إني أرى هذه الصفوف قد قامت من جديد لتعيد زحفها الخيّر مرة ثانية. ألا ترونها واقفة لا تحركها الرياح؛ لا رياح الفلوات ولا رياح المطامع والشهوات؟ لقد استوى فيها الحاكم والمحكوم، والملوك والسّوقة، والأغنياء والفقراء.
لقد طالما رأيت بين المصلين ملوكًا ورؤساء ووزراء يَقدُمون حجاجًا أو معتمرين، نستنزلهم من طيّاراتهم التي كانوا يضربون بها في طباق الجو، يعلون بها السحاب حيث لا يبلغ نسر ولا عقاب، فلا نجد في الإكرام لهم عندنا ولا ما هو أحب إليهم منا من أن نقول لهم: انزعوا عنكم ثياب الدنيا التي ترتدونها كما يرتديها الناس، ثياب التفاخر والتكاثر، فما ها هنا مجال لتفاخر ولا لتكاثر، وارتدوا ما يستر الأجساد ويدفع حر الصيف وبرد الشتاء: الإزار والرداء. ثم نقول لهم: طوفوا حول هذا البيت مع الطائفين وادخلوا في هذه الصفوف مع المصلين، فمن هذه البقعة المباركة نبَعَ الخير الذي سالت به الجداول والأنهار حتى عمّ الأرضَ كلها بالخصب والنماء، ومن هنا، من جبل قريب، خرج النور الذي أزاح عن الدنيا ظلمات الشرك والجهل والخرافة ودلها على طريق العقل والحضارة والمدنية والعلم. إن هذه القَفْرة التي ما فيها إلا الصخر والرمل هي التي ولدت جنات الغوطة وبساتين العراق، ومصر التي كان يدعوها أهلها أم الدنيا.
ومن قبل، من عشر سنين، كنت في الباكستان لمّا زارها الملك العربي السعودي المسلم، فلم يجدوا أبلغ في تكريمه من أن يدعوه ليؤمّ المصلين ويضع جبينه معهم على الأرض. ولم يكن في كراتشي يومئذ مسجد يتّسع لهذه الخلائق التي لا يحصيها العدّ
1 / 42