علي الطنطاوي
نور وهداية
جمع وترتيب حفيد المؤلف
مجاهد مأمون ديرانية
دار المنار
للنشر والتوزيع
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر
الطبعة الثانية
٢٠٠٩
دار المنار
للنشر والتوزيع
ص ب ١٢٥٠ جدة ٢١٤٣١ المملكة العربية السعودية
هاتف ٦٦٠٣٦٥٢ فاكس ٦٦٠٣٢٣٨ المستودع ٦٦٧٥٨٦٤
البريد الإلكتروني: [email protected]
1 / 4
مقدمة
هذا هو الكتاب الخامس الذي وفق الله إلى جمعه مما تركه علي الطنطاوي منثورًا غيرَ منشور من مقالات وأحاديث، بعضها قرأه الناس ذات يوم في مجلة أو صحيفة، ثم طوى المجلةَ أو الصحيفةَ النسيانُ وغابت المقالةُ عن عين كل إنسان، وبعضها سمعه الناس ذات يوم مُذاعًا من دمشق أو من مكة من إذاعة صوت الإسلام، ثم أنسى الناسَ هذه الأحاديثَ بُعْدُ العهدِ وذهب بها كَرُّ الأيام.
وإني لأرجو أن ينفع الله بهذا الكتاب وأن يجعله -بكرمه- من الصدقة الجارية لمؤلفه ﵀. ولقد وفق الله فجاء على غير سابق خطة، فقد علمتم (أو علم منكم من قرأ مقدمة الجزء الثاني من «مقالات في كلمات») أن جدّي ﵀ كانت بين يديه كتب يعتزم نشرها، يجمع فيها مقالات من مقالاته التي نشرها في بعض الصحف والمجلات ثم لم تجد طريقها إلى أيٍّ من كتبه المنشورة، ثم طال به الزمن وضَعُفت الهمّة وتبعثرت المقالات ولم تصدر الكتب.
فلما جئت أجمعها من جديد وجدت مقالات لم يُشِرْ إليها ولم يقترح إدراجها في أي من الكتب التي اعتزم نشرها، ووجدت
1 / 5
أيضًا أوراقًا كثيرة تضم مدوَّنات أو مسوَّدات لأحاديث إذاعية (يوم كان يكتب أحاديثه)، بعضها مجموع وبعضها مفرَّق. فاشتغلت أسابيع في فرز هذه الأوراق وضمّ الأمثال إلى الأمثال، حتى اكتملت بين يديّ مقالاتٌ وأحاديثُ كاملاتٌ أو شبهُ كاملات، ثم أنفقت أسابيع أُخَر في فرز هذه الأحاديث والمقالات، حتى انتهيت أخيرًا إلى جمع كتب كاملة هذا أوّلها، وهو واحد من ثلاثة كتب ستصدر تِباعًا واحدًا بعد واحد إن شاء الله، وزّعت فيها المقالات الإسلامية. أولها هذا الذي سرقتُ اسمه من برنامج الشيخ الأشهر، والثاني سمّيته «فصول في الدعوة والإصلاح»، واسمه يدلّ عليه، وسمّيت الثالث «مباحث إسلامية» وجعلت فيه الموضوعات الفقهية والمسائل العلمية التي لا تدخل في باب الدعوة العامة.
* * *
ولسوف يجد القارئ تشابهًا في الأفكار أو في الأمثلة في بعض فصول هذا الكتاب، والعذر أنها مقالات كُتبت أو أحاديث أذيعت في أزمنة متباعدات. بل إن الشيخ نفسه قد أدرك أن كثرة الحديث تضطره إلى تكرار المثال؛ فاعتذر من ذلك فقال في واحدة من مقالات هذا الكتاب: "وأنا أعتذر إلى القراء من ذكر مثل سأسوقه كنت قد ذكرته من قبل، وعذري أن من المعاني ما لا بد من تكراره لتكرر مناسباته، وأنا أكتب من خمس وثلاثين سنة وأخوض في موضوعات كنت خضت فيها من قبل، فآتي بما كان القراء قرؤوا لي مثله".
1 / 6
ولقد ترددت أمام كل مقالة فيها شيء من التكرار في الفكرة أو في المثال: أأحذفها أم أبقيها؟ ثم أبقيتها ما دمت قد وجدت فيها طرحًا جديدًا أو عرضًا مفيدًا تمتاز به من المقالات الأخريات. على أني استبعدت ما كان أقرب إلى التكرار الكامل، وقد ضحيت -من أجل ذلك- بالكثير.
* * *
وبعد، فبعد شهرين يُتِمّ جدي سبعَ سنين من رحلته إلى عالَم الآخرة، أسأل الله له الرحمة، وأسأله أن يثيبه بهذا الكتاب نورًا في قبره مثل النور الذي أراد أن ينشره بين الناس، حين لبث من عمره سنين وسنين وهو يحدّثهم حديث «النور والهداية» من رائي المملكة، ويجيب عن «مسائلهم» ويحل «مشكلاتهم» من إذاعتها.
وإني لأحسّ وأنا أقدم هذا الكتاب بالخجل من جدّي ﵀ ومن القرّاء؛ إذ أنظر فأرى ما بقي أمامي مما لم أصنع أكثرَ مما صنعت، والسنواتُ تمضي سِراعًا وأنا أدبّ دبيب السلحفاة، لا أكاد أتم في العام كتابًا أو بعض كتاب. فمتى أنهي الكتب كلها وأضعها بين أيدي الناس؟
فأنا أعتذر من جدّي الذي لم أوفِّه من حقه وفضله عليّ إلا أقل القليل، وأعتذر من القراء الذين صبروا على ضعفي وبطء سَيري، وأعتذر من زوج خالتي، نادر حتاحت، الذي ينشر هذا الكتاب كما نشر سائر كتب الشيخ، فوصل بِرَّه به ميتًا ببِرّه به حيًا حين كان له كما يكون الولد للوالد. أعتذر منه وأحمد له صبره
1 / 7
عليّ، فما أكثر ما وعدته بالكتب وما أقل ما وفيت بالوعد! أرجو أن يسامحني الله وأن لا يجعلني في زمرة المنافقين الذين حدّثنا نبيه المعصوم ﷺ أنهم يَعِدون فيُخلفون!
هذا اعتذاري أضعه بين أيدي القرّاء راجيًا أن يقبلوه، أما عذري فأبقيته لنفسي ولم أبسطه لأحد من الناس، وماذا يفيدني أن يعرفه الناس والوقت لا يُهدى ولا يوهَب ولا يُعار ولا يُباع؟
فحسبي أن يدعو لي كل محب بأن يبارك الله لي في وقتي. وإنْ ألهمَ الله قارئًا يقرأ هذه الكلمات فسأل الله مخلصًا أن ييسّر لي إنجاز ما بقي وأن يطويَ بين يديّ صفحات الكتب الآتيات، فعسى أن يجعله الله شريكًا في الأجر، وأن لا يحرمني منه، والله أكرم الأكرمين.
مجاهد مأمون ديرانية
جدة: ربيع الأول ١٤٢٧
1 / 8
موسم العبادة
حديث أذيع من دمشق سنة ١٩٥٩
يا أيها السامعون، إن للزراعة مواسم، وإن للتجارة مواسم، وإن للمدارس مواسم. فإذا جاء موسم الزرع شمّر الزارع عن ساقه فحرث وبذر وجدّ ودأب، وإذا جاء موسم البيع عرض التاجر بضاعته وأقام عليها نهاره ووضع في ترويجها ذهنه ويده، وإذا جاء موسم الامتحان ترك التلميذ لهوه وسهر ليله وعكف على كتابه.
ورمضان هو موسم العبادة للمؤمنين.
وإذا كان الزارع يُتعب نفسه في الحرث والبَذر أملًا بيوم الحصاد، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، فازرعوا فيها من الصالحات لتحصدوا ثمرتها حسنات يوم يقوم الحساب.
وإذا كان التاجر يكدّ ويدأب ليربح المال وينجو من الضيق والخسار، فهذه هي التجارة المربحة: ﴿يَا أيُّها الذينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجيكُم مِنْ عَذَابٍ أَليم؟ تُؤمِنونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللهِ بِأمْوالِكُمْ وَأنْفُسِكُم؛ ذلِكُمْ خَيرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمون. يَغْفِرْ لَكُم ذُنوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُم جَنّاتٍ تَجري مِن تَحْتِها الأنْهارُ وَمَساكِنَ طَيّبةً في جَنّاتِ عَدْنٍ، ذلِكَ الفَوْزُ العَظيمُ. وأُخْرى
1 / 9
تُحِبّونَها: نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَريبٌ، وَبَشِّرِ المُؤمِنين﴾.
وإذا كان التلميذ يدرس خوفًا من السقوط يوم الامتحان والفضيحة بين الرفاق، فإن الامتحان الأكبر أمامنا. هذا امتحانٌ غايةُ الخسارة فيه أن يضيع التلميذ سنة ثم يعود فيُصلح ما أفسد ويتدارك ما ضيّع، وذلك امتحان تُعلَن النتائج فيه على رؤوس الخلائق جميعًا فيسمعها الجن والإنس، ينادي المنادي أن لقد نجح فلان ابن فلان، فتتلقّاه ملائكة الرحمة بالرعاية والإكرام إلى دار النعيم المقيم، وقد سقط فلان ابن فلان، فتتسلمه زبانية النار بالشدة والهوان إلى دار العذاب الدائم.
وهنالك الخسارة الحق: ﴿قُلْ إنَّ الخَاسِرينَ الذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم وَأَهْليهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ، أَلا ذلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبينُ. لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِم ظُلَلٌ، ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ، يَا عِبادي فَاتَّقُونِ﴾.
هل تعرفون ما معنى «اتقوا»؟ إنكم تقولونها دائمًا وتسمعونها دائمًا، وكثير منكم لا يعرف معناها. كلمة «اتّقوا» من «الوقاية»؛ يُقال: اتّقى فلانٌ البردَ بالمعطف، أي اتخذه وِقايةً منه، واتقى الفارسُ الطعنةَ بالتّرس، أي وَقَى به نفسَه. فاتقوا الله معناها: قُوا أنفسَكم من عقابه.
فبماذا نتقي عذاب الله؟
بالقرآن. ورمضان الذي أُنزل فيه القرآن أحق الشهور بتلاوته وتدبّره والإقبال عليه. وفي الحديث الصحيح المشهور: «ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويَتَدارسونه بينهم إلاّ
1 / 10
نَزلت عليهم السَّكينةُ، وَغَشِيَتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» (١).
أفلا تحبّون أن تنزل السكينة على قلوبكم وأن تستشعروا الطمأنينة وأن تتخلصوا من الهمّ والقلق والاضطراب؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.
أوَلا تحبّون أن تغشاكم الرحمة من الله؟ ومَن غشيته رحمة الله فقد نال كل خير ونأى عنه كل ضرر وكل ألم. إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.
أوَلا تحبّون أن يكون جلساؤكم الملائكة، هل أشرفُ من هؤلاء الجُلَساء؟ وأن يُطرَد من حولكم الشياطين: شياطين الإنس وشياطين الجن؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.
أوَلا ترون الناس يحرصون على الشهرة وعلى ذيوع الاسم؟ إن غاية ما يتمنّونه أن يعرفهم أهل الأرض. وما هذه الأرض بالنسبة إلى هذا الكون الواسع؟ والذين يتلون القرآن ويتدارسونه يعرفهم أهل الملأ الأعلى وتصل أخبارهم إلى مَن في السماوات ويذكرهم الله فيمَن عنده. أفلا تريدون أن تنالوا هذا الشرف الذي لا شرف بعده؟ إذن فاتلوا القرآن وتدارسوه.
* * *
إن ليالي رمضان -يا سادة- هي مواسم الزَّرْع لِمَن أراد أن يزرع للآخرة، وهي مواسم التجارة لمن أراد الربح الباقي في الآخرة، وهي مواسم الاستعداد للامتحان لمن أراد أن ينجح في
_________
(١) أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد (مجاهد).
1 / 11
الامتحان الأعظم في الآخرة.
ولكن الغافلين المساكين الذين أُصيبوا بقِصَر النّظر فلا يرون إلا ما بين أيديهم، يحسبون أن حياة الإنسان هي هذه الأيام التي يقضيها في الدنيا، ولو وضع على عينيه نظارات الشرع -لمداواة ما به من قِصَر النظر- لرأى أن الطريق أمامه طويل، وأن السفر بعيد، وأن هذه الحياة الدنيا مرحلةٌ من مراحل العمر ليست هي العمر.
إننا كركب مسافرين يقطعون ما بين المشرق والمغرب نزلوا ساعة يستريحون، فالأحمق يحسب أن الطريق انتهى، فيأكل زاده ويسّيب دابته ولا يعد العدّة للمسير، فإذا قامت القافلة ومشت تخلّف عنها أو ضلّ في البادية أو مات من الجوع. والعاقل من يعلم أن عليه أن يُريح راحلتَه ويَعْلِفها ليقطع الطريق عليها، ويوفّر زادَه ليكفيه أيام الرحلة.
وما هذه الحياة؟ ما مدتها؟ سبعون سنة، مئة سنة، مئة وخمسون؟ هل يعيش أحدٌ أكثرَ من مئة وخمسين سنة؟ وما مئة وخمسون بالنسبة إلى الآخرة؟ بل هَبوه عاش عمر نوح، قريبًا من ألف سنة، فما ألف سنة؟ إنها كيوم واحد من أيام الآخرة، بل إن في الآخرة يومًا مقداره خمسون ألف سنة!
فأين نحن من ذكر الآخرة؟ لقد نسيناها وشغلتنا عنها تُرّهات الدنيا وهموم العيش والتقاتل على حطام فانٍ لا يبقى منه بعد الموت شيء. إننا نرى الأموات تمرّ بنا مواكبهُم كلَّ يوم، ولكنّا نظن أن الموت كُتِب على الناس كلهم إلا علينا، ونبصر القبور تملأ الأرض ولا نفكر أننا سننزل يومًا إلى القبر.
1 / 12
ولو أنّا إذا مِتْنا تُرِكنا ... لَكانَ الموتُ راحةَ كلّ حَيِّ
ولكنّا إذا مِتنا بُعثنا ... ونُسأَل بعدَها عن كلّ شيِّ
نتجاهل الموت وهو نازل بنا يومًا، وبعد الموت الحساب الدقيق عن كل عمل عملناه، أحصاه الله ونسوه، في كتاب لا يَدَع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، يفاجَأ به العبد يوم القيامة، يوضع تحت عينيه يقال له: ﴿اقْرَا كِتابَكَ، كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسيبًا﴾.
وإذا أنكر أسكت الله لسانَه وأشهد عليه جوارحه، فشهدت اليد بما بطشت أو سرقت، والرِّجْل بما مشت إلى الحرام، والعين بما رأت من حرام، والفرج بما باشر من حرام، يرى ذلك بعينيه ويسمعه بأذنيه.
لا تعجبوا، فأنتم ترون الشريط المسجّل في الرائي (التلفزيون) وتسمعونه ينطق، يشهد بأفعالكم وأقوالكم فلا تستطيعون أن تنكروها. هذا في الدنيا ومن عمل البشر بتوفيق الله وهدايته، أفتنكرون أن تشهد عليكم الأعضاء في الآخرة وأن يُنطقها الله الذي أنطق كل شيء؟
فتعالوا نتّخذ من رمضان موسمًا للرجوع إلى الله، وتعالوا نَتْلُ القرآن ونتدارسه، لعلنا نكون مع هؤلاء الذين تنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمَن عنده.
وإلى اللقاء كل عشية في رمضان، والسلام عليكم ورحمة الله.
* * *
1 / 13
هذا هو الدليل
نشرت سنة ١٩٦١
ورد عليّ في هذا الأسبوع أغرب سؤال يمكن أن يَرِدَ من عاقل. يقول صاحب السؤال إن له صديقًا نشأ في بيت مؤمن وكان مقيمًا للصلاة صائمًا رمضان، ثم غدا شيوعيًا فكفر وجحد حتى صار يقول إنه ليس لهذا الكون إله. وهو يسأل: ما هو الدليل على وجود الله؟ يريد أن يتعلم مني دليلًا يردّ به صاحبه عن كفره.
الدليل على وجود الله هو أنت وصديقك الذي يكفر بالله، قل له: الدليل في نفسك، والدليل من حولك، والدليل في كل ما ترى أو تسمع.
اذهب إلى أستاذ الفسيولوجيا في كلية الطب فاسأله عن تركيب جسم الإنسان وما فيه من الأسرار العجيبة، بل اذهب إلى أستاذ الأنسجة واسأله عن الجلد وطبقاته والشعر وبصلاته، وانظر هذه الآلة التي لم يكشف الإنسان أسرارها كلها إلى اليوم، فضلًا عن أن يخلق مثلها. ولن أفيض في بيان هذه الأسرار، ولو ذكرت ما أعرفه منها لصغت من ذلك عشرة فصول، ولكن أشير إلى شيء واحد، هو أن هذا الإنسان أصله من مخلوق صغير جدًا كأنه خيط
1 / 15
دقيق، بلغ من صغره أنه لا يُرى إلا بالمجهر وأنك لو حزمت ألفًا منه وربطتها معًا لكان مجموعها كلها أدقّ من الشعرة.
من هذا الخيط الدقيق خلق الله رفيقك الذي ينكر الله، فجاء يشبه أباه في خلقته وفي جبهته وفي لون عينيه وفي نوع دمه، وورث عن أبيه أو عن جده صفات كثيرة من صفات الجسد، وطباعًا كثيرة وأمراضًا وعللًا. فكيف كانت هذه الملامح وهذه الطباع وهذه الأمراض مخبوءة في هذا الخيط الدقيق الذي لا يُرى إلا بالمجهر، والذي لو اجتمع عدد منه يعدل عدد سكان الأرض كلهم لوسع هذا العددَ كله قعرُ فنجان؟
قل له: إنك تنكر الله بعقلك هذا الذي تفخر به وتعتز بحكمه، فهل أوجدتَ أنت هذا العقل؟ إنك لم تعرف نفسك إلا وأنت ابن ثلاث سنين أو أربع، لا تعرف نفسك وأنت حيوان منوي، خيط دقيق، ولا تعرف نفسك وأنت جنين في بطن أمك، ولا تعرف نفسك وأنت وليد لا تفهم ولا تتحرك ولا تدفع عن نفسك ذبابة سقطت على أنفك ... فإذا كنت موجودًا قبل أن تعرف نفسك، فكيف تكون قد خلقت أنت نفسك؟
وإذا لم تخلق نفسك فتلفَّتْ حولك تَلْقَ جمادات لا تحسّ ولا تعقل، فهل خلقتك هذه الجمادات: هذه الجبال وهذه السهول وهذه الشمس وهذه النجوم؟ إنها كلها لا عقل لها، فكيف أعطتك عقلًا لا تملكه هي؟
واسأله: كيف وُجدت هذه الأسرار التي يكتشفها العلم يومًا بعد يوم؟ إننا سيّرنا قمرًا صناعيًا، ولكن مَن الذي وضع في الهواء
1 / 16
وفي الفضاء قابلية حمل هذا القمر؟ وهل كنا نستطيع أن نسيّره لولا هذه القابلية؟
﴿ألَمْ تَرَ إلى الذي حَاجَّ إبْراهيمَ في رَبِّه أَنْ آتاهُ اللهُ المُلكَ؟ إذْ قالَ إبراهيمُ: رَبّيَ الذي يُحيي ويُميتُ. قالَ: أنا أُحيي وأُميتُ. قالَ إبْراهيمُ: فإنّ اللهَ يأتي بالشَمْسِ مِنَ المَشْرِقِ، فَاتِ بها مِنَ المَغْرِبِ! فبُهِتَ الذي كَفَر﴾.
ونحن نقول: إن الله يسيّر هذا القمر وهذه الشمس وهذه النجوم الهائلة، فيقول الشيوعيون: نحن نسيّر الصاروخ والقمر الصناعي، فنقول: إن الله يسيّر قمرَكم مع سير الأرض فسيّروه بعكس سَير الأرض! إن الدلائل على وجود الله لا تُعَد ولا تُحصى:
وفي كل شيء له آية ... تدلّ على أنه واحدُ
فاسأل صاحبك: كيف وُجدَت هذه العجائب التي نرى طرفًا منها في الكيمياء وفي الفيزياء وفي الفلك وفي الطب؟ وأنا أعلم أنه سيقول إنها كانت بالمصادفة.
المصادفة؟ إن مَثَل من يقول بذلك كمَثَل رجلين كانا يمشيان في الصحراء فوجدا دارًا حولها حديقة فيها المقاعد والسّرر وثريات الكهرباء والساعات الطنّانة والبرّاد والغسّالة والرادّ والرائي (التلفزيون)، وعلى جدرانها أنواع النقوش الدقيقة. فعجبا منها، فقال أحدهما: لا بد أن بانيًا بناها وفَرَشها، فضحك الثاني منه وقال له: أنت رجعي تفكر بعقلية القرن الماضي، لا تعرف التقدمية ولا الرقيّ. قال: فما تقول أنت يا ذا الرقي والتقدمية؟ قال: إنه لم يَبنِها
1 / 17
أحدٌ ولكن جاءت بالطبيعة والمصادفة؟ قال: كيف؟
قال: كان في الجبل صخور فتحطمت على مر الزمان وتكسرت، ثم حملتها السيول فتراكم بعضها فوق بعض فصارت جدارًا. قال: والنقوش والأصباغ؟ قال: ذابت معادن ملوّنة وحملتها الرياح والأمطار فوضعتها على الجدران، وبمرور آلاف السنين تداخلت فكانت بالمصادفة هذه النقوش. قال: والساعة الطنانة؟ قال: قطع حديد مرّ عليها آلاف وآلاف من السنين، فتحطمت وكان منها قطع مستديرة ومستطيلة سقط بعضها فوق بعض، وأخذت بالمصادفة ملايين الأشكال حتى كان أحد أشكالها ساعة تمشي.
وأمثال هذا الهذيان! هذا مثال صغير جدًا لمن يقول إن هذا العالم بأسراره وعجائبه كان من غير خالق، مع أن كل ذرة فيه، نعم، الذرة الواحدة بأسرارها وعلومها تكفي لتكون الدليل على وجود هذا الخالق.
* * *
على أن وجود الله لا يحتاج إلى دليل، ولقد قيل لرابعة العدوية: إن فلانًا من العلماء أقام ألف دليل على وجود الله، فقالت: لو لم يكن عنده ألف شك لما أقام ألف دليل. قالوا: فما الدليل؟ قالت: إذا كان رجل يمشي في الصحراء وحده فسقط في بئر ولم يكن عنده من ينجيه، ماذا يقول؟ قالوا: يقول «يا الله»، قالت: ذاك هو الدليل!
إن الإيمان مستقر في أعماق كل قلب ولكنه يحتاج إلى هزة
1 / 18
شديدة تبديه وتظهره، لذلك كانت المصائب والأزمات سببًا لظهور الإيمان. وكل واحد منا إذا مرض مرضًا يئس منه الأطباء أو أشرف على الموت ذكر الله.
أنا رأيت الموت مرتين، مرة لمّا غرقت في بحر بيروت من ست سنين، ومرة لما مرضت من سنتين. كنت أسبح، أو أنا -على الأصحّ- أحاول تعلم السباحة ولا أحسن منها في الحقيقة شيئًا، وإذا أنا أحس فجأة أن رجلَيّ ليس تحتهما شيء وأني أغوص في الماء، وجعلت أبتلع ماء البحر فلا أستطيع أن أتنفس، وأريد الصياح مستنجدًا فلا يخرج صوتي من حلقي. ورأيتني في نصف دقيقة كأني ابتعدت عن هذه الدنيا مئة سنة، فلم أعد أذكر منها شيئًا، لا الأهل ولا المال ولا الجاه؛ لم يعد يهمّني إلا أمران أنا أتردد بينهما، الأمل في النجاة والخوف من الحساب. ونظرت فإذا كل ما كنت أَعُدّه لي لم يبقَ في يدي منه شيء، لم يأتِ معي في ساعة الموت زوجة ولا ولد ولا صديق، والمال الذي جمعته تركته لمن يرثني، والجاه الذي حصلته خلفته وراء ظهري، ونظرت في الكتب التي كتبتها والشهرة التي حصلتها والمناصب التي بلغتها فلم أجد معي من ذلك شيئًا (١).
في تلك الساعة يتيقّن الإنسان أنه لم يبقَ إلا حقيقةٌ واحدة يفكر فيها، هي أنه قادم على الله. إن الشدائد تذكّره بهذه الحقيقة التي كان نسيها، ولذلك خبّر الله ﷿ أن كفار قريش كانوا
_________
(١) انظر قصة غرق علي الطنطاوي في مقالة «في لجّ البحر»، وهي في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).
1 / 19
-على كفرهم وشركهم- إذا ركبوا في الفُلْك دَعَوا الله مخلصين له الدين، فلمّا نجّاهم إلى البر عادوا إلى كفرهم. ولذلك كان الملوك ورؤساء الدول أيام الحرب العامة الماضية يذكرون الله، وكانت الكنائس في بلاد الغرب تمتلئ دائمًا بالناس، فلما انتهت الحرب عادوا إلى لهوهم ونسيانهم.
* * *
وإذا كان صاحبك هذا الذي ينكر الله لا يريد أقوالنا وأقوال علمائنا، وكان من هؤلاء الذين استقر في نفوسهم تعظيم الغربيين فلا يعرفون الحق إلا بدمغة الغرب عليه، فإني آتيه برأي عالم غربي معروف هو دوركايم، الذي يرى أن وجود الله بديهية لا تحتاج إلى إثبات، وله في ذلك كتاب مشهور. بديهية مثل بديهية أن الذي هو هو، وأن الجزء أصغر من الكل. كيف تثبت أن الكتاب هو كتاب وليس الكتاب تفاحة مثلًا؟ وأن نصف رغيف أصغر من الرغيف؟ إنها بديهيات يقول بها كل إنسان في كل زمان وكل مكان فلا تحتاج إلى إثبات.
وكذلك وجود الله، عند دوركايم وعند كل عاقل. يقول دوركايم إن فكرة الإله ملازمة لكل إنسان لا يستطيع أن يتخلى عنها، ولكنه يكون أحيانًا صحيح الجسم مكفيّ المَؤونة فينساها، وربما وصل إلى معرفة الإله الحق أو توهّمه في شيء من الأشياء فأفاض عليه فكرة الإله فعبدها. والذي يعبد الصنم أو النار إنما يعبد الإله الذي في فكره والذي توهمه في هذا الصنم أو في هذه النار. وكان بنو حنيفة من العرب، يجمعون التمر ويجعلون منه صنمًا عظيمًا يعبدونه، فأصابهم مرة مجاعة فأكلوه، فهجاهم الشاعر
1 / 20
فقال: «أكلت حنيفةُ ربَّها»!
على أنها لم تعبده تمرًا ولا أكلته ربًا، وإنما أكلت التمر وعبدت الإله الذي في أفكارها. ولذلك قال القرآن على لسان قريش: ﴿ما نَعْبُدُهُم إلاّ لِيُقَرّبونا إلى الله زُلْفَى﴾.
* * *
وبعد يا أيها السائل، فإن من الثابت أن العقائد والطباع إنما تتكون في النفوس في مرحلة الصبا وأوائل الشباب، فمَن نشأ مؤمنًا في بيت مؤمن لا يمكن أن يذهب هذا الإيمانُ من نفسه حتى كأنْ لم يكُن، وإنّ صاحبك لا يزال في قلبه مؤمنًا وإن جحد اللهَ بلسانه، ولو أصابه مرض مُؤيِس أو خطرٌ قاصم لعاد ينادي: «يا الله».
ولقد كنت مرة أجادل مجنونًا من هؤلاء المجانين (من معشرٍ كفروا بالله تقليدًا) أقول له: ويلك خَفِ الله، فيقول: ما في إله! فلما ضايقته وعجز عن الحجة سبق لسانه فقال: والله ما في إله.
يحلف بالله على نفي وجود الله! فضحكت عليه وتركته.
* * *
1 / 21
الاستعداد ليوم المَعاد
حديث أذيع من دمشق سنة ١٩٥٩
يا أيها السامعون، إنكم تسمعون هذا الحديث ومنكم من يتهيأ ليذهب إلى سهرته، ومنكم من يعكف على قهوته ودَخينته، ومنكم من هو في خصام مع زوجته، ومنكم من يفكر في عمله أو في تجارته. يمرّ بكم ذكر الآخرة فتفكرون فيها لحظة واحدة ثم تنسونها، ينتقل بكم الرادّ من الموعظة إلى غيرها فتنتقلون حيث ينقلكم، فكأنكم ما سمعتم ذكرها.
إنكم كرَكْب طال عليه الأمد وامتدّ به المسير، فلم يعد يسأل: إلى أين المصير؟
لقد ضلّ به الطريق، فهو يَحُطّ الرحالَ كل عشية ويمشي كل صباح، لكنْ لا يدري إلى أين يمشي. وإذا نادى الدليلُ ليرشد الرَّكْبَ الضالّ ويهدي السَّفْرَ الحائر ضاع نداؤه الخافت في ضجة القافلة الصاخبة، التي غدا أكبر همها أن تستمتع بما حولها وأن تقطع باللهو الساعةَ التي هي فيها.
لقد شغلتكم مناظر الطريق عن غاية الطريق، واكتفيتم بمُتَع السفر عن التفكير بنهاية السفر.
1 / 23
وأنا مثلكم، ما أنا بخير منكم؛ كلنا في غفلة عن الآخرة. فهل يكون لنا من هذه المجالس مذكِّر بها؟ هل نخرج من رمضان ونحن أقرب إلى الله، أم يمرّ بنا كما مرّ من قبله رمضان ورمضان، وعشر وعشرون وثلاثون من شهور رمضان؟
لقد عرفت رمضان أول مرة في قلب الصيف، ثم رأيته قد دار حتى صار في قلب الشتاء، ثم عاد فصار في الصيف، ثم صار في الشتاء. يمرّ بالشتاء وبالصيف، ونمرّ نحن قومًا بعد قوم، نولد ونعيش ونموت، ورمضان يدور. لقد رأيت ثلاث دورات كل دورة في خمس عشرة سنة، مرّت كأنها يوم واحد. إني لأفكّر في رمضان الأول فأراه من وراء خمس وأربعين سنة كأنها كانت أمس. قد مرت الأيام ولم نحسّ بها، ولكنّا خسرناها من أعمارنا.
تأتي الإجازة الصيفية ثلاثة أشهر فنراها في أولها طويلة، فإذا هي قد مرّ منها أسبوع ما شعرت به، ويكون يوم الجمعة فلا تحسّ إلا وقد جاءت الجمعة الأخرى، ثم جاء أسبوع جديد، ثم مضى الشهر، ثم انصرمت العطلة ورجعَت المدرسة!
فنحن نخسر أعمارنا بمرور الزمان، وبخسارة العمر نخسر كل شيء، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿والعَصْرِ، إنّ الإنسانَ لَفي خُسر﴾. لقد فسّروا العصر تفسيرات كثيرة، ولكن هذا هو التفسير الذي كشفه الله لي: العصر هو الزمان.
ونحن حين نقسم بشيء نكون قد عظّمناه التعظيم المطلَق الذي هو روح العبادة، ولذلك لم يَجُز الحلف بغير الله لأن العبادة له وحده، أما قَسَم الله في القرآن بشيء فإنما يكون لتنبيه الناس إلى
1 / 24