كانوا في العهد التركي يعزلون شيخ الصلح المنتخب إذا ثبت أنه طمع بعشرين بارة، أي نصف قرش، من مال المكلف الذي يجبى من الفلاح، ويطرد ذاك الشيخ مؤبدا، أما في هذه الأيام فإنهم يبتلعون الصناديق الحديدية ويهضمونها ثم يعودون ليفتشوا عن غيرها ...
ذكر المرحوم محمد كرد علي في مذكراته أن لبنانيا محكوما بجريمة سرقة وصل إلى الوزارة في لبنان، فلو دققنا لرأينا نماذج شتى من هؤلاء يتربعون على الكراسي.
قرأت مرة أن أحد المرشحين للنيابة جعل شعاره المكنسة، فكان ذلك أكبر دعاية له عند الناخبين وفاز. فهل من مرشح عندنا يتخذ هذا الشعار؟! إن مكانس هذه الأيام لا تتعب ولا تتعب؛ لأن الكهرباء تديرها ... فهل من يسلطها على مال الميزانية السائب فنرى أن نصفه ينفق في غير محله؟!
إن الميزانية عندنا يصح فيها قول المثل: بقر الدير ورزق الدير ... فكأنها ملك يمين من يولى عليها لأجل صيانتها فيكون راعيها حراميها.
أما اليتيم الثالث، وهو أشقى الثلاثة، فهي الأوقاف التي ذابت بين أيدي القيمين عليها، وإذا كانت الميزانية تطير من باب شرقي فالأوقاف طارت من الجهات الست. فكل مولى عليها، إلا نفرا قليلا من البقية الباقية من أصحاب الضمائر الحية، يبيع، يرهن، وينفق بلا حساب. وسرية حساب الأوقاف عندنا، نحن أتباع رومية، مثل سرية المصارف، فالولي مقدس غير مسئول، وقلما يخرج رئيس أبرشية ورئيس كرسي أو رئيس دير دون أن يبيع أحسن عقار، ويستدين المبالغ الطائلة، أو ينفق ما ادخره الولي السابق؛ ليتفرعن ويتبغدد.
كان الوقف للفقراء فصار للأغنياء، وكان لعمل البر والإحسان فصار للأهل والجيران ... وكان للتقشف فصار للبذخ والتنعم، وأصحاب هذا الحق لا يصرخون.
أعرف ديورة وكراسي باعت الكثير مما تملك، ولماذا؟ لا أدري ولا المنجم يدري. يكون في الدير بضعة أفراد، وهو يملك قرية، أو قرى يعيش في غلتها مئات الشركاء وعيالهم، بينما الأفراد، وهم جمع قلة، لا تكفيهم حصتهم من تلك الغلال وهي النصف. وهكذا نظل نرى الدير رازحا تحت أثقال الديون ولا بد في النهاية من البيع.
في ذلك الزمان جاء ديورتنا موفد روماني؛ ليدرس عن قرب الحياة الرهبانية عندنا، فرحب به الرئيس العام وجمهوره، وبعد نصف ساعة قرع جرس صلاة المساء، فقال الرئيس العام للزائر الرسولي: تفضل. فنهض ومشى وهو يظن أنه مدعو إلى العشاء. فإذا به يدخل الكنيسة، ودامت الصلاة ساعة زمان. ثم هونها الله وانتهت فذهبوا إلى المائدة، فجلس، وقدمت له طبخة الديورة التقليدية في ذلك الزمان «المخلوطة» ومعها الخبز اليابس، فانتظر المسكين كيف يأكل الرهبان أرغفتهم التي تصلح دفوفا، فطحنوها وفتتوها، واستلوا الملاعق، فاضطر أن يجاريهم ولكنه قصر عنهم في ذلك الميدان، فقام غير شبعان. انتظر الفرج. فعادوا به إلى الصلاة، ولكنها كانت نقرة، ثم صعدوا إلى القاعة، وما استراحوا قليلا حتى قرع ناقوس صلاة الستار، فدعي حضرته إلى النهوض ومشى إلى الصلاة يجر نفسه جرا. وانتهت المعركة الصارخة فقرع جرس النوم ونام، وبعد ثلاث ساعات قرع بابه فأفاق، وبشره الرئيس بالقيام إلى صلاة الليل فلبى مكرها. وصلاة الليل طويلة أربع «قومات» فانتهت بعد جهد طويل وما نام ساعتين ثلاثة حتى قرع جرس صلاة الصبح، فطار عقله عندما قرع بابه، ثم جاء دور القداس ثم الزياح، فصلاة النهار، فلم يستطع الصبر على الصلاة وخشونة الأكل، فقال للرئيس العام: أهذا هو أسلوب عيشتكم؟!
فأجابه: نحن لا نأكل اللحم ولا نلبس القماش الناعم، نحن، يا صاحب النيافة، زهاد لا عمل لنا إلا تأدية واجبنا والسهر على أبناء رعيتنا، فحيث توجد قرية بلا كاهن نذهب إليها ونعود إلى مقرنا لننام في ديرنا. - وأنا ماذا جئت أفحص؟ إن طرقكم لا تفحص، وهنيئا لمن يقدر أن يعيش عيشتكم.
فقال الرئيس: قد يكون ضايقك أكلنا الخشن. غدا نذبح لك ديكا. ونقلي لك البيض، ونسقيك الخمر المعتقة.
Unknown page