Nur Wa Farasha
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
Genres
كيف استطاع شاعر الديوان أن يوحد بين الشرق والغرب وينسج منهما «العالم»، ثم يستوعب هذا العالم في عالمه الباطن ليزيده ثراء وعمقا، ويجدد له شبابه وإبداعه؟
لننظر في هذه الرباعية القصيرة من كتاب «الضيق» قبل أن نستطرد في الحديث:
من لم يستطع أن يقدم لنفسه الحساب «عما تم» في ثلاثة آلاف عام
فسيبقى جاهلا يتخبط في الظلام
ويعيش من يوم ليوم «يفترسه السراب».
16
إنه «الحساب» الذي ظل جوته يقدمه منذ صباه الباكر، ويتسلح به في كل يوم من أيام حياته الخصبة الجادة لكتابة هذا الديوان الشرقي-الغربي عندما آن أوانه وفرضته عليه الضرورات الخارجية والداخلية، بل لكتابة إنتاجه الضخم كله بمختلف أشكاله الأدبية والفكرية والعلمية. وقد أفضنا في الكلام عن جهوده الدائبة - منذ صباه الباكر حتى كهولته المتأخرة - في تحصيل المعرفة بالشرق من كل مظانها، وتجميع المواد التي ستنتظم فجأة وعلى غير توقع منه في بناء هذا الديوان، لا سيما بعد قراءته للترجمة الكاملة لديوان حافظ الشيرازي، ثم بعد ترجمته لنعمة الحب ل «مريانة» ومكابدته للوعة فراقه النهائي لها، بحيث كانت القصائد تنبثق منه كالمياه الصافية الدافئة من شلال لا يتوقف عن التدفق (وكان يصل عددها أحيانا في اليوم الواحد إلى ثلاثة أو أربعة!) وأخيرا كيف أقبل على التهام كل ما يصدر عن الشرق، والتقاط كل جديد والسؤال عن كل غريب لدى معارفه وأصدقائه من المستشرقين والمستعربين، وذلك عندما تفرغ للتجول في رحاب الشرق وكتابة تعليقاته وبحوثه التي ألحقها بالديوان دون أن يفقد نفسه أو يضيعها كما قال في القصيدة الأولى من كتاب الضيق وهي من أين أتيت بهذا؟ إن الشيء الرائع حقا هو أنه لم ينظر أبدا إلى أرقام هذا الحساب ولم يعتبر مادته الهائلة التي بدت كالبحر بغير شواطئ كأنها «معلومات» يزين بها شعره، أو زخارف يضفرها في مادته لتسحر القارئ وتدهشه أو «ليستعرضها» أمامه ويدل بها عليه (كما فعل بعض صغار الشعراء بعد ذلك في بلاده أو بعض الشعراء المجددين عندنا مع بداية حركة الشعر الحر أو شعر التفعيلة) لقد ظل موقفه من المأثورات الشرقية والغربية العديدة - التي انعكست عليه بظلالها وأسماء أصحابها والظروف التي أحاطت بها - هو موقف الإجلال والخشوع أمام كل ما انطوت عليه من حكمة وأصالة وتجارب واقعية أو متخيلة.
ولقد تقبلها كما هي عليه ولم يحاول أن يمسها أو «يغتصبها» لأغراضه الفنية، ولم يمارس عليها الفطنة والحيلة، ولم يهبط بها إلى مستوى الاستخدام الشخصي أو اليومي المعتاد، ولم يتلاعب بنيرانها وأنوارها ليطلق بها مهرجانا ملونا زائف البريق، ولم يختلق منها عملا فنيا مصطنعا لا يمكن في النهاية إلا أن يكون عملا متكلفا خاليا من نبض الحياة الصادقة. لقد استطاع بالخشوع المرح الصافي - إذا صح هذا القول! - أن يستوعبها في عالمه الباطني، شأنه في هذا شأن كل شاعر وفنان أصيل، فصارت حياة من حياته ونمت في داخله نموها الخاص ونضجت وأمكنه - حين دعته ضرورات الكتابة التي لا تنفصل عن ضرورات الحياة - أن يستدعيها ويستوحيها، أو يعبث بها ويداعبها، أو يرويها للمثل والاعتبار ومواجهة الأوغاد والحاقدين الصغار، أو يهيب بها لإثراء لحظته الحاضرة في السراء والضراء، دون أن يجد حرجا من اقتباس كلماتها الأصيلة اقتباسا حرفيا في كثير من الأحيان، ودون أن يؤثر ذلك في شيء على خصوصيته الفنية والأسلوبية، وخصائصه الشعورية والعقلية؛ لأنها قد صدرت عن شخصيته الموحدة الواثقة المتفوقة، بعد أن استوعبها كما قلت فأصبحت من مكونات عالمه الباطن لا مجرد «معلومات» أو «طرائف» وضع عليها يده أو وضعها في جرابه الثقافي (كما يفعل الصغار عندنا وعندهم كالحمير تحمل أسفارا تثقل على ظهورهم كما ترزح على ظهور تلاميذهم وقرائهم المظلومين).
علينا إذن ألا ننسى أن الديوان «شرقي-غربي» قبل كل شيء، مهما اكتشف القارئ الذكي المتعاطف بعد قراءته أو أثناءها أنه موجه «للإنسان» فيه أيا كان مكانه وزمانه - إن صاحبه يتجول فيه بأزياء مختلفة - كشاعر ألماني وتاجر شرقي، كمسيحي ومسلم، كتلميذ تعلم في مدارس الإغريق وفي معابد النار المقدسة للبارسيين من قدماء المجوس، كشقيق «لحافظ القرآن الكريم» ومريد لاسبينوزا ومذهبه في وحدة الوجود:
رائع هو الشرق
Unknown page