فائدة:
ذَكَر ابن الصلاح (^١) أن مثال المتواتر على التفسير المتقدم يَعِزُّ وجودُه، إلا أن يُدَّعَى ذلك في حديثِ: (مَنْ كَذَبَ عليَّ) (^٢). وما ادّعاه من العِزَّةِ ممنوعٌ، وكذا ما ادعاه غَيْرُهُ مِن العدم؛ لأن ذلكَ نشأَ عن قلةِ اطِّلاعٍ على كثرةِ الطرقِ وأحوالِ الرجالِ وصفاتِهِم المقتضيةِ لإبعادِ العادةِ أن يَتَواطؤا على كذبٍ، أو يَحْصُلَ منهم اتِّفاقًا.
[الدليل على وجود الحديث المتواتر]:
ومِنْ أحسنِ ما يُقَرَّرُ به كونُ المتواتر موجودًا وجودَ كَثْرةٍ في الأحاديث: أن الكُتَبَ المشهورةَ الْمُتَدَاوَلَةَ بأيدي أهل العلم شرقًا وغربًا، المقطوعَ عندهم بصحةِ نسبتِها إلى مصنفِيها، إذا اجتمعتْ على إخراجِ حديثٍ، وتعددتْ طُرقُه تعدّدًا تُحيل العادةُ تواطُؤَهم على الكَذِبِ، إلى آخر الشروط، أفاد العلمَ اليقينيَّ بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير (^٣) (^٤).
_________
(^١) في "مقدمته"، ص ٢٦٧.
(^٢) قوله ﷺ: (مَنْ كَذب عليَّ متعمدًا فليتبوّأْ مقعدَهُ مِن النارِ)، حديثٌ متواتر، قد جاء عن عددٍ مِن الأصحاب، ﵃، وهو في الصحيحين وغيرهما: البخاري، العلم، ١١٠، والأدب، ٦١٩٧، ومسلم، مقدمة، ٣، عن أبي هريرة ﵁، والبخاري، ٣٤٦١، أحاديث الأنبياء، عن عبد الله بن عمرو ﵄.
(^٣) في الأصل حاشية بخط المصنف ونصها: "بلغت قراءة بحث عليّ. كتبه مؤلفه".
(^٤) مقدار الأحاديث المتواترة: الحق أنّ ما ذكروه في الكتب الخاصة بالتواتر ليس كثيرًا؛ فقد ذَكر الكتاني نحو (٣١١) حديثًا في كتابه: "نظم المتناثر مِن الحديث المتواتر"، وكتاب السيوطي قبْله أقل مِن هذا العدد، ولكن السبب-في رأيي- في هذه القلة هو الشرط الذي بَنى عليه كلٌّ مِن هؤلاء تحديد المتواتر؛ فالكتاني مثلًا جمع في كتابه ما اجتمعت عنده له عشرة طرق، فأكثر مِن الروايات.
لكن، هناك دليلٌ آخر يُسْتدل به على كثرة الحديث المتواتر ذكَره الإمام ابن تيمية، ﵀، وهو أنّ جمهور أحاديث الصحيحين؛ متواتر، أو ثابتٌ قطْعًا؛ لِتَلقِّي الأمة لهما بالقبول، ذكر هذا في عددٍ مِن المواضع، منها: "مقدمة في أصول التفسير"، ٦٦ - ٦٧، و"مجموع الفتاوى"، ١٨/ ١٧. وبهذا يُعْلم كثرة الحديث المتواتر والحديث الثابت ثبوتًا قطعيًّا.
وهناك أمرٌ آخر يُمْكن أن نَعرف مِن خلاله كثرة الأحاديث المتواترة، وهو النظر إلى جميع أنواع الحديث المتواتر: المتواتر لفظًا، والمتواتر معنى، والمتواتر تواترًا عمليًا، وبحصْر ما يَصْدق عليه التواتر في كُلٍّ مِن هذه الأنواع يُصبح العدد كبيرًا. (وقد أفادنا ببعض هذه الفوائد أستاذي د. محمد مصطفى الأعظمي في محاضراته لنا، ﵀.
1 / 59