المصرح بالأخذ عنها في المقدمة، قد نسب إلى معظمها في مادة الفصول والأبواب، كنحو إسناده إلى «الجاحظ» في كتابه «الحيوان» وغيره، بل نجده قد صرح من خلال مادة الكتاب- كذلك- بأسماء بعض المصادر التي اكتفى في المقدمة بذكر مؤلفيها إهمالا لمسمياتها، كنحو إسناده إلى «قدامة» في كتابه «الخزانة»، وليس «الخراج» كما توهم البعض.
ثالثا- أن جل اعتماد «الإدريسي» في جمع مادته على الجوالة والتجار، أو بمصطلح عصرنا «شاهد العيان»، ولذا كثيرا ما تطالعنا في ثنايا الكتاب مواد مسندة إلى هذا الصنف من المصادر، كنحو قوله: «ولقد أخبر بعض السفار الثقات، وكان قد تجول في بلاد السودان نحوا من عشرين سنة ...»، «...
وهذا مشهور معلوم، يعلمه تجار أهل تلك البلاد، ويحكونه عنهم»، «وحكى بعض المسافرين إلى مدائن كوار أن ...»، «حكى بعض المخبرين أن ...»،
«ونأتي فيه بما ذكره المتجولون، ونقله المسافرون، واتفقت عليه أقاويل الناقلين، حسب الطاقة ومبلغ الجهد» .
رابعا- أن كل ذلك قد امتزج امتزاجا طيبا بمشاهدات «الإدريسي» عينه، وخبراته كرحالة وجغرافي وخرائطي.
تقويم مادة الكتاب:
لم يقتصر «الإدريسي» في «النزهة» - كما قدمنا- على الجغرافية الطبيعية البحتة، بعناصرها، وإنما عني إلى جانبها بالجغرافية البشرية بشتى عناصرها المتاحة لديه، بما يخدم مجالات المعرفة الأخرى، من اجتماع ونظم وعقائد وتأريخ وأدب ... كما لم ينحصر دوره فيها على جمع وتنظيم المعلومات في أبواب وفصول، وإنما كان- علاوة عن ذلك- صاحب رؤية علمية، وذوق فطري سليم، صاحبا أكثر مادة الكتاب، وتبديا في عقد كثير من الموازنات بين ما شهرت به المدن لديه من بناء وعمارة، أو مزروعات ومعادن، أو معايش وتجارات، وما وصف به بعض الأجناس البشرية في مواضع بالجمال الفائق، وفي أخرى بالقبح الفاحش، مع التعليل في كل، وما تطرق إليه من تعديد أنواع الصنف الواحد من المخلوقات، والموازنة فيما بينها من خصائص وصفات، على نحو ما سوف يطالعك من تعديد للموز والأسماك والحديد، والتعريف ببعض الحيوانات، وطرقهم في تحصيل معايشهم بصيد «الأسماك» و«الحيتان»
€
المقدمة / 6