في العشرين والخامسة والعشرين، فأنشأ يرحله اليوم في الخامسة عشرة، بل وفي الثانية عشرة لينجو من الخدمة العسكرية، أو ليجمع بدله النقدي قبل أن تصيبه القرعة، وبعد أن تفاقم شر الهجرة في العهد الأخير، أرادت الحكومة أن تمنع الشبان من السفر، فكان ذلك مورد عيش جديد لارتشاء بعض الولاة والمتصرفين والقائم مقامين ورجال الشرطة، وكثرت سماسرة المهاجرة حتى لم يتركوا مزرعة إلا ولجوها وأخرجوا منها أعزة أهلها، وسهلوا لهم سبل الهجرة، ووجد حتى الفقير المعدم من يقرضه على أن يوفيه من عمله في ديار المهجر، وزادت المنافسة بين شركات الملاحة، فأصبح السفر ميسورا من بيروت إلى نيويورك بعشر ليرات، وزاد الصادر وقل الوارد، وكلما أمل المؤملون أن تهدأ أحوال البلاد، تعقدت مشاكلها الداخلية والخارجية، وانتشرت عن البلاد أخبار السوء، فتأخر عن العودة إليها أبناؤها الذين هجروها.
هذا، والحكومة لم تتذرع بأدنى سبب لنزع هذا الخلل في حياة البلاد من أصوله، بل إن النوائب الأخيرة التي صادف وقوعها في عهد الدستور لم تزد البلاد إلا فقرا، إذ اضطرت الحكومة أن تزيد الضرائب والعشور والرسوم، فضعفت الزراعة، وأكثر من ثلاثة أرباع هذه الأمة تعيش من أرضها، وارتقت أجرة العامل إلى أعلى من منسوبها، فأصبح في بعض الأصقاع الزراعية من المتعذر القيام بأعمال الزراعة على ما ينبغي لصاحب ملك ومزرعة؛ لأنه إذا أعطى العامل في اليوم ثلاثة أرباع الريال أو الريال لا يبقى له في آخر السنة ما يوازي نصف إيجار أرضه، ولولا أن بعض البلاد التي أعوزتها اليد العاملة مثل البقاع، استعاضت عنها بما جلبته من الآلات الزراعية الحديثة كالحصادة والدراسة والحراثة والذراية والطحانة لأمست زراعتها بائرة، ولو جرى أهل هذا القطر على سنة أهل أطنة (أذنة) في قليقية من آسيا الصغرى، وأكثروا من الأدوات الحديثة لتم لهم الغنى، وعوضوا ما فاتهم من عمل العاملين، ولعاد جديبها خصيبا ونالوا من أسباب الثروة حظا عجيبا.
إذا قدرنا ثروة السوريين في مصر والسودان وأميركا وكندا وأوستراليا والترنسفال ومدغسكر والسنيغال بمائة مليون جنيه،
2
وهو أقل تعديل؛ لأن نصف هذا المبلغ يملكه السوريون في مصر فقط، وفرضنا أن نصف المهاجرين أحبوا العودة إلى أصقاعهم، يحملون خمسين مليون جنيه من النقود، وما زكنوه وتعلموه من أساليب الصناعة والزراعة والتجارة، تفتح بالطبع موارد اقتصادية جديدة في البلاد، إذا صحت - قبل كل شيء - نية الحكومة على توطيد دعائم الأمن وإحقاق الحق، وذلك باختيار طبقة راقية من العمال والضرب على أيدي الجاهلين والمرتشين منهم.
نعم، إذا قامت الحكومة بواجبها الإداري تستميل المهاجرين إلى العودة، وتحبب إليهم بلادهم التي يؤثرون أن يكون لهم في ربوعها من المغانم نصف ما يتمتعون به في ديار المهجر، فتقوم سورية وحدها بعد بضع سنين بسد العجز من ميزانية الدولة العامة مهما كان مقدارها. •••
وبعد، فيكاد يكون في درجة الثبوت أن البشر نما عددهم منذ عرف التاريخ على الرغم مما نالهم من الطوارئ، التي ذكرها التاريخ من مثل الحروب والأوبئة أو الأسباب الأخرى التي تفقر النمو وتقلل التناسل، ومع هذا فقد كان النسل كثيرا في أوروبا منذ بضعة قرون، وإن كان يكثر موت الأولاد في الطفولية أكثر من اليوم، وتلتهم الأديار جانبا من الرجال والنساء يتعطلون عن التناسل، وليس ترك الأرياف والقرى ونزول الحواضر والمدن مقصورا على بلد خاص أو صقع معين، بل هو ظاهر في كل مكان في البلاد الأوروبية القديمة مثل: سويسرا وألمانيا وفرنسا وإنكلترا ونروج والبلجيك وهولاندة ظهوره في البلاد التي أخذ سكانها بالنمو مثل الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا، فترك الأرياف عام يشترك فيه جميع الأجناس: السلتيون كاللاتين، والسلافيون كالروس والبلقانيين، والسكسونيون كالإنكليز، ولا يظهر أن للأوضاع السياسية والاجتماعية دخلا فيه، وما من حكومة من الحكومات خالية منه، حتى إن طريقة تقسيم الأملاك لا تمسك الإنسان في الحقول، وليس في قوانين المواريث ما يظهر أنه أسمى من غيره، فقد خضعت لسلطان الهجرة حتى البلاد المتماسكة الأجزاء مثل فرنسا وإنكلترا والمجر وروسيا والولايات المتحدة وأوستراليا والأرجنتين، فإن أصقاعا كبيرة استعمرت منذ زمن طويل في الولايات المتحدة، ولا سيما ولايات إنكلترا الجديدة قد خضعت لهذا النظام، فترك أهلها قراهم لينزلوا الحواضر يسكنونها، فنمت بذلك المدن نموا هائلا بالنسبة لمجموع البلاد، فقد بلغ سكان مدينة بونس أيرس عاصمة الجمهورية الفضية مليونا وثلاثمائة ألف، في حين بلغ سكان جميع هذه البلاد ستة ملايين نسمة تدخل فيها العاصمة ، ومساحة أراضي الأرجنتين خمسة أضعاف مساحة فرنسا، وهكذا تجد النمو باديا في مدن الولايات المتحدة كنيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا وسان لوي وسنسيناتي وبوسطون وسان فرنسيسكو وستل وأورليان الجديدة، كما هو باد في ملبورن وسدني من عواصم أوستراليا.
هذا ما قاله أحد الاقتصاديين في جريدة الاقتصاد، وعقب عليه بقوله تجمل رءوس أموال كثيرة من العالم القديم - أي من أوروبا - تستثمر في العالم الجديد، فالمليون من الفرنكات يستثمر في أرض فرنسا، فيعود بربح سنوي يختلف بين ثلاثمائة أو مائتي ألف فرنك إذا حسبنا جميع الأيدي التي تتناوله، فنربح منه على حين لو جرت تنمية هذا المليون في البلاد الأجنبية لا تعود من الفائدة بأكثر من 40 إلى 45 ألف فرنك.
إن من يهاجر إلى القاصية كمن يتركون قراهم؛ ليستوطنوا المدن المجاورة يبحثون عن رفاهية أسمى مما تمتعوا به، ويظنون بأنهم يحققون أمانيهم في النجاح بانتقالهم إلى محيط يصرفون فيه قواهم بما يعود عليهم بالنفع أكثر، ومعنى ذلك يدور على البحث عن أجرة أكثر، وهذا هو الباعث الأول على هذه النقلة، بل الباعث الوحيد، فالأجور هي العامل الوحيد الذي يدعو الناس إلى التنقل في عصرنا، أما حب الهواء الجيد والحياة الاجتماعية ولطف الأخلاق وسلاسة العمل، فليس لها محل من الإعراب في جملة هذه الحال.
Unknown page