٣ - وتلاه أبو نعيم الأصْبهاني (^١) فعَمِل على كتابه مستخْرَجًا وأبقى أشياءَ للمُتَعَقِّب.
٤ - ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغداديُّ (^٢) فصَنَّفَ في قوانين الرواية كتابًا سَمَّاهُ: "الكفاية" (^٣)، وفي آدابها كتابًا سَمَّاهُ: "الجامع لآداب الشيخ والسامع" (^٤)، وقَلَّ فَنٌّ مِن فنون الحديث إلا وقد صَنَّفَ فيه كتابًا مفْرَدًا؛ فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة (^٥): «كلُّ مَن أَنْصف عَلِم أنّ المحدِّثين بعد الخطيب عيالٌ على كُتُبِهِ» (^٦).
_________
(^١) هو أحمد بن عبد الله أبو نعيم، الأصبهانيّ الصوفيّ، ٣٣٦ - ٤٣٠ هـ، صاحب التصانيف، ومنها: "المستخرج على علوم الحديث للحاكم"، و"حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"، و"دلائل النبوّة".
(^٢) الإمام الحافظ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، ٣٩٢ - ٤٦٣ هـ.
(^٣) كتابُه "الكفاية في عِلم الرواية" مِن أوسعِ الكتب في بابه، ويمتاز بأنه كتابُ روايةٍ؛ حيث أوردَ فيه المؤلفُ معلوماته بالسند.
(^٤) هكذا في الأصل، ولكنّ الصحيح أنّ اسم الكتاب: "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"، وهو الذي طُبِعَ به، وورد في مخطوطاته، وهو كتابٌ جامعٌ، على اسمه، جَمَعَ بين بَسْطِ المعلومات وإيرادها بالسند.
(^٥) هو عبد الغني بن شجاع أبو بكر بن نقطة، ٥٧٩ - ٦٢٩ هـ.
(^٦) قال عنه في ترجمته في"التقييد في رواة السنن والمسانيد": «وله مصنفاتٌ في علوم الحديث لم يُسْبق إلى مثلها، ولا شُبْهةَ عند كلِّ لبيبٍ أنّ المتأخرين مِن أصحاب الحديث عيالٌ على أبي بكر الخطيب»، ١/ ١٦٩ - ١٧٠، بيروت، دار الحديث، ١٤٠٧ هـ-١٩٨٦ م، وقال عنه أيضًا: «ومات عن نيّفٍ وخمسين مصنَّفًا، سِوى ما وُجد في الرقاع غير مفروغٍ منه، وانتهى إليه الحفظ والإتقان، والقيام بعلوم الحديث»، ١/ ١٧١. قال الرحيلي: وما أَوْلى الإمامَ ابن حجرٍ، عليه رحمةُ الله، بهذا الوصْف! وإنْ لم يَذْكر نفسَهُ؛ فهو قَلَّ فنٌّ مِن فنون علوم الحديث إلا أَلّفَ فيه مؤلَفًا، أو مؤلفاتٍ، في غايةِ الدقةِ والتحقيقِ.
ولئن قيل بأنّ الإمام الخطيب، ﵀، مات عن نَيّفٍ وخمسين كتابًا، فإنّ ابن حجر قد مات عن أكثر مِن مئةٍ وخمسين كتابًا، عددٌ قليلٌ منها بمجلداته يُساوي -مِن حيث الكمّ- ما يُقارب حجم مؤلفات الخطيب كلها، باستثناء كتاب الخطيب "تاريخ بغداد".
وقد أَصبح الناس عيالًا على كُتب ابن حجر؛ بحيث لا يُمْكن لأحدٍ أن يتخصص في هذا الفن ويَستغني عن مؤلفاته! وفي كلٍّ منهما خيرٌ وفضْل، أَحسَنَ الله إليهما.
وقد نَقَل ابن حجر هذه المقولة في الإشادة بالخطيب البغدادي، ولعله حين نقَل ذلك كان هو أولى بها، لكنه لم يَذْكر نفسَه بقليلٍ أو كثيرٍ مِن ذلك، بل أَخبَر تلميذه أو تلاميذه أنه ليس راضيًا كلَّ الرضا إلا عن نحو خمسةٍ مِن مؤلفاته؛ فهذه عظَمَةٌ فريدة!
ومعَ هذا كله فلا تنافي ولا تَعارُض بين إمامةِ كلٍّ منهما بهذا التفرّد، كلٌّ منهما في زمانه، ولا مانع مِن تجَدُّد هذه الإمامة والعَظَمَة في تاريخ الإسلام كله في مختلف مراحله وأحواله مِن قبْل ابن حجر ومِن بَعْده؛ إذ الإسلام ولاّدٌ للعلماء العظماء الأفذاذ، والحمد لله رب العالمين.
1 / 43