وإنما أُبْهِمَتْ شروط المتواتر في الأصل (^١)؛ لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحثِ علمِ الإسناد (^٢).
[تعريف علم الإسناد]:
إذْ علمُ الإسنادِ يُبحث فيه عن صحة الحديث أو ضعفه؛ لِيُعْمَلَ به أو يُتْرَكَ من حيث: صفاتُ الرجال وصِيَغُ الأداءِ (^٣)، والمتواتر لا يُبْحَث عن رجاله، بل يجِبُ العمل به من غير بحث (^٤).
_________
(^١) يَقصد المؤلفُ بالأصل: "نخبة الفِكَر: (ص ٢١٩ - ٢٢٥) من هذا الكتاب، مِن هذه الطبعة.
(^٢) وإنما هو مِن مباحث علم الأصول.
(^٣) وقوله: "صفات الرجال"، أَيْ: أحوال الرواة مِن حيثُ الثقةُ وعدمُها، ودرجاتُ كلٍّ منهما. و"صِيغُ الأداء" هذه للتعرف على طرُق التحمّل، وتَبَيُّنِ الاتصال مِن عدمه، ويُنْظر تفصيل هذا الموضوع عند ابن الأثير في "جامع الأصول .. " ١/ ٧٨ - ٩٠. وقوله: " مِن غير بحث"، أقول: لكن، يُبْحث عنه مِن حيثُ تحديدُ شروطِ التواترِ وصفاتِهِ وتَحَقُّقُها فيه، ولعلهم يوردونه في مصطلح الحديث لهذا الغرض.
(^٤) المتواتر والآحاد:
الخبر إما أن تكون له طُرُقٌ: كثيرة مِن غير حصرِ عددٍ معين، فهذا إذا توافرت فيه بقية شروط التواتر، فهو حديثٌ متواتر وخبَرٌ متواتر. أو يكون الخبر له طُرُقٌ محصورة بعددٍ لا يَبْلغ التواتر، فهذا آحاد.
مسألةُ إفادةِ كلٍّ مِن المتواترِ والآحادِ العلمَ:
وهذه المسألة (وهي مدى إفادة الروايةِ العلمَ، سواء كانت متواترة أو آحادًا) مِن القضايا التي حصَل فيها خلاف بين الناس: فمنهم مَن قال بأن المتواتر يفيد العلم اليقيني الضروري، ومنهم مَن قال: إنه يفيد العِلْم اليقينيّ النظريّ.
والآحاد: قد قال قوم: إنه يُفيد العلم، وقال آخرون بأنه لا يفيد العلم.
وللنظر والترجيح في هذه المسألة لابد مِن تحديد المصطلحات أوّلًا؛ ذلك أنه بالتتبع تَبَيَّنَ أنّ مردّ الخلاف بين المختلفِين، في أكثر الأحيان، إنما هو اختلافُ مصطلحاتهم، لا اختلاف مقاصدهم وآرائهم.
فما المصطلحات المستخدمة؟ وما معناها في هذا الموضوع؟ إليك تفصيلَ هذا فيما يلي:
لدينا:
- كلمة: (العلم).
- وكلمة: (اليقين).
- وكلمة: (الظن).
- وكلمة: (الضروري).
- وكلمة: (القطعي).
- وكلمة: (النظري).
وقد حقق الإمام ابن حجر ﵀ فيما ذهب إليه في هذه المسألة تحقيقًا رَصِينًا، ورأى في هذه القضية فرقًا بين هذه المصطلحات في بعض الجوانب، لكنه هو الآخر قد استَخدم-أحيانًا- بعضَ العبارات الموهمة، التي بسببِ إيهامها وقع الخلاف.
فكلمة: «عِلْم» هي على معناها اللغوي المعهود. وعندما تُستخدم في هذا المعنى لا يحصل فيها إيهام، ولكن عندما تُستخدم على مصطلحٍ آخر ليس معروفًا، أو ليس ملحوظًا عند بعض الناس، يقع الإيهام ويقع الخلاف.
وقد رأيتُ كثيرًا ممن تكلموا في هذا الموضوع قالوا: حديث الآحاد لا يفيد العلم، وقال الآخرون: بل يفيد العلم، فلما تتبعتُ الأمر وجدتُ أنّ:
١ - «العلم» -بالنظر إلى الدلالة القطعية وعدمها-نوعان: فمنه العلم القطعي اليقيني، والنوع الآخر العلم الذي يَثْبت بأغلب الظن.
٢ - وينقسم «العلم» -بالنظر إلى طريقة التوصل إليه-إلى نوعين: العلم الضروري، وهو الذي لا يحتاج إلى بحثٍ، ولا إلى تتبعٍ، والعلم النظري الذي يتوقف التوصل إليه على البحث والنظر.
وبهذا تكون عندنا الأقسام الآتية:
١ - العلم اليقينيّ القطعيّ الضروريّ.
٢ - العلم اليقينيّ القطعيّ النظريّ.
٣ - العلم الظنيّ النظريّ.
وإذا استخدمنا هذه المصطلحات الدالة على هذا التحديد، فإن المراد عندئذ سيكون واضحًا، وقد يتبين مِن خلاله أنه لا خلاف بين كثير مِن المختلِفين في هذه الأمور، ولا يَبْعد أن يكون المتواتر درجاتٍ في التمكن مِن التواتر، كما أنّ الآحاد الثابت درجاتٌ في التمكن في صفة الثبوت.
وفي ضوء ذلك؛ يمكن أن ينقسم الخبر الذي يدلّ على القطع واليقين إلى قسمين:
الأول: ما يفيد العلم اليقينيّ القطعيّ الضروريّ.
والثاني: ما يفيد العلم اليقينيّ القطعيّ النظريّ.
والمتواترُ إنما ينحصر النظرُ فيه في مدى توافر التواتر، أما النظر في الآحاد فمن ناحيةِ صدقِ رجاله، وبقية شروط الثبوت، وفرقٌ بين النظرين، فالمتواتر لا يَدْخل في علم المصطلح مِن حيثُ ضعْف الرواية وصحة الأسانيد، وإنما يَدْخل فيه مِن حيث النظرُ في توافر صفات التواتر وشروطه، فإنْ عُلِم فيه ذلك عُلِمتْ إفادته العلم اليقينيّ -القطعيّ- الضروريّ.
ويظهر لي أنّ مَن قال: إنّ حديث الآحاد لا يفيد العلم، إنما أراد نفيَ علمٍ مخصوص؛ وهو العلم القطعيّ الضروريّ، لأنه أَطلق العلم عليه خاصة، ولكن، هذا التخصيص فيه نظر؛ لأنا متعبَّدون شرعًا بكل دليلٍ صحيح يفيد العلمَ، بغضّ النظر عن كونه عِلمًا يقينيًا، أو ظنيًا، أو كونه ضروريًا، أو نظريًا.
فلا يُشترط -مِن حيثُ الثبوتُ- أيُّ قيدٍ في صحة الدليل ليصحَّ العمل به، ولذلك جاءت الأدلة الشرعية بالتعبد بأغلبية الظن، فالظن هنا هو الراجح، إذ أنّ كل دليل صحيح فهو يفيد العلم، ثم قد يكون هذا العلم يقينيًا أو ظنيًا، وقد يكون ضروريًا أو نظريًا.
وقال بعضهم بأن الحديث الآحاد يفيد العلم، ومراده: العلم النظري، لا الضروري، ثم قد يكون قصْده العلم اليقيني القطعي، أو العلم الظني، ولكن مَن لا يوافقه على هذا الاصطلاح قد لا يَفْهم مرادَه؛ فيترتب على ذلك حصول الخلاف بينهما.
على أنه يتبين لنا بالنظر والتدقيق أنّ الحديث الآحاد ليس كله يفيد العلم الظني، وإنما هو بحسب النظر في رواته ورواياته، وَفْق أصول المحدثين تكون النتيجة، وهو مِن هذه الحيثيّة ينقسم إلى قسمين:
الأول: خبر الآحاد الصحيح الذي لم تَحْتفّ به قرائن تقوِّيه وترفعه إلى درجة القطع، فهذا يفيد العلم الظنيّ النظريّ.
الثاني: خبر الآحاد الصحيح الذي احتفَّت به قرائن تقوِّيه وترفعه إلى درجة القطع واليقين، فهذا يفيد العلم اليقينيّ النظريّ.
حكم حديث الآحاد:
مِن الْمُسَلَّم به عند جمهور المسلمين أنّ الحديث إذا صح، قامت به الحجة، دون الالتفات إلى طريق التوصل إلى صحته وثبوته، ودون التفات إلى درجة الثبوت، المهم أن يكون ثابتًا، فالتواتر ليس شرطًا للعمل بالرواية، وإنما الشرط هو الصحة، والتواتر قدرٌ زائد على الصحة، وله فوائد ولا شك، وفيه زيادةُ تمكنٍ في الثبوت، ولكن تلك الزيادة ليست أمرًا متوقِّفًا عليه العمل بالرواية.
وبهذا يتبين لنا أن الحديث إذا صح قامت به الحجة، سواء في أمرِ العقيدة أو في أمرِ الشريعة، وإنما رَدَّهُ مَنْ رَدَّهُ في العقيدة بسببِ الخلط في دلالة المصطلحات المستخدَمة لدى مَنْ تكلم في مصطلح الحديث؛ فعبَّرَ بنفي دلالة حديثِ الآحاد على العلم؛ فرتَّبوا على ذلك المصيرَ إلى ردِّه في العقيدة احتجاجًا بكون العقيدة يجب أن تكون يقينًا، وقالوا: لا يُبْنى اليقين على الظن. فما الجواب عن هذا؟.
الجواب: والجواب عن هذه القاعدة هو أن العلمَ المنفيَّ دلالةُ الحديث الآحاد عليه هنا، ليس هو مطْلق العِلم، وإنما هو العلم القطعي اليقيني، ونحن نقول: هذا اليقين والقطع ليس شرطًا في ثبوت الرواية للعمل بها، سواءٌ في العقيدة أو في الشريعة.
وما قالوه، واحتجوا به: "مِن أنّ اليقين لا يُبْنى على الظن" كان مبْناه على الخطأ في فهم المقصود بقول بعض المحدثين: (إن حديث الآحاد لا يفيد العلم وإنما يفيد الظن)، إذ حَمَلوا الظن هنا على مجرد الظن الذي لا يدل عليه دليل، ولا يصل إلى درجةِ الثبوت، وليس ذلك هو المراد، بل لو كان مرادًا عند أولئك لكان مردودًا بحكم الواقع ودلالةِ أدلةِ الشرع التي جاءت بإيجاب العمل بخبر الواحد إذا صح، دون قيدٍ أو شرط.
إنّ مِن الواجب التسليمَ بأنّ حديث الآحاد الثابت يدل على العلمِ، أو يفيد العلمَ، ولكن المسألة مسألة مصطلحات يجب أن تُدقَّق وتُحرّر.
وأما قولهم: إن العقيدة يقينٌ؛ واليقين لا يُبْنى على الظن، وأنه يشترط في أَيّ دليلٍ يؤخذ به في العقيدة، أن يكون يقينًا قطعيًا؛ فجوابه: أن هذه قاعدة هي في العقيدة؛ فإذا أردنا أن نأخذ بها، فلْنطَبِّقْها أوَّلَ ما نُطَبِّقُها على نفسها؛ لأنها ليست دليلًا في العقيدة فحسْبُ، وإنما هي أعمقُ مِن ذلك، فهي قاعدةٌ عامّة تُحاكَم إليها سائر أدلة العقيدة؛ فإذا أردنا أنْ نأخذ بها فلْنطبِّقها أولَ ما نُطبقها على نفسها، فنقول: هذا كلامٌ في العقيدة؛ فأين الدليل القطعي عليه؟! ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم إِنْ كُنْتُم صَادِقينَ﴾، (١١١: البقرة: ٢). (أذْكرُ أنّ هذه قد أفادنا بها أُستاذي د. محمد مصطفى الأعظمي، ﵀.
الجواب: وجوابُ السؤال السابق هو أنْ لا دليل على هذه القاعدة، بل الدليل قائم بضدّ ذلك، إذ كلُّ أدلةِ الاحتجاج بخبر الواحد تردُّ هذه القاعدة، والنبي ﵊ بَعَثَ رسُلَه إلى مختلف البلدان واحدًا بعد واحدٍ ليُعَلِّمُوهم الإسلام كله: عقيدةً وشريعةً؛ فكيف يَصح مثل هذا لو كانت القاعدة المذكورة صحيحة؟! كيف يصح عندئذ أن يتلقى أهل قُطْرٍ، بأكملهم، الدِّينَ كلَّه، عقيدةً وشريعةً، عن شخص واحد؟! إنّ هذا مما يَنقض هذه القاعدة نقضًا لا مزيد عليه، والحمد لله رب العالمين.
التواتر بين أهل الاختصاص وسِواهم:
هناك فرق بين أمرين: بين الحكم بالتواتر، وهذا لا يكون إلا لأهل الاختصاص، وبين حصول القطع واليقين لدى السامع عند الاطلاع على التواتر، فهذا يحصل لكل أحد يوقَفُ على طبيعة الخبر وشروطه أو طرُقه.
1 / 54