ومثالها الشعوب الإنكليزية السكسونية، والأمم الاتكالية هي التي يعتمد أفرادها على مجموعها من الأمة أو الدولة، فيتوكأ كل فرد على غيره، وأعظم مثال لها الأمم الشرقية حاشا سيدتها الأمة اليابانية العظيمة، فإن التربية الاستقلالية عندها على ما يبلغنا قائمة على أعظم هياكلها، وأبناؤها أبعد المشارقة عن النشأة الاتكالية.
وبديهي أن العلم وحده لا يكفي في سعادة الشعوب ما لم يقرن بالعمل، وفرنسا وقعت مع من وقع في مثل ذلك من أمم الخليقة، فزاد فيها التكالب على المصالح الهينة والوظائف اللينة، فكثر فيها الموظفون والمحامون والأطباء والمهندسون وأهل الصحافة والأدب، بحيث تعذر قبول من تخرجهم المدارس العالية باسمها، فسدت في وجوه الناشئة أبواب الرزق؛ لأن معظمهم يرى السعادة أن يعيش في باريس ونحوها من المدن الحافلة؛ ليستمتع برفاهها وأنسها ولو عاش في قل، وزهدوا في الاشتغال بالصنائع الحرة كالفلاحة والصناعة والتجارة، وذلك غير معهود عند من كان دمه سكسونيا؛ إذ لا يرى حطة عليه أن يحترف أيه حرفة مهما كان علمه واستعداده؛ ليضمن لنفسه وذويه مرتزقا فسيحا وعيشا استقلاليا لبابا، فإن لم يجد ما يعمل في بلاده يغادرها؛ ليستعمر مكانا آخر من الكرة، ويستوي عنده العيش بلندن أو برلين، والعيش في زيلندة الجديدة أو مستعمرة الرأس أو زنجبار، وإن شئت فقل في أقاصي صحاري أفريقيا حيث الوحوش ضارية، والسموم لافج، والعيش مر المذاق.
وتأييدا لذلك أنقل هنا ما صرح به أحد علماء الأخلاق من الفرنسيس بهذا الشأن قال: «يزعمون أن شهادة العالمية عندنا باب يدخل منه إلى كل سبيل، وتسلك بحاملها في كل مسلك، وهي على التحقيق لا تفتح إلا ثقبا كبيرا، هجم عليه أصحاب الرغبات من كل صوب، فاستغرقت الحرف الشريفة ووظائف الحكومة جملة، بحيث وجب على الأمة ألا تساعد على شر ما برح يتفاقم أمره منذ سبعة قرون، حتى صار جرحا نغارا، وضربة مبرحة، وأعني بذاك الشر داء الاستخدام والتوظف.
لا جرم أن الحركة التي بدأت طلائعها في فرنسا زمن فيليب الجميل أزعج أمرها على عهد لويس الرابع عشر، فزاد الحال إشكالا على أثر عودة الملكية إلى فرنسا، واستيلاء أسرة بوربون على منصة الحكم، وصار على عهد الجمهورية الثالثة الحالية أدهى وأمر، فإذا نشأ الأبناء على آسال آبائهم ولم يصلح حالهم يضيعون مجد أسلافهم، ويخربون مملكة قويت على الحوادث، على حين تعدهم عدتها في شدتها، وبيدهم إنقاذها وإسقاطها.
فالجيل الفرنساوي الحاضر سيء حاله ومآله، وهو إلى الكسل والجبن أميل منه إلى العمل والنصب، حتى يصح أن يقال: إن البلاد به أضاعت من فتائها، وأمست تسير إلى فلاة فنائها، ومن الأسف أن فرنسا التي كانت على مر العصور في مقدمة من يحسن الأعمال، وأول مثيرة لكل نجاح هي اليوم من حيث تهذيب أبنائها متقهقرة عدة قرون إلى الوراء، وكأن تعاليمها الآن هي عينها في القرون المتوسطة التي تركت ألمانيا وشأنها، إلى أن علا صوت جهوري من الشاعر كيتي
2
يبين للألمان مواقع الضعف، ومزالق المقاتل، ومداحض المخاطر، ويقود الأفكار إلى الحملة على كسر القيود، ونزع ربق الرق، وتجديد جدة الشباب، ينادي يا قوم هؤلاء الإنكليز أمعنوا في حالهم، وانسجوا على منوالهم، فإنكم وإياهم سواء في القيم، فما ضركم لو باريتموهم في الهمم؟ عملكم قليل ولا تحسنونه، وقلما تنهضون بأعبائه، وليس لكم نصيب مما أوتوا من مميز الواجب الشخصي والكفاءة الشخصية، وهما دعامتا القوى التي تشتد بها سواعد الملل. ولما كان كيتي يصرح بهذه الأفكار كانت ألمانيا بعيدة عن معاناة التجارة مقطورة في مؤخر الشعوب، ولم تمض على ذلك مائة سنة حتى استولى أنصار ذلك الشاعر الكبير والمتعظون بأقواله على محور التجارة، فهاج نشاطهم قلق الأمة التي حذوا حذوها، وإن الإنكليز لينظرون اليوم نظر المرتجف إلى انبساط ظل النفوذ الألماني بهذه السرعة والقوة، ويزعمون أنه لا بد من أن تخلف طوابع البرد الجرمانية الطوابع الإنكليزية قريبا.
كل هذا نتيجة تغير التربية وانتشار المعارف بين الأفراد وكثرة الكفاءات في كل فروع العمل، فمن العقل والحالة هذه أن يتدرع الفرنسيس بسلاح من العمل مفيد، ويعتاضوا من الركوب على متن عمياء بالجري في طريق جديد من إتقان المبادئ الصحيحة والأخلاق الفاضلة.
من رقاعة الفرنسيس أن يعتقدوا علو كعبهم في كل منحى ومنزع، ولو ذهب أحدهم إلى ألمانيا ودرس أحوالها عن أمم، لرأى شعبا كان يشكو مما نشكو منه، داء أصيب به زمنا فشفى نفسه من أوصابه، يرى السكسونية مجسمة بأبهى مظاهرها فيقدس «كارلايل»
3
Unknown page