لم يكن يدري شيئا دائما ، كان يأنس إلى جميلة وكان يألفها، وكان يحب أن تأتي، ويحب أن يلعب معها طفلين، ثم أصبح يحب أن يحكي ما يجري له في المدرسة، ثم أصبح يحب، حين باكرته الرجولة ونهدت هي إلى الأنوثة، أن يحادثها عن كل شيء، ويستمع منها عن كل شيء. وكانت تحس أن ما يقوله لها لا يقوله لسواها، وكانت تعرف أن ما تقوله هي له لا تقوله لسواه، على براءة ما يقول وما تقول.
وحين تزوجا كانت بينهما هذه الألفة الحنون التي تكون بين الزوجين، ولم تكن الناحية المالية تشكل لهما أي عقبة؛ فقد استعاد راشد ثروته، وكتبها جميعا باسم أسامة، ولو أن هذا لم يكن يعني شيئا بالنسبة لأسامة في حياة أبيه؛ فقد كان راشد هو الذي يتصرف في كل دخله.
وقد تزوج أسامة، وراشد ما زال على قيد الحياة، وكان راشد سعيدا بهذه الزيجة أشد السعادة، كما سعدت بها أيضا خديجة. وحين استقر الزوجان الصغيران بالمنزل تنازلت خديجة عن سيادة البيت، وجعلت لجميلة اليد الطولى والوحيدة في إدارة البيت، وحلا لها أن تأخذ المكان الذي أخذته منها هانم أفندي حين تزوجت هي راشد، وسعدت خديجة بمكانها هذا الجديد، وقد استطاعت جميلة في ذكاء أن تجعل خديجة دائما في مكانة عليا، أوامرها مقدسة وراحتها موفورة قبل أن تتوافر لزوجها أو حتى لحميها.
وحين مات راشد، كان أسامة قد عمل في المحاماة، ووجد نفسه في مهنته، فاستطاع أن يكون حكيما في تصرفاته المالية؛ يعيش عيشة كريمة، ولكنها بعيدة عن السفه.
وكان من الطبيعي أن تختلف خديجة وأسامة في أيام زواجهما الأولى، ولم يكن أسامة يدهش أن يجد أباه وأمه يقفان إلى جانب زوجته، حتى وإن لم تكن محقة، فقد وجدا عندها طاعة الأبناء وحبهم هذه الطاعة، وذلك الحب الذي يصبح موضع إكبار إن جاء من غير الأبناء.
وحين مات راشد، ظلت جميلة التي أصبحت ست البيت، فعلا لا تفضلا، أكثر عناية بحماتها، وأكثر رعاية لها وحدبا عليها.
وحين تتابعت قوانين الإصلاح الزراعي ابتلعت الغالبية العظمى من ثروة فهمي عبد الحميد، فلما مات كان ما تركه من مال يكاد لا يقوم بشأن أولاده، فكان أسامة يعوضهم عما أصابهم كلما سنحت فرصة لا تجرح كرامتهم، وأصبح يحث زوجته أن تعطي أخويها كل ما يحتاجان إليه حتى لا يحسا بعنت الحياة. إلا أن الأخوين وجدا أن الأمر لا يمكن أن يستمر على هذا المنوال، فكتب كل منهما توكيلا لأسامة ليدير ما بقي من أرضهما، واتجه الأكبر جميل إلى الكويت، واتجه الأصغر صبحي إلى السعودية، ومرت الحياة بالزوجين أسامة وجميلة طيبة، لا يشوبها إلا ما يشوب البيوت السعيدة من خلافات يمحوها الحب، أو شجار يعصف به الحنان.
وأنجبا راشد وفهمي، وراحت الحياة تكرر نفسها مع الطفلين، ليدرجا في طريق درج فيه أبواهما من قبل قد تختلف تفاصيله، ولكن المعالم الأساسية فيه واحدة.
وحين كسدت سوق المحاماة المدنية، وفكر أسامة أن يتجه، كما اتجه كثير من غيره، إلى البلاد العربية، جاءته أم مرسيلة لتغير متجه حياته جميعا.
فمنذ ذلك اليوم الذي قصدت فيه إلى مكتبه، أصبح أسامة من أكبر المحامين في القضايا السياسية، ولم تكن هذه القضايا وحدها تكفي مكتبه، ولكن ذيوع اسمه فيها جعله بعيد الصيت في القضايا الجنائية، وانتعش المكتب واستقر أسامة، وأصبحت الحياة أمامه هانئة سعيدة، ومن أسعد من رجل بارع في عمله يعترف الجميع ببراعته؟
Unknown page