وإن كان المجتمع المهشم قد أدرك معنى الصالون، ومعنى الأبيوسون والشينوا، ومعنى الرفق في الغزل، والكلمة تهمس ولا تقذف، واحتساء الخمر بحذر حتى لا يفلت الزمام، إلا قلة هزيلة منهم كانوا مرضى. وإن كان المجتمع الذي هشمته الثورة يعرف معنى الموسيقى الحالمة أو الصاخبة، ويعرف كيف يمسك بأدوات الطعام الفضية أو الكريستوفل أو المستجلبة من شيفيلد وميبل أندوب ويجيلها على الأطباق السفرة أو الليموج، فلا تسمع لها إلا همسا كهمس المحبين.
فإن المجتمع الجديد يعرف كيف يشتري أغلى الأشياء، ويقذف بها في صالوناته، لا يفكر في مواءمة بعضها لبعض، فهذان كرسيان حديثان في غاية الغلاء موضوعان إلى جانب أريكة أبيسون، وهذه منضدة من النوع الحديث المرتفع الثمن إلى جانب كرسي مرسوم على نمط لويس السادس عشر، والخمر في المجتمع الجديد أنهار، والشاربون يعبون عبا ويعلون وينهلون ولا يحتسون؛ فهم يريدون أن يسكروا لا أن يشربوا، والمجتمع الجديد يخصص حجرات للمخدر ذي الدخان أو المخدر الذي يبتلع، فالسكر عندهم هو الغاية، وهم يملكون إليه الوسيلة .
والأطباق غالية الثمن، والأدوات ما زالت فضية، ولكن إذا مد الطعام نشبت أمامك معركة بين أدوات الطعام والأطباق.
وعلى الحالين المجلات عندنا تهتم بهذا المجتمع، كانت تهتم بالمجتمع الراحل، وهي اليوم تهتم بالمجتمع الذي أخذ مكانه.
وفي أي مجتمع تسطع ناهد فكري لتكون نجمة كل المجلات، فإذا هي في بعض عام أعظم شهرة من كواكب السينما جميعا.
وحين أقبل الإصلاح الزراعي كان أبوها قد انتقل إلى العالم الآخر، بعد أن جعل ناهد مالكة لكل ما يملك، وحين أصبح المجتمع الجديد هو المجتمع المعتمد المعترف به راح مجتمع ناهد القديم يلملم أذياله ويتخفى في التياع، ويبتعد عن أضواء آلات التصوير بل عن أضواء الشمس إذا استطاع.
والعجيب أن ناهد استطاعت في مقدرة فائقة أن تغرب من المجتمع القديم لتشرق في المجتمع الجديد، وإن كانت في المجتمع القديم شمسا من ثلاث شموس أو شمسين فهي في هذا المجتمع شمسه الرفيعة المتألقة التي تنفرد بسمائه.
تلك هي قصة ناهد مع المجتمعين، ماذا عن ناهد في بيت أبيها، ذلك الرجل الجاد وأمها تلك السيدة الودود التي لا تعرف إلا البيت والصلاة؟
كان أمر الوالدين عجبا، حاولا بكل ما يملكان من جهد أن يقفا بين ابنتهما وبين الطريق الذي اختارته، ولكنها كانت كالفرس الجموح، وحين طالت المناقشات بينها وبين أبويها وأوشكت أن تضيق بها وجدت وسيلتها من قريب.
كان وجدي موجودا في كل دعوة تلبيها ناهد، وكان جماله الواضح يجعله دائما ملتقى اهتمام، وكان وجدي قد أعد نفسه لهذا المجتمع، فعرف كيف يكون سهلا في حديثه، يسير به على سطح الأمور ولا يغوص في أعماقها، إن دخل في نقاش استطاع أن يقنع كل من يحادثه أنه صاحب الحق الأصيل، وهكذا كان يترك الآراء تشتجر وتتشابك وهو يقف منها موقف المؤيد لكل رأي، فقد أدرك من المجتمعات التي هيأتها أمه أن من لا رأي له هو أقرب الموجودين إلى قلوب الحاضرين.
Unknown page