ذكر سيدي أني قطعت مكاتبته تناسيًا له وتهاونًا به وإعراضًا عنه، وجهلًا بما كان في يدي منه، وقد صدقته في الأولى، ولم أسلم له في الأخرى، أما المكاتبة فقد انقطعت، والمودة ما ضيعت، والعهد بمائه، وعلى صفائه، ولكن للأيام في قطع علائق الحبال، وأسباب الوصال، أفعالًا بعضها من ذنوب الإنسان، وبعضها من ذنوب الزمان، وقد أقررت التقصير، والتزمت تبعة الذنب بالمعاذير، فإن كنت أسأت حين قصرت، فقد أحسنت حين أقررت، وإن عققت لما لم أقم لمودة سيدي بعنايتها، ولم أرعها حق رعايتها، فقد أجملت لما وفرت عليه بسهمه الفضل، وخليت له في السبق الخصل، وبسطت لسانه بالعدل، فوضع قلمه كيف شاء من الملام، وركض على ما أراد من حلبة الكلام، فلولا أنه وجد بجنابي ترابًا لما تمرغ، ولولا أنني أجررته بإساءتي رسن البلاغة لما أبلغ.
وله استبطاء:
يا أطيبَ النَّاس ريقًا غير مختبر ... إلا شهادةَ أطرافِ المساويكِ
قد زرتنا مرةً في الدَّهرِ واحدةً ... عودي ولا تجعليها بيضة الدِّيكِ
زارني أيده الله نصف زورة، ثم هجرني مدة فترة، فليت شعري ما الذي أنكر من أحوالي، وما الذي سخط من أفعالي وأقوالي، فأقلع عنه، وأتوب منه، ما أحب يا سيدي أن تكون خفيف ركاب الملال، قصير خطوة الوصال، لا يدوم لإخوانه على حال، وهذا وهو بالأمس يعلم إخوانه كيف يرب الود، وكيف يحفظ العهد، وكيف يرعى الغيب، وكيف يراض على الوفاء القلب، وما أتهم عليه غير عيني، فإني قد أصبته بها، فأبعدته بسببها، فمن ألون وأنا المشكو الشاكي، وبم أتداوى وأنا المرمي الرامي، سقى الله ليالي لقيت فيها سيدي، فلقد كانت قليلة، إلا أنها كانت جليلة وقصيرة، لكن حسرات فقدها طويلة، وأظنني لم أشكر عليها الدهر فسلبنيها، ولم أعرف قدر النعمة فأدبني فيها (شعر):
قلبتُ لها ظهرَ الزَّمانِ وبطنه ... فلم ألق من أيامها عوضًا بعدُ
وإني لأخشى أن أتعلم من سيدي السلوة، وأن أقارضه الجفوة، فيعديني بدائه، ويغريني بقلة وفائه، فيجمع علي ألم الفراق، ويسلبني كرم التلاق، وإنما القلوب عيون تتراءى، ووجوه تتلاقى، وتجار تتبايع وتتشارى.
ومن شعره قوله:
ما أثقل الدهرَ على منْ ركبهْ ... حدَّثني عنهُ لسانُ التجربة
لا تحمدِ الدَّهر لشيءٍ سبَّبه ... فإنه لم يتعمد للهبه
وإنما أخطأ فيك مذهبه ... كالسَّيلِ إذ يسقي مكانًا خربه
والسُّمُّ يستشفي به من شربه
وكان رافضيًا غاليًا، في مرتبة الكفر عاليًا، أخبرني من رآه بنيسابور، وقد كظه الشراب فطلب فقاعًا فلم يجده فقال: لعن من قال
إذا أَعوزَ الفقَّاع لمّا طلبته ... هجوتُ عنيقًا والدَّلامَ ونعثلا
فإذا كان يهتف بهذه الجملة لغير علة، فكيف به مع تقريع العلل، وتوسيع الأمل، ممن يطابقه على كفره، ويوافقه على شره.
وكان أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني المعروف ببديع الزمان قد اشرقه بريقه، ووعر عليه السهل من طريقه، وسأطلع إليك فيما بعد إن شاء الله مما جرى بينهما قطعة، وألمع لك في أخبارهما بلمعة، فرماه الخوارزمي ببغض عليٍّ رضوان الله عليه، وأغرى به الطالبيين فقال البديع:
يقولونَ لي ما تحبُّ الوصيَّ؟ ... فقلت: الثرى بفم الكاذب
أحبُّ النبيَّ وآل النبيِّ ... وأختص آلي أبي طالب
وأعطي الصحابة حقَّ الولاء ... وأجري على سنن الواجب
فإن كان نصبًا ولاءُ الجميع ... فإني كما زعموا ناصبي
وإن كان رفضًا ولاء الوصيِّ ... فلا برح الرفض من جانبي
فلله أنتم وبهتانكم ... ولله من عجب عاجب
يرى الله سري إذا لم تروهُ ... فلمْ تحكمون على الغائبِ؟
فإن كنتمُ من ولاةِ الوصيِّ ... على العجب كنتُ على الغاربِ
أعزُّ النبيَّ وأصحابه ... فما المرءُ إلاَّ مع الصاحب
أيرجو الشَّفاعة من سبَّهمْ ... بل المثلُ السُّوء للضارب
حنانيكَ من طمع باردٍ ... ولبَّيكَ من أمل كاذب
يوقَّى المكاره قلب الجبانِ ... وفي الشُّبهان يدُ الحاطب
لفظة الوصي استعملها الشيعة بدعواهم فكثر بها نطق من سواهم.
وقال أبو بكر الخوارزمي:
1 / 12