بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل الله ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فهذا سفر جديد ومؤلف نفيس ينشر لأول مرة، للعلامة القرآني والمجاهد الرباني، شيخ الإسلام والمسلمين أبي العباس أحمد ابن تيمية ﵀، نقدمه للذاكرين والذاكرات عسى أن يجدوا فيه ما يجلب لهم الطمأنينة والسكينة ونزول الرحمة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:٢٨) .
ويأتي "التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير" على رأس ذكر الله؛ فهو من أجل منازل الذكر ومراتبها العالية.
فهو غراس الجنة الذي طلب نبي الله إبراهيم الخليل من نبينا ﷺ أن يخبرنا به ليلة أسري به؛ بقوله: "يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها:
1 / 5
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" (١) .
جلس عبد الله ابن عمرو وابن مسعود ﵃، فقال ابن مسعود: "لأن أخذ في طريق أقول فيه: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" أحب إلي من أنفق عددهن دنانير في سبيل الله ﷿، فقال عبد الله بن عمرو: "لأن آخذ في طريق فأقولهن أحب إلي من أن أحمل عددهن على الخيل في سبيل الله" (٢) .
ويقول عبيد بن عمير ﵀: "تسبيحة بحمد الله في صحيفة المؤمن خير من أن تسير أو تسيل معه جبال الدنيا ذهبا" (٣) .
وأما تحقيق نسبة الكتاب للمؤلف:
فقد أشار المصنف ﵀ إليه عند كلامه على نفس المسألة؛ حيث يقول: "وقد بسطنا الكلام على حقيقة التسبيح والتحميد ومعنى التسبيح بحمده في غير هذا الموضع" (٤) .
_________
(١) رواه الترمذي (٣٤٦٢) وغيره من حديث ابن مسعود وقال "حسن غريب"؛ وإسناده ضعيف إلا أن له شواهد تقويه، ولذا أورده الألباني في "الصحيحة" (١٠٥) .
(٢) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (٦/٩٢) بإسناد حسن.
(٣) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (٦/٥٥، ٧/١٦٨) قال: حدثنا ابن عيينة عن عمرو ابن دينار عنه وإسناده صحيح.
(٤) "منهاج السنة النبوية" (٥/١٠٥) .
1 / 6
وهذا الموضع الآخر هو كتابنا هذا.
وقد ذكر هذه القاعدة ابن رشيق ﵀ بعنوان: "قاعدة في التسبيح والتحميد والتهليل" (١) .
وبنفس هذا العنوان ذكره العلامة ابن عبد الهادي ﵀ (٢) .
وهذا العنوان قريب جدا مما جاء بعنوان المخطوطة "قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات وبيان اقتران التهليل بالتكبير والتسبيح بالتحميد" وهو ما اعتمدته هنا، لأنه أدل على المحتوى.
والناظر في كلام شيخ الإسلام على هذه القاعدة في مواضع أخرى من كتبه (٣) يؤكد بما لا يدع مجالا للشك تطابقه مع ما جاء بكتابنا هذا.
وصف النسخة:
فقد اعتمدت على نسخة وحيدة، تقع ضمن "مجموع" يضم عدة رسائل لشيخ الإسلام، وهو مقتنيات "خزانة رئيس الكتاب" الملحقة بـ"السليمانية" بتركيا وهي تحت رقم (١١٥٣) .
_________
(١) "أسماء مؤلفات ابن تيمية - ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام" (٢٤٢) .
(٢) "العقود الدرية" (٥٩) .
(٣) راجع: "مجموع الفتاوى" (١٠/٢٥٢-٢٥٤) و(١٦/١١٢-١١٨) و(٢٢/٥٥٠، ٥٥١) .
1 / 7
وتقع هذه النسخة في ٧ ورقات من هذا المجموع، وهي تمثل الورقات من (١٨٢و) إلى (١٨٧ظ) وكل صفحة بها ٢٣سطرا.
وفي كل سطر ما يقرب ١٥ كلمة، وهي مكتوبة بخط واضح جميل منقوط، وقليلة الأخطاء.
وأما عملنا في التحقيق:
فقد اتخذت هذه النسخة أصلا.
كما قمت بضبط فقرات الكتاب كلها، ونسقت عباراتها ورقمت فقراتها برقم مسلسل ووضعت لها عناوين جانبية.
كما قمت بعزو الآيات ووضع العزو بجوار الآيات، وخرجت الأحاديث والآثار وبينت مرتبتها من حيث القبول والرد.
كما وضعت بعض التعليقات المهمة وأكثرها من كلام شيخ الإسلام من كتبه الأخرى، وبعض المصادر الأخرى
كما صنعت له فهارس للآيات والأحاديث والآثار والموضوعات.
والله تعالى أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الإسماعيلية في ١١محرم ١٤٢٢هـ
أبو محمد أشرف بن عبد المقصود
غفر الله له
1 / 8
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.
فصل
في الباقيات الصالحات
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
أفضل الكلام بعد القرآن
١- فقد ثبت في الصحيح (١) عن النبي ﷺ أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع؛ وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
_________
(١) الذي في "صحيح مسلم " (٢١٣٧) (١٢) عن سمرة بن جندب بلفظ: "أحب الكلام إلى الله أربع.." الحديث. وأما اللفظ الذي ذكره المصنف فهو عند أحمد (٥/٢٠) . وقد صرح بتواتره المصنف، كما في "الرد على المنطقيين" (٣٥) حيث قال: "وتواتر عن النبي ﷺ أنه كان يعلم أمته ذكر الله تعالى بالجمل التامة" ثم ذكر الحديث.
وراجع أيضا: مجموع الفتاوى (١٠/٥٥٣) .
1 / 17
٢- وقد ذكرنا ما يتعلق بمعانيها في مواضع (١) .
٣- والمقصود هنا أن نقول: "التسبيح" مقرون بـ"التحميد"، و"التهليل" مقرون بـ"التكبير".
التسبيح بحمده سبحانه في القرآن
٤- فإن الله تعالى يذكر في غير موضع "التسبيح بحمده":
٥- كقول "الملائكة": ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ (البقرة: من الآية٣٠) .
٦- وقوله: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ (غافر: من الآية٧) .
٧- وقوله: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ (أ) (طه: من الآية١٣٠) .
٨- وقوله: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ (أ) (الطور: من الآية٤٨) .
الصلاة تتضمن التسبيح بحمده
٩- ولا ريب أن الصلاة الشرعية تتضمن ما أمر به من التسبيح بحمده.
١٠- كما قد بين النبي ﷺ ذلك في مثل حديث جرير المتفق عليه (٢):
_________
(١) راجع: "مجموع الفتاوى" (١٢/٦٧، ١٦/١١٢، ١١٦، ١٧/١٦٩، ١٩/١٢٠، ٢٢/٣٨٩، ٢٤/٢٣١) .
(٢) البخاري (٥٥٤) ومسلم (٦٣٣) (٢١١) .
"لا تُضَامُونَ": بضم أوله مخففا، أي لا يحصل لكم ضيم حينئذ، وروي بفتح أوله والتشديد من الضم، والمراد: نفي الازدحام.
----------
(أ) في الأصل في بداية الآيتين: (فسبح) بدل (وسبح) وهو خطأ!!
1 / 18
أنه نظر إلى القمر فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"، ثم قرأ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ (أ) (ق: من الآية٣٩) .
١١- وأيضا: ففي "صحيح مسلم" (١) عن النبي ﷺ: أنه سئل: أي الكلام أفضل؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده".
١٢- وفي "الصحيحين" (٢) عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان؛ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
اقتران التكبير بالتهليل في الأذان وإذا علا شرفا
١٣- وأما "التكبير": فهو مقرون بالتهليل:
(١) في الأذان؛ فإن المؤذن يكبر ويهلل.
(٢) وفي تكبير الإشراف؛ كان إذا علا نشزا كبر ثلاثا، وقال:
_________
(١) مسلم (٢٧٣١) (٨٤) من حديث أبي ذر ﵁.
(٢) البخاري (٧٥٦٣-التوحيد) واللفظ له بتقديم "حبيبتان" وتأخير "ثقيلتان" ورواه في الدعوات (٦٤٠٦) وفي الأيمان والنذور (٦٦٨٢) بتقديم "خفيفتان" وتأخير "حبيبتان" وهي رواية مسلم (٢٦٩٤) (٣١) .
----------
(أ) في الأصل: (فسبح) بدل (وسبح) وهو خطأ!!
1 / 19
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". وهو في "الصحيحين" (١) .
التكبير على الصفا والمروة وعند ركوب الدابة وفي الأعياد
(٣) وكذلك: على الصفا والمروة (٢) .
(٤) وكذلك: إذا ركب دابة (٣) .
(٥) وكذلك: في تكبير الأعياد (٤) .
_________
(١) البخاري (٦٣٨٥) ومسلم (١٣٤٤) (٤٢٨) .
(٢) مسلم (١٢١٨) (١٤٧) من حديث جابر الطويل في صفة حجه ﷺ وفيه: "ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: ﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله﴾ أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات.." الحديث.
(٣) مسلم (١٣٢٤) (٤٢٥) عن ابن عمر ﵄ علمهم أن رسول الله ﷺ كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل"، وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون".
(٤) من ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة والمحاملي أن النبي ﷺ كان يخرج يوم الفطر فيكبر حتى يأتي المصلى وحتى يقضي الصلاة فإذا قضى الصلاة قطع التكبير. راجع "الصحيحة" (١٧٠) =
1 / 20
مشروعية التكبير في الأماكن العالية
١٤- والتكبير مشروع في الأماكن العالية، والتسبيح عند الانخفاض.
١٥- كما في "السنن" (١) عن جابر قال: "كنا مع رسول الله ﷺ إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا".
١٦- فوضعت الصلاة على ذلك، والمصلي في ركوعه وسجوده يسبح، ويكبر في الخفض والرفع؛ كما جاءت الأحاديث الصحيحة بمثل ذلك عن النبي ﷺ.
١٧- ومن اقتران التهليل بالتكبير:
قول النبي ﷺ لعدي بن حاتم: "يا عدي ما يُفِرُّكَ؟! أيُفِرُّكَ أن يقال لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله إلا الله، ما يفرك؟! أيفرك أن يقال: الله أكبر، فهل من شيء أكبر من الله؟! " رواه "أحمد" و"الترمذي" وغيرهما (٢) .
_________
= وكان ابن مسعود يقول: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد. رواه الدارقطني وابن أبي شيبة "الإرواء" (٦٥٠) .
وكان ابن عباس يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر وأجل، الله أكبر على ما هدانا. رواه البيهقي (٣/٣١٥) .
(١) البخاري (٢٩٩٣) من حديث عن جابر بن عبد الله ﵄ قال: كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا. وهو عند النسائي في "الكبرى" (١٠٣٧٦) وأحمد (٣/٣٣٣) .
(٢) أحمد (٤/٣٧٨) والترمذي (٢٩٥٣) والطبراني في "الكبير" (١٧/٢٣٦، ٢٣٧) =
1 / 21
التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات
١٨- فنقول: "التسبيح والتحميد" يجمع النفي والإثبات؛ نفي المعايب وإثبات المحامد، وذلك يتضمن التعظيم.
ولهذا قال: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ (الأعلى:١) .
وقال: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ (الواقعة:٧٤) .
وقد قال النبي ﷺ: "اجعلوا هذه في ركوعكم، وهذه في سجودكم" (١) .
وقال: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" (٢) .
_________
= والطيالسي (١٠٤٠) وصححه ابن حبان (٧٢٠٦) من حديث عدي بن حاتم.
وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (٢٣٥٣) .
ولفظ الترمذي: "ما يفرك أن تقول لا إله إلا الله فهل تعلم من إله سوى الله؟ قال: قلت: لا قال: ثم تكلم ساعة ثم قال: إنما تفر أن تقول الله أكبر وتعلم أن شيئا أكبر من الله؟ قال: قلت: لا قال: فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضلال".
"ما يُفِرُّك" بضم الياء وكسر الفاء يقال أَفَرَرْته أُفِرُّهُ أي فعلت به ما يفر منه ويهرب أي ما يحملك على الفرار. وكثير من المحدثين يقولون: بفتح الياء وضم الفاء. والصحيح: الأول؛ قاله الجزري "إنما تفر" من الفرار أي تهرب.. قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": "وقد روي حديث عدي هذا من طرق وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها" "تحفة الأحوذي" (٨/٢٨٧، ٢٨٩) .
(١) أبو داود (٨٦٩) وابن ماجه (٨٨٧) وأحمد (٤/١٥٥) والدارمي (١٣٠٥) وصححه الحاكم (١/٣٤٧، ٣٤٨، ٢/٥٢٠) وابن خزيمة (٦٠٠)، من حديث عقبة بن عامر ﵁.
(٢) مسلم (٤٧٩) (٢٧٩) من حديث ابن عباس ﵄.
1 / 22
فـ"التسبيح" يتضمن: التنزيه المستلزم للتعظيم.
و"الحمد" يتضمن: إثبات المحامد المتضمن لنفي نقائصها.
التهليل والتكبير وما يتضمنه كلا منهما
١٩- وأما "التهليل والتكبير":
فـ"التهليل" يتضمن: اختصاصه بالإلهية وما يستلزم الإلهية، فهذا لا يكون لغيره، بل هو مختص به.
و"التكبير" يتضمن: أنه أكبر من كل شيء.
٢٠- فما يحصل لغيره من نوع صفات الكمال؛ فإن المخلوق متصف بأنه موجود، وأنه حي وأنه عليم، قدير، سميع بصير، إلى غير ذلك.
٢١- فهو سبحانه أكبر من كل شيء، فلا يساويه شيء في شيء من صفات الكمال؛ بل هي نوعان: نوع يختص به ويمتنع ثبوته لغيره؛ مثل كونه رب العالمين، وإله الخلق أجمعين، الأول الآخر، الظاهر الباطن، القديم الأزلي، الرحمن الرحيم، مالك الملك، عالم الغيب والشهادة.
٢٢- فهذا كله هو مختص به، وهو مستلزم لاختصاصه بالإلهية فلا إله إلا هو، ولا يجوز أن يعبد إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه ولا يرغب إلا إليه، ولا يخشى إلا هو.
1 / 23
٢٣- فهذا كله من تحقيق لا إله إلا الله.
٢٤- وأما "الله أكبر" فكل اسم يتضمن تفضيله على غيره.
٢٥- مثل قوله: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ (العلق:٣) .
٢٦- وقوله: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (المؤمنون: من الآية١٤) .
٢٧- وقوله: ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الأعراف: من الآية١٥١) .
٢٨- ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ (الأعراف: من الآية١٥٥) .
٢٩- كما قال النبي ﷺ لعدي بن حاتم: "أيفرك أن يقال الله أكبر فهل من شيء أكبر من الله" (١) .
غلط من قال: إن أكبر بمعنى كبير
٣٠- وأما قول بعض النحاة إن أكبر بمعنى كبير، فهذا غلط مخالف لنص الرسول ﷺ ولمعنى الاسم المنقول بالتواتر.
٣١- وكذلك قول بعض الناس أنه أكبر مما يُعلم ويوصف. ويقال: جعلوا معنى "أكبر" أنه أكبر مما في القلوب والألسنة من معرفته ونعته، أي هو فوق معرفة العارفين! وهذا المعنى صحيح لكن ليس بطائل؛ فإن الأنبياء والرسل والملائكة والجنة والنار، وما شاء الله من مخلوقاته هي أكبر مما يعرفه الناس.
_________
(١) تقدم تخريجه ص (٢١) .
1 / 24
٣٢- قال الله تعالى: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ (السجدة:١٧) .
٣٣- وقال تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" (١) .
٣٤- فبعض مخلوقاته هي أكبر في معرفة الخلق من البعض بخلاف ما إذا قيل إنه أكبر من كل شيء، فهذا لا يشركه فيه غيره.
تفسيره ﷺ لـ"الله أكبر"
٣٥- وبذلك فسر النبي ﷺ هذه الكلمة في مخاطبته لعدي بن حاتم حيث قال: "أيفرك أن يقال: الله أكبر، فهل من شيء أكبر من الله" (٢) .
٣٦- وعلى هذا؛ فعلمه أكبر من كل علم، وقدرته أكبر من كل قدرة، وهكذا سائر صفاته.
٣٧- كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ (الأنعام:١٩) فشهادته أكبر الشهادات.
٣٨- فهذه الكلمة تقتضي تفضيله على كل شيء مما توصف به الأشياء من أمور الكمالات التي جعلها هو سبحانه لها.
_________
(١) البخاري (٣٢٤٤) ومسلم (٢٨٢٤) (٢) من حديث أبي هريرة ﵁.
(٢) تقدم تخريجه ص (٢١) .
1 / 25
التهليل يختص بالإلهية
٣٩- وأما التهليل: فيتضمن تخصيصه بالإلهية، ليس هناك أحد يتصف بها حتى يقال إنه أكبر منه فيها؛ بل لا إله إلا الله.
٤٠- وهذه تضمنت نفي الإلهية عما سواه وإثباتها له، وتلك تضمنت أنه أكبر مطلقا، فهذه تخصيص، وهذه تفضيل لما تضمنه التسبيح والتحميد من النفي والإثبات، فإن كل ذلك إما أن يكون مختصا به أو ليس كمثله أحد فيه.
مشروعية التكبير عند مشاهدة ما له نوع من العظمة في المخلوقات
٤١- ولهذا كان التكبير مشروعا على مشاهدة ما له نوع من العظمة في المخلوقات كالأماكن العالية.
٤٢- والشياطين تهرب عند سماع الأذان (١) .
٤٣- والحريق يطفأ بالتكبير (٢)، فإن مردة الإنس والجن يستكبرون
_________
(١) ورد ذلك فيما رواه البخاري (٦٠٨) ومسلم (٣٨٩) (١٩) من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط.." الحديث.
(٢) ورد ذلك فيما رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة (٢٩٥، ٢٩٦) و(٢٩٧) (٢٩٨) عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: "إذا رأيتم الحريق فكبروا فإن التكبير يطفئ النار" وإسناده ضعيف جدا كما قال الألباني في "تخريج الكلم الطيب" (٢٢١)، وقد أشار المصنف لضعفه لما أورده في "الكلم الطيب" وصدره بصيغة التضعيف: "ويذكر".
وفي الباب: عن ابن عباس: عزاه في "الجامع الصغير" لابن عدي ورمز لحسنه، وراجع "فيض القدير " للمناوي (١/٣٦٠) .
وعن أبي هريرة: رواه الطبراني في "الأوسط" (٨٥٦٩) وفي "الدعاء" (١٠٠١) بلفظ: "أطفؤا الحريق بالتكبير". وقال في "المجمع" (١٠/١٣٨): "وفيه من لم أعرفهم". =
1 / 26
عن عبادته ويعلون عليه ويحادونه.
٤٤- كما قال عن موسى: ﴿وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ (أ) (الدخان:١٧- ١٩) .
٤٥- فالنفوس المتكبرة تذل عند تكبيره سبحانه، والتهليل يمنع أن يعبد غيره، أو يرجى، أو يخاف، أو يدعى، وذلك يتضمن أنه أكبر من كل شيء، وأنه مستحق لصفات الكمال التي لا يستحقها غيره.
لا إله إلا الله أفضل الكلمات
٤٦- فهي أفضل الكلمات؛ كما في الصحيحين (١) عن النبي ﷺ أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة -أو ستون- أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".
_________
= فائدة: قال العلامة ابن القيم ﵀: "فإن التكبير يطفئه لما كان الحريق سببه النار وهي مادة الشيطان التي خلق منها وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله كان للشيطان إعانة عليه وتنفيذا له وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد وهذان الأمران وهما العلو في الأرض والفساد هما هدي الشيطان وإليهما يدعو وبهما يهلك بني آدم فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض والفساد وكبرياء الرب ﷿ تقمع الشيطان وفعله ولهذا كان تكبير الله ﷿ له أثر في إطفاء الحريق، فإن كبرياء الله ﷿ لا يقوم لها شيء، فإذا كبر المسلم ربه أثر تكبيره في خمود النار وخمود الشيطان التي هي مادته فيطفئ الحريق، وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدناه كذلك، والله أعلم". "زاد المعاد" (٤/٢١٢، ٢١٣) .
(١) البخاري (٩) ومسلم (٣٥) (٥٨) واللفظ له من حديث أبي هريرة ﵁.
----------
(أ) سقط في الأصل الآية رقم ١٨ من السورة بين الآيتين ١٧و١٩ فأثبتها هنا.
1 / 27
٤٧- وفي حديث "الموطأ" (١): "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
٤٨- وفي "سنن ابن ماجه" و"كتاب ابن أبي الدنيا" (٢) عن النبي ﷺ: "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله".
لا إله إلا الله أساس الدين والفارق بين أهل الجنة والنار
٤٩- وهذه الكلمة هي: أساس الدين.
٥٠- وهي: الفارق بين أهل الجنة وأهل النار.
٥١- كما في "صحيح مسلم" (٣) عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال: "الموجبتان: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار".
٥٢- وفي الصحيح (٤) عنه: "من مات وهو يعلم أنه لا إله [إلا] الله دخل الجنة".
_________
(١) مالك (٥٠٠) و(٩٤٥) (٤٩٨) والبيهقي (٤/٢٨٤) و(٥/١١٧) وعبد الرزاق في المصنف (٣٥٨٥) من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز. وفي الباب: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: رواه الترمذي (٣٥٨٥) وقال: "حديث غريب".
(٢) الترمذي (٣٣٨٣) وقال: "حديث حسن غريب"، وابن ماجه (٣٨٠٠) وابن أبي الدنيا في الشكر (١٠٢) من حديث جابر. وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (٢٦٩٢) .
(٣) مسلم (٩٣) (١٥١) .
(٤) مسلم (٢٦) (٤٣) عن عثمان بن عفان ﵁. وما بين المعقوفتين زيادة منه.
1 / 28
٥٣- وفي الصحيح (١) أيضا: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله".
لا إله إلا الله الكلمة الطيبة التي بعث بها الرسل
٥٤- وهي: الكلمة الطيبة التي ضربها الله مثلا كشجرة طيبة.
٥٥- وهي: بعث بها جميع الرسل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:٢٥) .
٥٦-: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ (الزخرف:٤٥) .
لا إله إلا الله هي الكلمة التي جعلها إبراهيم في عقبه وهي دين الإسلام
٥٧- وهي: الكلمة التي جعلها إبراهيم في عقبه: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الزخرف:٢٨) .
٥٨- وهي: دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين.
٥٩- ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ﴾ (آل عمران: من الآية١٩) .
٦٠- ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران:٨٥) .
٦١- وكل خطبة لا يكون فيها شهادة فهي جذماء.
_________
(١) مسلم (٩١٦) (١) من حديث أبي سعيد الخدري ﵁.
وفي الباب عن أبي هريرة: رواه مسلم (٩١٧) (٢) .
1 / 29
٦٢- كما في "سنن أبي داود" و"الترمذي" (١) عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء".
الحمد مفتاح الكلام
٦٣- والحمد مفتاح الكلام، كما في "سنن أبي داود" (٢) عن النبي ﷺ: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم".
٦٤- ولهذا كانت السنة في الخطب: أن تفتتح بالحمد، ويختم ذكر الله بالتشهد، ثم يتكلم الإنسان بحاجته.
٦٥- وبها جاء التشهد في الصلاة؛ أوله: التحيات لله، وآخره: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
٦٦- وفاتحة الكتاب نصفان: نصف لله، ونصف للعبد. ونصف الرب أوله حمد وآخره توحيد: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، ونصف العبد هو دعاء وأوله توحيد: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .
التكبير والتهليل والتسبيح مقدمة التحميد
٦٧- والتكبير والتهليل والتسبيح مقدمة التحميد.
_________
(١) أبو داود (٤٨٤١) والترمذي (١١٠٦) وأحمد (٢/٣٤٣) .
وقد أشار الحافظ في "الفتح" (١/٨) إلى أن في إسناده مقال.
(٢) أبو داود (٤٨٤٠)، وقال: إنه مرسل، وابن ماجه (١٨٩٤)، وقد أشار الحافظ أيضا في "الفتح" (١/٨) إلى أن في إسناده مقال؛ ففيه قرة بن عبد الرحمن ضعيف.
1 / 30
٦٨- فالمؤذن يقول: "الله أكبر الله أكبر".
ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله".
ويختم الأذان بقوله: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".
٦٩- وكذلك: تكبيرات الإشراف والأعياد تفتتح بالتكبير وتختم بالتوحيد، فالتكبير بساط.
٧٠- وكذلك: "التسبيح" مع "التحميد": "سبحان الله وبحمده"؛ ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ (طه:١٣٠)؛ لأن التسبيح يتضمن نفي النقائص والعيوب، والتحميد يتضمن إثبات صفات الكمال التي يحمد عليها.
1 / 31
فصل
٧١- وهو في نفس الأمر لا إله غيره، هو أكبر من كل شيء.
٧٢- وهو المستحق للتحميد والتنزيه.
٧٣- وهو متصف بذلك كله في نفس الأمر.
٧٤- فالعباد لا يثبتون له بكلامهم شيئا لم يكن ثابتا له، بل المقصود بكلامهم تحقيق ذلك في أنفسهم، فإنهم يسعدون السعادة التامة إذا صار أحدهم ليس في نفسه إله إلا الله خلص من شرك المشركين.
٧٥- فإن أكثر بني آدم؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ (يوسف:١٠٦) .
٧٦- فهم يقرون أنه رب العالمين لا رب غيره، ومع هذا يشركون به في الحب أو التوكل أو الخوف أو غير ذلك من أنواع الشرك.
٧٧- وأما التوحيد: أن يكون الله أحب إليه من كل ما سواه.
فلا يحب شيئا مثل ما يحب الله.
ولا يخافه كما يخاف الله.
ولا يرجوه كما يرجوه.
1 / 32