أبقاك الله كثابةَ انتفاع ونورًا بأعلى يَفَاع، ومتضعًا على علو ارتفاع، ترى الوِتْرَ في إشفاع، وتقابل الوهم بطرادٍ من الحقيقة ودفاع. إن حثَّت على لقاء الأعلام شهرتهم فلك الشهرة، وأنت العلم والشهاب الذي تُجلَى به الظُّلَم. ورباط جدِّكَ بالمغرب الركن المستلم، فإلى أين يذهب عن جنابك الذاهب، وقد وضحت المذاهب، والله المانع والواهب. وإني من لدن اجتليت غرّتك التي تلوح عليها سيما الولاية إرثًا واكتسابًا وانتماء إلى جناب الله وانتسابًا جزاء من ربك عطاء حسابًا؛ أؤمل التوسل والتقرب وأخطبُ منك الأنس الذي أنْسى به التغرب إلى أن تَهَيّأ بفضل الله وتيسر، وتبين مجمل الشوق وتَفَسَّر، وشتان ما بين من أثرى وأعسر، فأنا الآن والحمد لله قد حططتُ بمثوى الولاية رحلي، وعَثَرَتْ بأزهار أسرار الأبرار نَحْلي، وأخذت من الدهر ذَحْلي، وحللت من رباط الشيخ أبي محمد بالحرم الأمين، وظفرت من ودّ حافده بالذخر الثمين فيا ليت قومي يعلمون ما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين. عَرَّفتك أبقاك الله بقصدي وحركة رَصْدي لتعلم أن هذه الوجهة لقاؤك أقوى دواعيها، وأنجح مساعيها، وبركة الشيخ نفع الله به تلاحظها وتراعيها، فما اسْتَبْعَدَ المرام من قَصَد الكرام، وما فقد الإيناس من أمَّل الناس، وتَنَخَّل الأفراد، وتخطى الأجناس، وترك للنص القياس، وَتَمَلَّك المِنَن لمَّا أحرز الرياس، وسيدي بعد وما يظهر له من تأنيس غُرْبَة وإزاحة كُرْبَة، ورعْي وسيلة وقُرْبَة، وإتحاف باجتلاء حمى مَزُورٍ وتُربَة، والله ﷿ يبقيه مقصودًا على بعد المكان، مُرَجِّحًا في الفضل طَرَفِ الإمكان مطمئن القلب بذكر الله رطب اللسان؛ مُدْرَجًا في الوصولِ لسِنَام الإسلام والإيمان والإحسان.
واضْطَبَن من ابن عمه الخطيب بالبلدة، شاحبًا صامتًا مهمهمًا بذِكْر، مُنتبذًا عند الأكل إشعارًا بالإمساك، أومأ مع ذلك، زعموا، إلى دنيا عريضة كابن عمه وشُحٍّ مطاع، فرحب الكل وأطرأ اللقاء. وجئنا إلى رباط الشيخ أبي محمد وهو من المشاهد الحافلة والمآلف الجامعة. فضاؤه رَحْبٌ مرصوف بحجر الكذان يدور به، سقيف نظيف ذو أبواب تفضي إلى زوايا ومدافن، وبطوله عن يمين الوالج مسجد الصلاة وتربة الشيخ في بيت عُمِدَ سَمْكُه لانفساح عرضه بقائم من الخشب، وقبر الشيخ قبليه عن يمين الداخل إليه، قد اتخذ له حوض من الخشب من الرفيع أكسبته الأيام دُهْمَسه، فتخاله منحوتًا من الألُوَة قد امَّلَسَت من الاستلام حافته، وسُوي من نظيف الرمل سَبَجُه، وبازائه قبور شبيهة به في الشكل لولده وحفدته، تتخللها الحُصر النظيفة، فقضي الغرض من القراءة والدعاء، وحضر الفقهاء والطلبة والصوفية وقد استعرضهم أبو العباس طائفتين ورتبهم للسلام علينا غابطًا إياهم مُطْريًا مؤنسًا، فدعوا وأجملوا، وعرض علينا طعام الشيخ أبي محمد ﵀، وقري ضيفه الجاري عليه من بيت المال حافده المذكور مُحكّضمًا في قُلِّه وكُثْرِه، فجلب خوان بهي اشتمل قوره على كل غضارة أثيرة لا تتخلف عن طعام ولا شراب.
وانصرفنا إلى المحل المعين للنزول. وهذا البلد فسيح طيب الهواء كريم التربة خصيب الجناب. وأهله أولو خَيْريَّة وجنوح إلى الصلاح؛ وهو لَبِنَةُ التمام للمسَوَّرات بالمغرب، ليس وراءها مدينة جامعة، ولا محلَّةٌ مسورة، ودونه أمم تتصل بالسوس الأقصى إلى تخوم الحبشة من وراء الصحراء.
ومن ساعة إلمامنا انزوى عنا الشيخ أبو العباس صردوك، لِلَهْوِه، واشتغل زعموا بعقد نكاح على بكر يلاعبها وتلاعبه، لم يَقْسم الله للضيف من مأدبتنا بحظ، وشحَّ بإيناسه وتردده، فَحَدَسْنا أنّ ذلك إبقاءٌ على نفسه لما تُكْشِفُ المجالسة من حال يَمُدُّ لها أبو حنيفة رجلَه. وهممت أثناء طريقي أن أخاطبه بسعوط افتتحته بأبيات مطلعها:
إذا لم تهذِّبك الأبوةُ والحج ... فأنت على فَوْتِ الجَنَي ثمرٌ فَجٌّ
ثم تصدقتُ على حِلْم الشيخ بجهله، وحَرَّمت صيد آبِدِه في حرم مَحَلِّه، أصلحنا الله وإياه.
1 / 10