على أية حال، لم يكن راشد من القراءين أو الشرائين المدمنين، وإن كان ملما بكثير من الكتب، وكان غنيا مدمنا للغنى، وإن كانت خديجة في آمال اليقظة وأحلام النوم ترجو أن يكون زوجها مثقفا يحب كورني وراسين أو المتنبي وشوقي على الأقل، إلا أن هذه الآمال وتلك الأحلام لم تكن شروطا أساسية في اختيار رجلها، فقد كانت ثقافتها تتيح لها قدرا من الذكاء تعرف به أنها هي لا تملك من حرية الاختيار القدر الكافي الذي يسمح لها أن تضع الشروط، ولو توفرت هذه الحرية؛ فما كانت لتجعلها تضع هذه الشروط. فهذه الآمال والأحلام لم تكن إلا خواطر تهفو إلى النفس أو تهفو إليها النفس، ولكن خديجة تعلم كل العلم أنها أمل لا يزيد، أو حلم مصيره المؤكد التيقظ على الحقيقة.
وهكذا أعفتني خديجة من الحيرة التي خشيت أن تتولاني أمامك في بداية الفصل، ولم توجه إلى أبيها إلا سؤالا واحدا: هل أنت راض عنه؟ - وأين أستطيع أن أجد مثله؟ - أمرك إذن.
لم تسأل كم عمره، فالمجتمع لم يكن قد أتاح بعد للفتاة أن تسأل عن عمر زوج المستقبل، وإذا كانت امتنعت أو منعتها التقاليد أن تسأل هذا السؤال الطبيعي المعقول، وهي أيضا لم تكن تحب ابن خالتها عزت، فالطرق إذن جميعها مغلقة دون أي أسئلة أخرى، بل لعلها لم تكن تحتقر أحدا في حياتها قدر احتقارها لهذا العزت، فهو فراغ تجسم في هيكل إنساني يعنى كل العناية بشاربه وشعر رأسه، ولكنه لا يبذل أقل عناية برأسه هذا من داخله، فإن رأيته رأيت تمثالا، وإن حادثته وجدت التمثال خيرا منه.
فأنا إذن لا أستطيع أن أقيم عقبة من أي نوع تمنع زواج خديجة من راشد، وتم الزواج.
الفصل الثالث
لو كان المتزوج أحدا آخر غير راشد، لكان من الطبيعي أن يكون شهر العسل في مصر، ولكن راشد يحب أن يذهب إلى أوروبا، ويحب أن يبهر زوجته بالحياة الباذخة التي يعيشها، والفتاة على ثقافتها في بواكير العمر ومطالع الحياة، فهي برعم يريده راشد أن يتفتح على يديه، وهو صاحب الخبرة الواسعة عن الورود التي لا تعرف الذبول، ولا يدركها ما يدرك الورود من شحوب.
يريدها امرأة كاملة المعالم يدعو إلى بيتها كبار الناس، فيبهرهم من بيته غنى وافر يصاحبه الذوق الرفيع، وهو يعلم منها أنها في بيت أبيها كانت تهتم بالكتاب، ولكنه أيضا كان يقدر أن التي تهتم بالكتاب تستطيع أن تهتم بكل شيء، وهو يريدها في حجرة نومه امرأة ناضجة خبيرة عالمة بما يرضيه، ويطمئن غرور الرجل فيه ونزوته في وقت معا.
وهو يريدها إذا ذهبت لمجتمع من النساء أوقعت في نفوسهن الحسرة والغيرة أو الإعجاب والإكبار، ويريد منها أن تكون أنموذجا للأناقة.
طراز عجيب راشد، فهو قد نال من التعليم المنتظم قدرا ربما اعتبره البعض ضئيلا، وخرج بعد ذلك إلى الحياة، فإذا هو يصاحب الحياة صحبة عميقة لصيقة، ويوغل فيها إيغالا رفيقا في بعض الأحيان، وفيه عنف شديد في بعض آخر من الأحيان، عرف الناس في كل متجه من متجهات الحياة، ودرس من القانون ما يعنيه من القانون، فإذا هو يفوق عتاة المحامين ومشاهيرهم، وضارب في بورصة الأوراق المالية والقطن فانسكب عليه المال يزيده غنى، وأصبح راشد شخصية مرموقة في المجتمع المصري تضطر الأنظار أن تلتفت إليه، فلم يكن التعليم المنتظم هو المصدر الوحيد للثقافة في ذلك الحين، بل إن المحامين كانوا يعملون بغير شهادة من الحقوق في ذلك الزمان. وقد اختار راشد من الثقافة ما يرى أنه يحتاج إليه؛ ولهذا لم يكن عجيبا أن يتقن الفرنسية، لا ليقرأ بها كورني وراسين، وإنما ليقرأ بها العقود وليضارب بها في البورصة، وليجتذب بها الأصدقاء من الفرنسيين، وتعلم الإنجليزية وأتقنها، ولكن شكسبير وملتن وهاردي وديكنز كانوا لا يعنون عنده شيئا إلا أسماء يرددها على مسمع الإنجليز الذين يتعرف عليهم.
قد كان نوع الثقافة التي يتمتع بها راشد من فصيلة أخرى بعيدة كل البعد عن تلك الثقافة التي أتقنتها خديجة، حتى لنستطيع القول في ثقة إنه من الطبيعي أن كلا منهما كان يعتبر الآخر غير مثقف.
Unknown page