تمهيد
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
تمهيد
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
نبذة تاريخية في الحرف الدمشقية
نبذة تاريخية في الحرف الدمشقية
تأليف
إلياس عبده قدسي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن البحث الذي أقدمت اليوم على الخوض فيه أمام محفلكم الموقر، هو نبذة تأريخية علمية عن الصنائع، أو ما يقال له: «الحرف» في مدينة دمشق، والذي بعثني على ذلك هو أنني فزت بشرف معرفة العالم العلامة، والبحر الفهامة الدكتور كارلو لندبرج الأسوجي الشهير؛ إذ سافرنا معا من بيروت إلى دمشق، وكان آتيا من مملكة هولانده بقصد جمع لغة العامة في دمشق وضواحيها، ولما علمت بغيته التي من أجلها تكلف أن يكابد مشقات السفر، ويحتمل مصارفه عرضت نفسي عليه ألا يؤخر عني التعب في كل ما يحتاج إليه للوصول إلى بغيته، وعرضت عليه أيضا ما كنت آخذا به من جمع الأصول المشتركة بين اللغتين العربية واليونانية، ورجوته أن يعين لي علاوة على ذلك عملا على نسبة قدرتي، أجعله باكورة أقدمها لمحفلكم الموقر، ومقدمة لما نويت الانعكاف عليه من الأشغال والدروس في مثل التي يجد وراءها هذا الهمام.
فأشار علي أن أضع مجموعة في مناداة البياعين لترويج مبيعاتهم من الفواكه والخضراوات، ثم قال لي أن أحرر نبذة في الحرف الموجودة في دمشق؛ آملا أن أعثر فيما أحرره على بعض الكلمات والاصطلاحات التي يقصدها، فنظرت بادئ بدء إلى هذين المبحثين نظر المزدري، ولكن لدى الفحص، وجدت أن مبحث المناداة جدير بكل الالتفات؛ لأنه يدل: أولا: على أجل الخواص التي يعتقد الشعب العربي أنها موجودة في تلك الفواكه والخضروات المتنوعة. ثانيا: على المحل الأصلي الذي جلب منه صنف الفاكهة أو الخضرة المنادى عليه. ثالثا: على محل اشتهار كل قرية أو بقعة من جوار دمشق، أو من سوريا بصنف من الأصناف. رابعا: على كيفية تعبير شعب دمشق في مناداته، وهذه طريقة تختلف جدا عن التي في بيروت وفي مصر وفي حلب ... إلخ، وجميعها تدخل في مطالب التاريخ والعلم واللغة، وقد كنت باشرت بهذه المجموعة، ثم أرجأتها فموعدي بها إلى فرصة ثانية.
وأما المبحث الثاني المختص بالحرف الدمشقية فهو من أوجه عديدة أعم وأفضل من ذاك؛ ولهذا السبب باشرت به حالا، وسيأتي الكلام عنه بوجه مختصر؛ إذ إنه لا يمكن لمثلي استيفاؤه في نبذة وجيزة كهذه.
تمهيد
إن من تفحص أحوال الحرف الدمشقية ونظر إليها نظر المنتقد المدقق، يرى أنها في تأخير عظيم يوجب الأسف من جهة، وفي إتقان يوجب الدهشة من جهة أخرى؛ أما التأخير فلأن عموم الصنائع والفنون فقدت ما كانت عليه من الرونق في الأزمنة الغابرة، وهي بعيدة أن تقاس على ما هي عليه الآن صنائع أوروبا وأميريكا، بل بعض ما اشتهرت به هذه المدينة القديمة فقد مطلقا كعمل السيوف الدمشقية والقيشاني والظاهري
1 ... إلخ. وأسباب ذلك عديدة، منها سياسية، ومنها تجارية، وأعظمها تأخير العلم في هذه الديار، وتلك مسألة لا يحسن التعرض للكلام عليها في مثل هذا المقام.
وأما الإتقان الذي يوجب الدهشة؛ فهو كمال الانتظام وحسن الترتيب اللذان لم يزالا محفوظين من أزمنة قديمة إلى يومنا هذا بين عملة اليدين من كل نوع وملة. وهذا الانتظام والترتيب وإن كان حصل له من بواعث الدين ما قلب مقصده إلى غير الغاية المرادة في الأصل - كما يحدث لأكثر الجمعيات - إنما لم يطرأ عليه تغيير في جوهره. فالحرف لها رئيس أعظم وهو شيخ المشايخ، ورؤساء ثانويون وهم مشايخ الحرف، ومعلمون وصناع ومبتدئون، أو خدام في كل حرفة على حدتها. ولهم كلام ورموز تصنع بالأيدي والأرجل - ولو لم نقف على تفسير معانيها - ولهم في كل مسألة رسوم لا يحيدون عنها. ولهم ارتسام يسمونه «الشد» أو «التمليح» يجرونه للمبتدئ عند انتقاله من درجته إلى درجة صانع، وآخر عند انتقاله من درجة صانع إلى درجة معلم، ولهم اجتماعات وأسرار وقصاصات وانتخابات ومآدب. وبوجه الإجمال كأنه بهم جمعية الفعلة الأحرار
Francs-maçons
ومعلمهم الأعظم ومحترموهم ومعلموهم ورفقاؤهم ومبتدئوهم ... إلخ ، سيأتي الكلام بالتفصيل على كل هذه بقدر الإمكان. وقد قسمته إلى فصول، ذكرت فيها ما تيسر لي الوقوف عليه فيما خص شيخ المشايخ والنقيب، وشيخ الحرفة والشاويش والمعلمين والصناع وشدهم والمكافأة والقصاص ... إلخ.
الفصل الأول
في شيخ المشايخ
هو السيد الشيخ الحاج أحمد أفندي منجك، أرشد عايلة بني عجلان، من أشراف دمشق، ومن السلالة النبوية، من السلسلة الحسينية. لقبت بعض عايلته بمنجك؛ نسبة لإحدى جدات العايلة التي كانت من بلاد التتر. وأما سائر العايلة فلم يزل محافظا على تسميته بيت العجلاني، وهو يسكن الآن في بيته المعروف بالقرب من الجامع الأموي، ويعيش من إيراد أوقافه في ضواحي دمشق. ولبعض من أفراد العايلة مداخلات في خدامات الحكومة المحلية، وهم حائزون على اعتبار عظيم، ولا سيما السيد الشيخ محمد أفندي العجلاني أحد أعضاء مجلس استئناف الولاية.
أما أحمد أفندي منجك فهو على جانب عظيم من التقى الإسلامي، ويعرف فرض الكفاية من الفقه الديني، ولكنه ليس على شيء كثير من العلوم الرياضية، وبأقل من ذلك على صنعة أو حرفة. وهو طويل القامة، ذو منظر وقور، وقد كلمته فكان كلامه بسيطا لا يدل على تصنع ولا عجرفة.
هذا هو الذي كانت أسلافه تعين المشايخ لأكثر من مئتي حرفة، وتأمر وتنهى وتقاص وتفصل كل مسألة، وتحسم كل مشكلة لديهم بتقاضي الجميع، وهو الشيخ عليهم الآمر الأعلى، والحاكم الأعظم، والرئيس الأسمى الذي لا ينتخب، ولا يعزل، ولا يبدل، ولا يخلعه من منصبه إلا الموت أو الاستقالة.
قلت لا ينتخب لأن هذه الوظيفة مختصة بعايلة العجلاني، كما أن نقابة الأشراف، ومشيخة الطرق توارث فيهم من أيام الحضرة النبوية إلى يومنا هذا من السلف إلى الخلف، يتولاها الأكبر سنا من أعضاء العايلة. وقد حدث لشيخ المشايخ الحالي أن أخاه عطا أفندي الذي كان تبايع معه على المشيخة قبل وفاة والدهما، نازعه عليها بدعوى أنه أفقه وأقدر منه على ضبط أمورها، وإرجاعها إلى رونقها الأصلي. أما هو فاضطر أن يذهب إلى عاصمة السلطنة حتى استحصل من السلطان على فرمان عال مثبت لحقوقه في مشيخة المشايخ؛ إذ إنه أكبر سنا من أخيه، وليس به ما يدل على عدم أهليته أن يتولى هذا المنصب فتولاه، ولم يزل فيه إلى الآن.
1
أما السلطة التي ذكرتها لشيخ المشايخ، فكانت فيما مضى عظيمة جدا قبل أن تمكنت سيادة الباب العالي على سوريا حين كان رؤساء المسلمين وأشرافهم لا يقرون له إلا باسم السيادة، وكانوا هم الحكام الحقيقيون. فكان لشيخ المشايخ السلطة والقدرة أن يلقي من تعدى من المشايخ، أو من سائر أهل الحرف في السجن، وأن يكبله بالقيود، وأن يضربه بالعصي. أما الآن فمن عهد السلطان عبد المجيد ومن بعده؛ حيث أعطيت التنظيمات الخيرية، قل تسلط شيخ المشايخ إلى حد غير متناه حتى يسوغ لنا القول إنه غدا محصورا بالتصديق على تنصيب شيخ حرفة من الحرف بعد أن ينتخبه معلموها. ويعد الآن هذا التصديق غير كاف؛ لأنه حينئذ يجتهد المنتخب، ومريدوه بأن يحصل على البيولوردي (الأمر)، وختم الشيخة من قبل مجلس البلدية، بل كثيرون يكتفون ببيولوردي الحكومة، وأخذ الختم غير مبالين بالتصديق من طرف شيخ المشايخ على انتخابهم، ولا سيما الغير المسلمين منهم؛ لأنهم كانوا يدفعون رسوم الشيخة، ويحلفون يمين الصداقة لكنهم لم يعطوا العهود كالمسلمين؛ ولذا عند انتشار التنظيمات الخيرية رأوا ذواتهم منفكين مما كانوا يجبرون عليه وبعض منهم لم يشدوا قط. والذين لم يزالوا يحرصون على تصديق الشيخ؛ فيفعلون ذلك لاعتقادهم بسريرة شيخ المشايخ سليل النبي
صلى الله عليه وسلم
وببركاته التي تجلب الخيرات وتدرأ المضرات. ولذا تراهم إلى الآن يرضخون لأوامره، ويلتجئون إليه عند الحاجة.
الفصل الثاني
في النقيب
لما كان لا يليق بمقام شيخ المشايخ، بل لو أراد، لم يكن بوسعه أن يكون حاضرا في الاجتماعات العمومية التي تضطر كل حرفة لعقدها لشد صانع أو معلم، أو للمذاكرة في شئونها، فلشيخ المشايخ أن يبعث من قبله رسلا يدعون النقباء، يحضرون الاجتماعات، ويتلون الأدعية ويجرون كل شيء كما لو كان شيخ المشايخ حاضرا بنفسه. وكان النقباء فيما مضى أكثر من واحد حين كانت إدارة الحرف محصورة في يد الشيخ الأعظم. أما الآن فقد قلت أهميته جدا فلا يوجد له إلا نقيب واحد، وهو السيد الشيخ أنيس الجزايري القماقمي، وهو من الأشراف ومن السلالة النبوية، إنما لا تستلزم هذه الوظيفة أن يكون صاحبها شريفا، ولا هي موروثة في عايلته، بل للشيخ الحق أن يقيم من شاءه نقيبا وأن يعزله بحسب إرادته، فالنقيب الحالي نصب منذ إحدى عشرة سنة، وهو عالم بكل أحوال الحرف والتراتيب أكثر من الشيخ نفسه.
الفصل الثالث
في شيخ الحرفة
لكل حرفة شيخ ينتخبه شيوخ الكار ممن اشتهر بحسن الأخلاق والطوية، وامتاز بمعرفة أصول الحرفة. ولا يشترط به كونه أكبرهم سنا، أو كونه من الشيوخ فعلا؛ فيجوز أن يكون حديث السن إلى حد معلوم، فإن شيخ الحرفة القفيلاتية سنه من 25 إلى 30 سنة، وشيخ الجليلاتية من 20 إلى 27، والكمرجية 20 تقريبا. والقاعدة بذلك هي كما ذكرت أعلاه بأن يكون حاويا حسن الصفات، وعنده إلمام بأمور الكار، وأن يكون كما قيل لي «مدفوعا» بين الناس، «وموجها» عند أرباب الحكومة؛ (أي ذا وجاهة)، ومن المحتمل أنه لا يكون هكذا فعلا، ويكفيه أنه حاز على هذا الصيت عند أهل حرفته بنجاحه يوما ما بحل مشكلة.
وفي بعض الحرف تنتقل المشيخة بالإرث من الأب للابن، وهذا لا يخالف قاعدة الانتخاب؛ لأنه على كل لا يكون إلا بسماح من شيوخ الكار مراعاة لخدامات الشيخ المستوفية. وأما إذا رئي انتخاب غيره أكثر موافقة؛ فيجرون الانتخاب بدون مراجعة. أما مدة الشيخة فغير محدودة، فيلبث الشيخ طول حياته شيخا ما لم يجر منه ما يوجب إبداله بسواه.
ومن حقوق الشيخ أن يعقد مجالس لصالح الحرفة يترأسها، ويسهر على حفظ ارتباط الكار، ويقاص من أتى بإخلال في حق الصنعة، وكثيرا ما يكون مكلفا لإيجاد شغل للفعلة، فيوصي بهم المعلمين. وله وحده الحق أن يشد بالكار المبتدئين الماهرين، فيصيرون صناعا أو معلمين. وله بعض الإيرادات - سيأتي ذكرها - ومعه تكون مخابرة الحكومة فيما يتعلق بحرفته.
وانتخابه يكون على الصورة الآتية: عندما يفرغ مركز الشيخة من الشيخ يجتمع شيوخ الكار ويعينون خلافه بالمذاكرة والاستحسان، ولا يجرون بذلك على أكثرية الأصوات بل باتفاق الآراء، وقد استقصيت جدا؛ لأعلم هل أنهم كانوا يراعون في الزمن السابق أكثرية الأصوات أم لا؟ فلم أقف على حقيقة ما من هذا القبيل؛ لأن الشيوخ إما أن يتفقوا على تعيين أحدهم وحينئذ لا خلاف، أو أن يختلفوا فمرجع الأمر إذ ذاك لشيخ المشايخ الذي يعين أحد المرشحين.
1
أما التصديق عليه من شيخ المشايخ فيتم هكذا: يذهب أهل الحرفة من الشيوخ والمعلمين، وبعض الصناع المشدودين بشيخهم الجديد إلى شيخ المشايخ، فيدخلون عليه ويقولون: «إننا قد عينا فلانا شيخا علينا»، فيأخذ شيخ المشايخ بأن يتلو عليه بعض آيات قرآنية، ثم يقدم له النصائح اللازمة لإدارة حرفته بالعدل والاستقامة، والسهر على صالحها، ثم يسلمه العهد، وبعد ذلك يقال عن شيخ الحرفة الجديد إنه قد دخل على بساط الشيخ؛ أي إنه فاز بالتصديق على مشيخته من لدن شيخ المشايخ.
وفي واقع الأمر عند التصديق يمد أمام الشيخ بساط أخضر تذكارا ببساط النبي
صلى الله عليه وسلم ، وعليه يسلم العهد إلى شيخ الحرفة الجديد أمام الحضور بصوت منخفض.
تعذرت علي أولا معرفة هذا العهد وكيفية إعطائه، لكنه بلغني فيما بعد أن ما هو إلا نفس العهد الذي يؤخذ على الصانع حين شده، وسيأتيك بيانه.
الفصل الرابع
في الشاويش أو الجاويش
كما أن لكل حرفة شيخا، كذلك لكل حرفة شاويش، ونسبته للشيخ كنسبة النقيب إلى شيخ المشايخ، والفرق بينهما هو أن ليس للشيخ وحده أن ينتخب الشاويش، بل الكار يستحسنه إذا ما قلنا ينتخبه. وليس للشاويش حق ولا سلطة قضائية على أهل حرفته، بل هو رسول الشيخ ومتمم أوامره، فهو يدعو بإذن الرئيس شيوخ الحرفة وسائر أهلها للاجتماع، ويكلفهم لحضور الشد والولائم، ويبلغ الجزاء لمن حكم عليه الشيخ بشيء.
ومما فهمته عنه أنه يجنح على الغالب للصناع أكثر مما يميل لسواهم من أهل الكار؛ فإنه يعد ذاته منهم، حتى إنه عند الثورات التي تحدث من الفعلة على المعلمين بطلب تزييد الأجرة - ويعبرون عنها بقولهم «الكار قالع»؛ أي ثائر - هو الذي يطوف عليهم ويحثهم على الثبات لنوال المقصود.
وربما ظن أحد أن وظيفة الشاويش مستحدثة بسبب أن هذه التسمية غريبة عن العربية وفارسية الأصل، ولكن هذا الظن غير صحيح، فإن وظيفة الشاويش قديمة جدا، وأعتقد أنه كان له في الأصل تسمية غير هذه لم أقف عليها، وأنه حدث بها ما حدث على تسمية المحظر - وصحيحها المحظر من حظر عليه: وضعه في السجن، أو المحضر من أحضره أمام الشرع - في المحاكم الشرعية، فقد جرى الآن الاصطلاح بتسميته مباشرا في المحاكم النظامية، فإذا ألغيت يوما المحاكم الشرعية تبقى تسمية المباشر جارية، وتندثر تلك لا محالة من ذاكرة الناس.
الفصل الخامس
في المبتدئ
إنني بعد أن سردت بعبارات وجيزة ما كان من أمر المترئسين في إدارة الحرف، بقي علي أن أذكر ما علمته بحق المرءوسين أو الفعلة، وهذا هو القسم الأكثر فكاهة في هذه الرسالة، لكنني سأجري به بعكس ما جريت عليه أولا؛ أي إني سآتي على ذكر المبتدئ والصانع والمعلم وما يتعلق بهم؛ لنرى كيف يرتقي المجتهد في سلم التقدم في حرفته. أما بخصوص المبتدئ فليس عندي أن أذكر إلا شيئا يسيرا وهو أن المبتدئ أو الأجير؛ هو الولد الحديث السن الداخل مجردا إلى الحرفة إما لكي يحترف بحرفة أو ليمتلك بيده ما يصون مستقبله من العوز والفاقة.
فيبقى المبتدئ عدة سنين بلا معاش ولا أجرة، ويكتفي أهله بتعليل أنفسهم أنه ساع بأخذ الصنعة عن أستاذه، ومنهم من يرتب له جمعية - أي أجرة تدفع له كل أسبوع - متناسبة لمهارته، لكنه يلبث مسمى أجيرا إلى أن يدخل في سن الرجولية، أو يصل في صنعته إلى حد الإتقان فيدعى صانعا، ولو لم يشد بالكار بعد. أما أجرته فتبقى مخفوضة نوعا، ولا يسمح له أن يفتح محلا وحده لحسابه،
1
وهذا مما يشوق المبتدئين أن يقبلوا بالشد أملا بازدياد الأجرة.
ويحسن لنا أن نذكر هنا بعض الأمثلة والأقوال الدارجة التي تجعل الناس يحيلون للانعكاف على عمل اليدين فهي: (1)
مثل: «كار باليد أمان من الفقر»، والعامة تقول هكذا: «كار باليد أمانا من الفقر».
Kârin bel-yèdd amânan min al-foqr .
2
ومعناه أن الإنسان إذا كان يعرف صنعة ما أمن بواسطتها من أن يمسي يوما فقيرا؛ ولهذا كثير من أهالي بلادنا من ذوي الاقتدار يعلمون أولادهم أحد الكارات بعد معرفة القراءة والكتابة. (2)
مثل: «صاحب صنعة مالك قلعة»
Sâḫeb șàn'a mâlek qàl'a .
ولا يختلف كثيرا معناه عن المثل السابق. (3)
مثل: «إلي ما له كارات بيعاير رطيلات»
Elli mà lo kâràt bi'ayer erṭêlât .
يعني أن الذي ما ساعدته الظروف بأن يتعلم إحدى الصنائع يقضي عمره، وهو يعتني بتقدير الأوزان بدون أن يجديه ذلك نفعا. (4)
مثل: «اشتغل بفلس وحاسب البطال»
Ìśterel befels oḫàseb el-baṭṭàl .
3
أي إن الشغل ولو بأجرة زهيدة يفضل على البطالة. (5)
مثل: «من كترت كاراته قل ما بيده»
Men kètret kâràto qall mâ biyèddo .
إن هذا المثل ليس يدل على الحث بأن يتخذ الإنسان كارا فقط بل يوجب عليه أيضا أن لا يتنقل من كار إلى آخر؛ لأن ذلك يكون سببا لضياع وقته سدى. (6)
من الأقوال الدارجة: «خدمتها أجير معلم»
ḫadàmthâ iģîr m'àllem .
لا يأنف أن يقول ذلك بعضهم بافتخار، مشيرا أنه قد تعلم كارا من الكارات، ومر بدرجاته من الأجير إلى المعلم.
وسمعت يوما أحد الحزامة يقول: (7)
من أقوال العامة: «انصفوني يا مسلمين علمت ابني كار الحزامة وجوزته وشديته، فما له برقبتي بعد هل قصرت معه بشيء»
Insfùnî ya muslimìn, 'allàmt ibni kar el-ḥĕzâme uģauwàzto uśaddèto famâ lo bràqbti ba'd, hall
4
qașșàrt mao bśì?
كأنه بتزويج الولد وتعليمه الكار وشده تنتهي واجبات والده نحوه.
الفصل السادس
(1) في الصانع
إن الصناع هم العدد الأكثر والسواد الأعظم في كل الحرف والكارات، وعليهم مداد العمل، ومن أجلهم وضعت هذه التراتيب التي نحن بصددها، وبهم تتوارث وثيقة العمل في كل الأزمنة، ويحفظ سر المعرفة في الفنون والصنائع. وهم كالأرض ينبوع ثروة البلاد، ومصدر كنوزها الثمينة، بل لولاهم لما كنا نحصل على كبير نفع مما تنبته الأرض لنا من مواد الغذاء والكساء. أجل، إن الصانع والفلاح هما القوتان الماديتان اللتان عليهما يتوقف نجاح الأمم أو تأخرها. ومع أن هذا الأمر بديهي لا ريب فيه لم يلتفت إليه من زمن طويل، وقد أهملت جدا آداب الصانع وتعليمه، حتى فقد بالكلية بعض الصنائع - كما سبق الإيماء إليه - وبعضها الآخر كاد يبيد لولا أن يتقيد بالسلطة المتسلسلة في الحرف. فالآن لا يطلب من الصانع أن يكون عارفا القراءة والكتابة، بل يكفيه أنه قد حصل درجة المهارة في صنعته مع أنه كان من جملة الشروط الموضوعة ألا يقبل بشد أحد في الكار ما لم يكن قد تاب عن المنكرات ورخى ذقنه «أي التحى». (2) في شد الصانع
عندما يبرع الأجير في المهنة التي امتهنها ومارسها منذ حداثته، يأخذ زملاؤه وشاويش الكار بالإلحاح عليه بأن يشد بالكار - أو أن يملح - أما الشاويش فلأنه ينتظر ما يصيبه من رسومات الشد، وأما زملاؤه فلأنهم يبتغون ازدياد عددهم وربط الداخل الجديد بعهود الإخاء، فيحاول تأجيل الأمر إلى وقت آخر، ويساعده حينئذ على ذلك معلمه بالتردد عن القبول بشدة، قائلا للملحين: «لسا ما حله هدا دبساته مراق»
Lissâ mâ ḥâllo hàdâ dibsâto mrâq .
وهذا من كلام العامة، ومعناه أن أجيره للساعة الحاضرة لم يأت الوقت الملائم لشده، وأن دراهمه عزيزة لا تحتمل مصروفا غير عادي.
وحالما يقبل الأجير بالشد يسرع الشاويش أن يهديه على الفور عرقا أخضر، وهذه إشارة معناها أن وجب عليه أن يولم وليمة لرفقائه. ويكون على الغالب العرق الأخضر من الريحان، ويجوز أن يكون من نوع آخر حتى ومن أغصان الشجر أيضا؛ لأن الشاويش يقطع عرقا نضرا من أول ريحانة، أو شجرة يصادفها ويسرع بتقديمها للمزمع أن يشد. فيأخذ ذاك منه العرق بكل قبول وشكر، ويبوسه ويضعه على رأسه. فيذهب حينئذ الشاويش إلى شيخ الحرفة ويخبره بأمره، فيقيد اسمه مع المزمعين أن يشدوا سوية إذا كان منهم أحد وإلا فيعين له وحده يوما ليشد به. ثم يرجع الشاويش ويدعو نيابة عن المرشح للشد رفقاءه، وشيوخ الحرفة وشيخها، ونقيب شيخ المشايخ ومن شاء من عندهم، وفي بعض الأحيان يدعوهم هو نفسه لحضور شده.
الشد يصير إما في أحد بساتين المدينة نهارا أو في أحد البيوت ليلا أو نهارا. ففي اليوم المعين يجتمع الصناع وسائر المدعوين في المكان المعد، ثم يحضر شيخ الحرفة والشيوخ والنقيب. وبعد مبادلة السلام والكلام يقول النقيب: «يا إخوان لنبتدئ بشغلنا»، فيصمت الجميع، أما هو فيأخذ الشاويش والطالب إلى غرفة ثانية ويشده هناك بالطريقة التي سيأتي ذكرها، ثم يرجع به إلى مكان الاجتماع، ويكون النقيب متقدما عن الشاويش والمشدود. وبعد النقيب يمشي الشاويش حاملا بيده صينية وعليها هدايا الشد كما ستعلم، فيأتي بها ويضعها أمام شيخ الحرفة على طاولة صغيرة مربعة تسميها العامة «أسكملة»،
1
ثم يأتي الطالب مكتوف اليدين على صدره بكل حشمة ومشدودا بالمحزم، فيوقفه الشاويش في الوسط على بساط أخضر، ويجعل إبهام رجله اليمنى تعلو إبهام رجله اليسرى. وفيما هو على هذه الحالة يطلب النقيب من الشاويش أن يقول الفاتحة فيتلوها بصوت عال، ويكون الجميع راكعين على ركبهم وطارقين رءوسهم بالأرض. ثم يطلب النقيب الفاتحة الثانية التي يسميها ثاني شرف، فيقول الشاويش الفاتحة مرة ثانية، ثم يطلب الختام بذكر سيد المرسلين، فيتلو الفاتحة دفعة ثالثة. وبعد أن يفرغ منها يأخذ النقيب في السلام على الحاضرين من الزوار الكرام،
2
إذا كان أحد منهم موجودا، وإلا فيكتفي بالسبعة السلامات الآتية وهي:
سلام للعموم: «أول سلامي عليكم يا حضار، السلام سنة ورده فرض،
3
يا أخيار في إذن أفتح بساط الطرق باذدكار. أو أخليه مطوي يا أهيل الحي. الفاتحة اقرءوها معي أنتم بأجمعكم للنبي المختار»، فكل من الحضور يتلو الفاتحة بصوت منخفض، أما الشاويش فيتلوها بصوت عال.
سلام ثان لأهل الصدر وهم شيخ الحرفة وشيوخها:
ثاني سلامي على أهل الصدر أسيادي
وأهل الجناحين بهم زاد إرشادي
من قبل ما أدخل وسمعكم بإنشادي
يا من حويتم المكارم والذكا والذوق
والفاتحة اقرءوها معي أنتم بأجمعكم
إلى النبي الهادي (الشاويش يتلو الفاتحة جهارا.)
ثالث سلامي على أهل الميمنة بالحي
وأركان هذه المجالس وكل من بالحي
كم حي ميت وكم ميت خرج من حي
واقرءوا الفاتحة معي أنتم بأجمعكم
إلى نبي شرف ليثرب مع الحجرة وذاك الحي (الشاويش يتلو الفاتحة جهارا.)
رابع سلامي على أهل الميسرة بقبول
عبير تلك السلام يجي عرضها والطول
والفاتحة اقرءوها معي أنتم بأجمعكم
إلى نبي أتى لنا رحمة ورسول (الشاويش يتلو الفاتحة جهارا.)
خامس سلامي عليكم سادتي أحسن
عبير تلك السلام كالعطر بل أحسن
نظمت من بحر فكري ما لقيت أحسن
إلا امتداحي بأهل الفضل بل أحسن
كل فاتحة اقرءوها معي بأجمعكم
إلى النبي أحسن (الشاويش يتلو الفاتحة جهارا.)
سادس سلامي عليكم أيها الأصلاح
سلام نشره عبق الأرياح
نقيبكم واقف ينشد كلام وضاح
والفاتحة اقرءوها معي أنتم بأجمعكم
إلى نبي بالشفاعة أنسج الأرواح (الشاويش يتلو الفاتحة جهارا.)
سابع سلامي عليكم أيها الأحباب
السلام سنة ورده فرض يا أنجاب
غريب ومسكين ودمعه غرق الأثياب
4
في قصده يلتطخ في زعفرانكم
في إذن يدخل ولا
5
يلزم الأعتاب
والفاتحة اقرءوها معي بأجمعكم
إلى نبي بمعجزاته حير الكتاب
6 (الشاويش يتلو الفاتحة جهارا.)
وبعد فراغ النقيب من هذه السلامات يتلو بعض نشائد نبوية منها:
يا أهل بيت رسول الله حبكم
فرض علي وبالقرآن أنزله
7
كفاكم من عظيم القدر أنكم
من لم يصل عليكم لا صلاة له (الفاتحة وغيرها.)
رسول الله ضاق في الفضاء
وجل الخطب وانقطع الرجاء
فجاهك يا رسول الله جاه
رفيع ما لرفعه انتهاء
رسول الله إني مستجير
بجاهك والزمان له اعتداء
وبي وجل شديد من ذنوب
وما أدري أعفو أم جزاء
وما كانت ذنوبي عن عناد
ولكن بالقضا غلب الشقاء
وظني فيك يا طه جميل
ومنك الجود يعهد والسخاء
وحاشا أن أرى ضيما وذلا
ولي نسب بمدحك وانتماء
8
ثم ينتقل بعد ذلك إلى فتح الأشغال فيقول منشدا:
فتحت باب الطريقة أرتجي مننا
من خالق الخلق ربي بارئ النسم
وجئت مستأذنا أرجو بفاتحة
غفران ذنبي وما قد كان من إثمي
وذلك من أجل إجراء العهو
د هنا وحفظها فيه غاية النعم
من حيث ما كان أصل العهد جاء إلى
أبيك آدم يا ذا الحر فافتهم
منه لشيث وإدريس كذاك سرى
إلى أنبياء الله
9
كلهم
ختمهم سيد الكونين أحمدنا
نور الشريعة سامي الفخر والهمم
وجاء بالعهد آيات مكرمة
فحافظ العهد في خير وفي نعم
وخائن العهد لم تربح تجارته
وهو بالحشر كم يلقى من النقم
ثم يلتفت قائلا إلى المشدود:
أوصيك يا من تخاوى أو تعاهد اختش من فرض رب العالمين
إن عهدك ثم شدك في غد يشهد عليك يوما نقف حائرين
من يحفظه يحفظه رب السماء، ومن أضاعه ينكتب من المبعدين
وأختم نظامي بمدح أحمد المختار إمام العالمين
آمين، الفاتحة.
أما ربط المحزم - وهذا يكون إما من المحازم الاعتيادية أو من الشالات - فهو حق النقيب، فيرفع يدي الطالب من على صدره إلى قمة رأسه جاعلا بطن كفه اليمنى يعلو ظهر كفه اليسرى وأصابعه ملتصقات - سألت لماذا لا تكون الأصابع العشر مشتبكات بعضهن ببعض؟ فقيل لي: إن ذلك لا يوافق لئلا تتعربس الأمور على المشدود، فالتسريح أولى - ثم يفرد النقيب المحزم، ويلف المشدود به من وسطه إلى قرب قدميه، ويعقد طرفيه الأعليين من الخلف إلى الأمام ثلاث عقد؛ الواحدة احتراما لشيخ الحرفة والثانية لمعلم المشدود والثالثة للشاويش. وتفسير ذلك أن الشيخ له وحده القدرة أن يحل الأولى من الثلاث عقد؛ لأنه رئيس الحرفة؛ كي يعلم المشدود ما له وعليه من واجبات الخضوع. وأما الثانية فيحلها المعلم ليفتخر أنه أخرج تلميذا ماهرا أو كما يقولون سراقا «جراق» من تحت يده، ويحل الشاويش الثالثة؛ لأنه أحد السلطات الثلاث التي على المشدود أن يخضع لها في كاره.
إن التفسير المار ذكره تلقنته من شاويشية بعض الحرف، إنما لا أظنه صحيحا؛ لأن النقيب أخبرني أنه في شد بعض الحرف يجعل العقد ثلاثا، وفي بعضها خمسا، وفي بعضها سبعا، ويراعى بذلك شدة تمسك أهل تلك الحرفة بحفظ العهود والأمانة أو عدمه.
وتدل هذه العقد على عقد العهد والميثاق بالإخاء، فيعتبر حينئذ أهل حرفة المشدود كأخ لهم، لا بل يفضلونه في بعض الظروف على الأخ الطبيعي. وربما من ذلك أطلق القول بعقد العهد؛ أي تعهد بحفظه.
وقد لاحظت أن أكثر المحترفين من الأوروبيين يربطون مئزرهم من الأمام إلى الخلف؛ أي إنهم يجعلون عقد المئزر وراء ظهورهم بعكس محترفي بلادنا السورية الذين في وقت الشد وغيره، لا يربطون المحزم إلا من الخلف إلى الأمام ربما تذكارا بوقت شدهم.
وبعد أن يتم النقيب النشائد والفواتح يعين أبا بالكار للمشدود أحد الحاضرين من المعلمين، وعلى الغالب يكون معلم ذاك المشدود أبا له بالكار، ويجوز أن يتخذ خلافه؛ لأنه لما كان يعد الأب بالكار بمنزلة كفيل فهو مطالب بما يقع من المشدود من الخلل، فإذا كان المشدود غير ممدوح السيرة يتمنع معلمه من قبوله ابنا له - وهذا نادر الحدوث - فيعين حينئذ خلافه. ثم يأخذ شيخ الحرفة بأن يقدم للمشدود النصائح الآتية: «يا بني إن جميع الحرف هي كارات أمانة على الأموال والأعراض والأرواح. والأمانة هي الدين، فإذا نفق كارك احفظ دينك. كن صادقا وأمينا واعلم أن كارك مثل عرضك، حافظ عليه بمقدرتك. وإذا استلمت أموال الناس فلا تفرط بها. وإياك أن تخون أهل الحرفة، والخائن قبيله الديان ... إلخ»، ثم يلتفت إلى الحاضرين ويسألهم قائلا: «ما قالت الإخوان إخوان وصنايعية،
10
ومعلمين، هل هذا المشدود يستحق مصانعة؟»، فيجيبونه «نعم، مستأهل ومستحق.»
فيتقدم حينئذ أبوه بالكار ليبايعه، ويأخذ عليه العهود فيركعا سوية الواحد إزاء الآخر نصف ركعة؛ أي إن ركبتيهما اليسريين تمسان الأرض، وأما رجلاهما اليمنيان فينثنيان نصف ثنية ويقتربان من بعضهما حتى يتلاصق الإبهامان اليمنيان وأعلى الركبتين، ويمسك الأب بالكار بيده اليمنى يد المشدود اليمنى مسكة الإخاء المعروفة، ما عدا أن إبهام يد الواحد والشاهدة يتلاصقان حول إبهام يد الآخر، فيستر الشاويش أيديها بمحرمة أو منشفة؛ كي لا يطلع الحاضرون من الخارجين على الإشارة التي تتبادل بينهما، ويقول حينئذ الأب للطالب: «عاهدني بعهد الله ورسوله أنك لا تخون أهل الحرفة ولا تغش الكار.» فيعاهده بقوله «أعاهدك بعهد الله
11
ورسوله أني لا أخون الكار، ولا أغش الصنعة بشيء.» فيتلو النقيب فوق رأسيهما الفاتحة ثم ينهضان. ويطوف بعد ذلك الشاويش على مشايخ الحرفة بالمشدود، فيحل كل منهم عقدة كاملة من عقد المحزم إذا كانت كثيرة، أو نصف عقدة إذا كانت قليلة. وأما آخر عقدة فيحلها الشيخ ويسلم المحزم إلى الشاويش الذي يضعه على كتف المشدود، ويقول له مهنئا إياه: «جعله الله مباركا.» (3) الهدايا المرسومة
ثم توزع الهدايا التي ذكرنا أنها موضوعة في صينية على أسكملة أمام شيخ الحرفة وقت الشد. وهي لكل من شيخ الحرفة وشيوخها والنقيب لوح صابون مطيب، وشورة شاش مطرزة وخلال وعرق أخضر، ومنهم من أضاف إليها كيسا لوضع التمباك
12
ومسبحة.
وقد بحثت جدا لأقف على معنى هذه الهدايا فما أخذت جوابا يقنعني، وأظن أنها هدايا تتعلق بالوليمة؛ لأن الصابون يصلح لتنظيف اليدين بعد الأكل، والشورة لمسح الفم ووقاية الأثواب، والخلال لأجل تنظيف الأسنان الأمامية من طرفه الواحد، وتنظيف الآذان لسماع آلة الطرب من طرفه الآخر، والعرق الأخضر لتزال به رائحة الأكل من اليدين بعد التغسيل - والله أعلم - وبعد توزيع هذه الهدايا يتلو النقيب الفاتحة فتكون خاتمة العمل. (4) الوليمة
من الحضور من يأخذ بتهنئة المشدود بعد شده، ومنهم من يباشر بالعراضة، وهي رفع الأصوات بتهليل، حيث يقولون مرارا عديدة: «صلوا على عيسى وموسى، ومكحول العين ومن يقدر يعادينا هه ...»
Şàllû-û-û 'ala 'Îsâ u Mûsâ u makḥûl el-'ên! u men yeqder yi'âdinâ! - hé é é é é é?
وإن كانت الوليمة قد أعدت في ذلك النهار فيجلسون حالا على الطعام، وإن كان تعين لها اليوم الثاني أو يوم آخر فينصرفون ويحضرون بالوقت المعين. ومن المشدودين من يكون قد أعد أيضا آلة للطرب قبل الأكل. أما المسكرات فلا دخل لها أصلا في هكذا احتفالات، وإذا أراد أحد أن يحضر شيئا منها فيفعله سرا.
أما الأكل فيكون من أبسط المأكولات، وعلى الغالب صفيحة وشعيبيات بسكر، يصطلح أهل هذه المدينة على استحضارها عند الفرانة؛ ليخففوا بذلك الثقلة عن أهل بيوتهم.
ويسمون الوليمة «التمليح»؛ أي إطعام الأصحاب من الخبز والملح، ومنه يستعمل الفعلة فعل ملح يملح بمعنى عمل وليمة الشد، ومنه «بعده» أكل الوليمة. ومنه معنى نصب عليه وأخذ منه دراهم، فيقولون: فلان ملح له بألف غرش؛ أي أكل عليه ألف غرش.
ولا يخفى أن الخبز والملح أو الملح وحده، هو من المواد التي يرمزون بها من أقدم الأزمنة على حسن السجايا وحفظ العهود.
هكذا ورد في الإنجيل قول المسيح إلى تلاميذه: «أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح بماذا يملح.» وهكذا أوميروس يتكلم باحتقار عن الناس الذين لا يمزجون الأكل بالملح.
13
Oύδέ θ’ ãλεσσι μεμιγμέυου εĭδαρ έδουσιυ .
وأفلاطون يسمي الملح في تيماون
έυ Tιμαiίῳ
محبوبا عند الآلهة
θεοφίλές
ومن الأقوال الدارجة العربية «الحكم ملح الأرض» و«ابن الترك ملحه على ذيله»؛ أي إنك طالما تطعمه يحفظ ما يقع على أذياله من خبزك وملحك، «وإذا قام يقع ملحك من عليها»؛ أي إنه ينسى ما أنعمت عليه به، وأيضا «يا خوينة الخبز والملح الذي أكلته عندي» و«تذكر يا فلان الخبز والملح»، والخلاصة أن الملح له عند العرب واليهود واليونان كما وعند الروسيين شأن عظيم. ولا أعلم إذا كان
14
هكذا الحال عند باقي الشعوب الشرقية والغربية. (5) كلفة الشد
إن كلفة الشد تختلف بحسب درجة غناء المشدود من أربعين فرنكا إلى مئة فرنك، وهاك تفصيل ذلك:
إلى الشيخ من 4 فرنكات إلى 10.
إلى النقيب من 2 فرنكات إلى 6.
إلى الشاويش من 2 فرنكات إلى 3.
أجرة الجنينة ومصروف الوليمة من 21 فرنكات إلى 81. (6) ملاحظات
أولا:
إن الروايات تختلف كثيرا في ترتيب الشد، فمنهم من قال لي إن توزيع الهدايا يسبق الشد وأخذ العهود، ومنهم من قدم أخذ العهود على تقديم النصائح. وقد اعتمدت فيما ذكرت على ما ظننته أقرب للصحة.
ثانيا:
إن شد المعلم؛ أي انتقال الصانع المشدود إلى درجة معلم يختلف عن شد الصانع بما يأتي: أولا إنهم لا يسمون له أبا بالكار. ثانيا إنهم لا يربطون له المئزر. ثالثا إنهم لا يأخذون منه العهود بركوعه، بل يكتفى بأخذ قول منه أنه يحافظ على أصول الكار والحرفة.
ومن الصناع من يشد في النهار ذاته صانعا ومعلما، والطريقة بذلك أنهم عندما يسأل الشيخ قائلا: «ما قالت الإخوان، هل يستحق مصانعة؟» يضيف إليه سؤالا آخر قائلا: «هل يستحق معلمية؟»، فإن كان مستحقا يجيبوه بالإيجاب وإلا فيقولون للطالب «حاجتك هلق مصانعة إنشا الله سنة الجاية تصير معلم»؛ أي يكفيك الآن أن تشد صانعا فإن شاء الله في السنة الآتية تصير معلما.
ثالثا:
إذا كان المشدود لا يستحق أن يأخذ المصانعة فعندما يقول شيخ الحرفة «ما قالت الإخوان؟»، فمعلمه أو الذي يريد أن يعارض بشدة يطرح بين أيدي الحاضرين صاية أو عملا من شغله، ويقول للشيخ ومعلمي الحرفة «احكموا بذلك إن كنتم منصفين، هل يستحق هذا الرجل الشد أم لا؟» فيفحصون العمل، وإذا كان فيه ما يوجب تأخير المشدود فيؤخرونه ولا يخشون بذلك لومة لائم؛ لأنهم يفضلون أن يبقى الكار سالما من السقط والشوائب أكثر مما يحرصون على خاطر أحد الصناع.
رابعا:
من الممكن أن يشد كثيرون دفعة واحدة، والعمل بذلك هو أنهم يوقفونهم بالوسط بالقرب من بعضهم، ويشدون كلا منهم بمحزم ويجرون باقي الترتيب كما لو كان المشدود واحدا. أما الهدايا وسائر المصروف والرسوم فتدفع محاصة، أي كل بقدر ما ينوبه منها.
خامسا:
إن المحترفين من كل المذاهب يشتركون بالشد. أما المسيحيون واليهود فلا يعطون شيئا من العهود والإشارات، بل يكتفى بشدهم بالمحزم وبتلاوة «أبانا الذي في السموات ... إلخ»، وهم يسمونها فاتحة النصارى، أو بتلاوة الوصايا العشر في شد اليهود، ويسمون لهم آباء بالكار من المسلمين، ويأخذون منهم العهد والميثاق بألا يخونوا الحرفة، ولا يضروا بالأموال والعباد.
سادسا:
إن حرفة البنائين والنحاتين الذين جميعهم من المسيحيين لا يعرفون الشد، ولا لهم علاقة بشيخ المشايخ، فيقيمون منهم شيوخا معلمين ويضعون روابط لأنفسهم يصونون كارهم بها، ولهم الآن جمعية معلمين مؤلفة من اثني عشر عضوا تجتمع بالشهر مرة، وتعين رئيسا لها في كل ثلاثة أشهر تبدله بسواه، ومن أخص واجباتها حفظ رابطة الكار. وقد أفادني أحدهم أنهم إذا لم يقدروا على أن يصونوا رابطة كارهم من الإخلال، ففي نيتهم أن يذهبوا إلى شيخ المشايخ؛ ليقيم عليهم شيخا ويترددون بذلك هربا من الدخول تحت قيد استئسار لا يسهل عليهم التخلص منه فيما بعد.
إن النقيب نقض ما بلغني عنهم بأنهم لا يشدون قط، وقال: إنهم كانوا يشدون قبلا ثم تملصوا من سلطة شيخ المشايخ، وسأبحث عن ذلك.
سابعا:
أذكر على سبيل التفكيه - ولعل في ذلك أيضا منفعة - أن صنف المسخنين والمهرجين ، أو الطفيلية أو الظرفاء كما يقولون عن أنفسهم، يدعون أنهم حرفة منتظمة لها مشايخ معلمون وشاويشية. وكان قبل سنة 1860 شيخ المسلمين منهم أمين أغا خمخم، وشيخ المسيحيين يوسف شاتيلا، وشاويش الكار جبران سبانخ. وأما بعد ذلك التاريخ فلت الكار، ولم يعد له رابطة ولا أصول. وكانوا يجرون شدهم على طرق هزلية مغلقة.
وقد وقفت على بعض ما كانوا يتفننون به في هذا الموضوع، فإن الشد عندهم هو تمثل لما هو جار في سائر الكارات، إنما النصائح التي يعطونها للمشدود هي: «يا بني إذا فرغ جيبك استر عيبك، واعلم أن المهرج الشاطر من كان مثل الرماح على أكتاف الأجاويد، فيقتضي أن تكون كالذئب تأخذ الريح عن الأعراس والولائم والسهرات، فتذهب في كل مساء لقرب باعة الحلويات والمعجنات والقشطة، فتترصد من أتى وابتاع شيئا منها فتعلم من ذلك أن عنده وليمة، فتسرع حالا إليها وتدخل على القوم بوجه شاويش، ويكون في جيبك ألف قصة مضحكة؛ حتى لا ينشف وجه صاحب البيت منك، وإن كان بخيلا. وإذا صادفت أحد أولاد الكار فإياك أن تعاكسه، بل اتفق معه على شيات
15 «أكلات» الغير. وانتقل من القاعة إلى المطبخ بخفة حتى تعلم ما الأكل المطبوخ وما الحلو المعد، فإذا علمت أن الأكل أطيب من الحلو، فقل لرفيقك عند جلوسك على الطعام: «الصلاة على الحاضر»، وإذا كان الحلو أفضل فقل له رامزا بدون أن يفهمك سائر الحاضرين: «أيها الناس إن الدنيا لا تغني عن الآخرة»، واعلم أن اسم الكنافة عندنا «مخيطنة»، والقطائف «لزيقيات»، والمعمول «ضربات الأنجق»، والهيطلية «ستي أزمقي»، والعنب «فقي»، والعوامة «رصاص الأنبياء»، والكوسا «مدافع الجوع» إلخ.» انتهى. ويرفق الشيخ أو أحد المعلمين كلا من هذه النصائح والتعاليم بصفعة على رقبة المشدود يتلقاها بالشكر، وهو صاغر إلى أن يتم الشد على هذا المنوال، ولا ينفعه الشد شيئا سوى أنه يعد حينئذ من معلمي التهريج والإسخان لا ينازعه على كاره منازع.
الفصل السابع
في المكافأة والقصاص
إن الارتقاء إلى درجة صانع ومعلم هو المكافأة العظيمة التي ينتظرها عملة الحرف على اجتهاداتهم، فلا وجود هنا للمعارض العمومية أو الخصوصية، ولا مسابقات ولا جوائز ولا حكومة تضمن لمن أتى بتحسين أو باختراع في فنه، أن يحصل على مكافأة مادية أو امتياز يكفل له المستقبل، وينشط غيره إلى الاقتداء به. نعم، إن في النظامات العثمانية الجديدة خصصت بعض من بنودها لهذا الموضوع، إنما جرى من الحكومة ذلك مماثلة بالنظامات الأوروبية، وعلمتنا الحوادث أنها بقيت في حقيقة الأمر حبرا على ورق مهملة في زوايا النسيان.
1
أما القصاصات فقد وجهوا إليها أفكارهم؛ حفظا لروابط الكارات وصونا لأموال الناس، وهي كثيرة ومتنوعة، فأذكر منها ما تمكنت من الوقوف عليه: (1)
في أكثر الكارات يطرد الخائن والسارق طردا باتا، فلم يعد أحد من أهل حرفته يقبله، بل إذا أرادوا فيجرون عليه حربا شديدة لأجل إسقاطه من كل عمل. (2)
إذا ثبت أن أحد معلمي الكار نقص الصاية عن الطول أو العرض المألوف، فكان يحضرها شيخ الكار ويقصها ويعلقها في السوق، فيصير صاحبها عبرة لمن اشتغل. (3)
إذا أدخل أحد الغش بالكار، فكان يرسل الشيخ شاويشه فيقفل دكانه، ولا يعود بإمكانه فتحه إلا برضاء الشيخ وأهل الحرفة. (4)
إذا أدخل أحد الصياغ الغش والزغل في مزيج معادنه، فكان شيخ الصاغة يقلب له السدان على قفاه، فيبقى هكذا مربوطا عن شغله إلى أن يحصل على رضائه. (5)
إذا ترتب الحق على أحد معلمي الكار بأنه أخل بالروابط، فيعطونه عرقا أخضر دلالة أنهم يكلفونه لعمل وليمة، وهذا يعادل الجزاء النقدي، وهو المصطلح عليه أكثر من غيره من أنواع القصاص. (6)
من جملة القصاصات التي كانت جارية قبلا، أنهم كانوا يقصون للمذنب خصلة من شعر رأسه.
الفصل الثامن
مسألة وختام
هذا حد ما اتصل إلي من أخبار أهل الحرف الدمشقية، وما يتعلق بها جمعته بسرعة كلية؛ كي لا يفوتني وقت اجتماع محفلكم الموقر، ودونته بهذه الكليمات واعدا أن أجمع ما سأقف عليه من هذا القبيل إتماما للفائدة.
وقبل الفراغ من هذا الموضوع رأيت من المناسب أن أضع لذاتي، ولكل من شاء الدخول في هذا المبحث من الذوات الكرام الأعلام المحققين، الذين سيطلعون على أعمال المجمع الشرقي العلمي في ليدن، حل المسألتين الآتيتين:
أولا:
هل أن لهذا الانتظام في تراتيب الحرف في دمشق رباطا تاريخيا يربطهم بالماسونية منذ القديم؟ وإذا كان ذلك كذلك فالمراد تعيين الوقت والظرف الذي حدث فيه الأمر المذكور.
ثانيا:
إذا كان لا يوجد هكذا ارتباط فلماذا روعي في الحرف نفس الترتيب تقريبا الجاري في الماسونية؟ هل أن هذا مجرد صدفة؟ أو أن ترتيب الماسونية كان منشأه في هذه الديار؟ أرجو الجواب على ذلك.
ولما كنت حديث النشأة قليل المعرفة، أختم خطابي بطلب المعذرة، وغض الطرف على ما تجرأت اليوم عليكم به بدخولي إلى هذا المقام الجليل، وولوجي بموضوع لم أجد لي به معينا في كتب السالفين، ولا دليلا إلا ما تناقلته الألسن من تقاليد الأقدمين، فلا تحسبوه مني هوجا إن رأيتم خللا بالتعبير أو إخلالا من التقصير؛ فإن العصمة لله وحده وهو بكل شيء عليم خبير.
عن دمشق في 12 آب 1882
إلياس عبده قدسي
Unknown page