أجلك فلا تستأخر لحظة ولا تستقدم، رُفِعت الأقلام وجَفّت الصحف. فمضوا لا يهابون الموت في سبيل الله ولا يخافونه، لأنهم آمنوا بأن المرء ليس أدنى إلى الموت وهو في غمار المعركة الحمراء منه وهو في بيته بين أهله وولده.
ولكن المسلمين الأولين لم يُلقوا بأيديهم إلى التهلُكة اعتمادًا على أن الأجل محدود، ولم يُعرضوا عن سنن الحياة التي لا تجد لها تبديلًا، بل اتبعوا قوانين الوجود وساروا على نهج الحق، وحرصوا على الحياة حين يكون الواجب داعيًا إلى الحياة، ورضوا بالموت حين يدعوهم الواجب إلى الموت، ولم يعرفوا هذا التوكل السخيف فيناموا ويتقاعسوا عن العمل، لأنهم علموا أن السماء لا تُمطر ذهبًا ولا فضة ولكن الله يزرق الناس بعضهم من بعض. وقرؤوا في القرآن قول الله الذي أنزله على عبده ورسوله: ﴿فإذا عَزمْتَ فتَوَكّلْ عَلى الله﴾، فعزموا على العمل وتوكلوا فلم يتكاسلوا عنه، ولم يتكالبوا على الدنيا، وجدّوا كل الجدّ ولكنهم لم يطلبوا شيئًا إلا من طريقه المشروع، وعملوا لدنياهم كأنهم يحيون أبدًا ولكنهم عملوا لآخرتهم كأنهم يموتون غدًا.
عرفوا هذه العقيدة على وجهها فكانوا أعزَّ الناس على الناس، ولكنهم كانوا أذلّهم لله وللمؤمنين. وكان منهم أزهد الناس وهو أغناهم لأن المال كان في يده لا في قلبه؛ وكان منهم الملك الزاهد والعالم الغني والفقير العزيز، وما شئت من خصلة من خصال الخير إلا وجدتها فيهم.
كانوا إذا قرؤوا في الصلاة قوله تعالى: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ