النبذ فِي أصُول الْفِقْه
مُقَدّمَة قَالَ الشَّيْخ الفيه الامام الْحَافِظ الْوَزير أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن احْمَد بن سعيد بن حزم الأندلسي الْقُرْطُبِيّ رضى الله عَنهُ الْحَمد لله الَّذِي خلقنَا ورزقنا وَجعل لنا السّمع والأبصار والأفئدة فنسأله أَن يجعلنا من الشَّاكِرِينَ وَصلى الله على سيد الْمُرْسلين مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله أتم صَلَاة وأفضلها وأزكاها وَعَلِيهِ من رَبنَا تَعَالَى ثمَّ منا أفضل السَّلَام وأطيبه ثمَّ على أَزوَاجه وَآله وَأَصْحَابه وتابعيهم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
أما بعد
وفقنا الله تَعَالَى وَإِيَّاكُم لإيفاء مَا كلفنا وعصمنا وأياكم من مواقعة مَا عَنهُ نَهَانَا فاننا لما كتبنَا كتَابنَا الْكَبِير فِي الْأُصُول وتقصينا أَقْوَال الْمُخلفين وشبههم وأوضحنا بعون الله تَعَالَى وَمِنْه الْبَرَاهِين فِي كل ذَلِك رَأينَا بعد إستخارة الله تَعَالَى والضراعة اليه فِي عونه على بَيَان الْحق أَن نجمع تِلْكَ الْجمل فِي كتاب لطيف يسهل تنَاوله وَيقرب حفظه وَيكون ان شَاءَ الله ﷿ دَرَجَة إِلَى الاشراف على مَا فِي كتَابنَا الْكَبِير فِي ذَلِك وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
فصل
أعلمُوا رحمكم الله أننا لم نخرجنا رَبنَا الى الدُّنْيَا لتَكون لنا دَار اقامة لَكِن لتَكون لنا محلّة رَحْله ومنزله قلعة
1 / 15
وَالْمرَاد منا الْقيام بِمَا كلفنا بِهِ رَبنَا تَعَالَى مِمَّا بعث بِهِ الينا رَسُوله ﷺ َ - فَقَط وَلذَلِك خلقنَا وَمن أَجله اسكننا هَذِه الدَّار ثمَّ النقلَة مِنْهَا الى احدى الدَّاريْنِ ﴿إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم﴾ ثمَّ بَين لنا تَعَالَى من الْأَبْرَار وَمن الْفجار فَقَالَ ﷿ ﴿وَمن يطع الله وَرَسُوله يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْز الْعَظِيم وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعد حُدُوده يدْخلهُ نَارا خَالِدا فِيهَا وَله عَذَاب مهين﴾
فَوَجَبَ انطلب كَيفَ هَذِه الطَّاعَة وَهَذِه الْمعْصِيَة فوجدناه تَعَالَى قد قَالَ ﴿مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾
فأيقنا وَللَّه الْحَمد بِأَن الدّين الَّذِي كلفنا بِهِ رَبنَا وَلم يَجْعَل لنا مخلصا من النَّار إِلَّا باتباعه مُبين كُله فِي الْقُرْآن الْكَرِيم وَسنة رَسُوله ﷺ َ - واجماع الْأمة وَأَن الدّين قد كمل فَلَا مزِيد فِيهِ وَلَا نقص وأيقنا أَن كل ذَلِك مَحْفُوظ مضبوط لقَوْل الله تَعَالَى ﴿إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون﴾
1 / 16
فصح من هَذَا صِحَة مستيقنة لَا مجَال للشَّكّ فِيهَا أَنه لَا يحل لأحد أَن يُفْتِي وَلَا أَن يقْضِي وَلَا أَن يعْمل فِي الدّين إِلَّا بِنَصّ الْقُرْآن الْكَرِيم أَو نَص حكم صَحِيح عَن رَسُول الله ﷺ َ - أَو اجماع مُتَيَقن من أولى أَمر منا لَا خلاف فِيهِ من أحد مِنْهُم وَصَحَّ أَن من نفى شَيْئا أَو أوجبه فَإِنَّهُ لَا يقبل مِنْهُ إِلَّا ببرهان لِأَنَّهُ لَا مُوجب وَلَا نافي إِلَّا الله تَعَالَى فَلَا يجوز الْخَبَر عَن الله تَعَالَى إِلَّا بِخَبَر وَارِد من تقبله تَعَالَى أما فِي الْقُرْآن وَمَا فِي السّنة وَالْإِبَاحَة تَقْتَضِي مبيحا وَالتَّحْرِيم يَقْتَضِي محرما وَالْفَرْض يَقْتَضِي فارضا وَلَا مُبِيح وَلَا محرم وَلَا مفترض إِلَّا الله تَعَالَى خَالق الْكل ومالكه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
1 / 17
الْكَلَام فِي الْإِجْمَاع وَمَا هُوَ
بدأنا بالاجماع لِأَنَّهُ لَا اخْتِلَاف فِيهِ فَنَقُول وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق أَنه لما صَحَّ عَن الله ﷿ فرض اتِّبَاع الْإِجْمَاع بِمَا ذكرنَا وَبِقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا﴾ وذم تَعَالَى الإختلاف وَحرمه يَقُوله تَعَالَى ﴿واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا﴾ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم﴾ وَلم يكن فِي الدّين إِلَّا اجماع أَو أختلاف فَأخْبر تَعَالَى أَن الِاخْتِلَاف لَيْسَ من عِنْده ﷿ فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا﴾ فصح ضَرُورَة ان الأجتماع من عِنْده تَعَالَى اذ الْحق من عِنْده تَعَالَى وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا اجماع أَو اخْتِلَاف فالاختلاف لبيس من عِنْد الله تَعَالَى فَلم يبْقى إِلَّا الاجماع فَهُوَ من عِنْد الله تَعَالَى بِلَا شكّ وَمن خَالفه بعد علمه بِهِ اَوْ قيام الحدة عَلَيْهِ بذلك فقد اسْتحق الْوَعيد الْمَذْكُور فِي الْآيَة
فَنَظَرْنَا فِي هَذَا الاجماع المفترض علينا اتِّبَاعه فوجدناه لَا يَخْلُو من أحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما
أما أَن يكون اجماع كل عصر من أول الاسلام الى انْقِضَاء الْعَالم ومجيء يَوْم الْقِيَامَة أَو اجماع عصر دون عصر فَلم يجز ان يكون الاجماع الَّذِي افْترض الله علينا اتِّبَاعه اجماع كل عصر من أول الاسلام الى انْقِضَاء الْعَالم لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك لم يلْزم احدا فِي النَّاس اتِّبَاع الاجماع لِأَنَّهُ ستأتي أعصار بعده بِلَا شكّ فالاجماع اذن لم يتم بعد وَكَانَ يكون أَمر الله
1 / 18
تَعَالَى بذلك بَاطِلا وَهَذَا كفر مِمَّن اجازه اذا علمه وعاند فِيهِ فَبَطل هَذَا الْوَجْه بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَلم يبْقى إِلَّا الْوَجْه الآخر وَهُوَ أَنه اجماع عصر دون سَائِر الْأَعْصَار فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك لنعلم أَي الْأَعْصَار هُوَ الَّذِي اجماع أَهله هُوَ الَّذِي أذن الله تَعَالَى فِي ابتاعه وان لَا يخرج عَنهُ فَوَجَدنَا القَوْل فِي ذَلِك لَا يَخْلُو من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا
أما أَن يكون ذَلِك الْعَصْر هُوَ عصر من الْأَعْصَار الَّتِي بعد عصر الصَّحَابَة ﵃ أَو يكون عصر الصَّحَابَة فَقَط أَو يكون عصر الصَّحَابَة وَأي عصر بعدهمْ أجمع أَهله أَيْضا على شَيْء فَهُوَ اجماع
فَنَظَرْنَا فِي القَوْل الأول فوجدناه فَاسِدا لوَجْهَيْنِ برهانيين كافيين أَحدهمَا أَنه مُحَمَّد على أَنه بَاطِل لم يقل بِهِ أحد قطّ وَالثَّانِي أَنه دَعْوَى بِلَا دَلِيل وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ سَاقِط بِيَقِين لبرهانين أَحدهمَا قَوْله تَعَالَى ﴿قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ فصح ان كل من لَا برهَان لَهُ فَلَيْسَ بصادق فِي دَعْوَاهُ وَالثَّانِي أَنه لَا يعجز مخالفه عَن أَن يدعى كدعواه فَيَقُول أَحدهمَا هُوَ الْعَصْر الثَّانِي وَيَقُول الآخر بل الثَّالِث وَيَقُول الثَّالِث بل الرَّابِع وَهَذَا تَخْلِيط الاخفاء بِهِ فَيسْقط هَذَا القَوْل وَالْحَمْد لله
فَنَظَرْنَا فِي هَذَا القَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول من قَالَ ان أهل الْعَصْر الَّذِي اجماعهم هُوَ الاجماع الَّذِي أَمر الله تَعَالَى باتباعه
1 / 19
هم الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَقَط فوجدناه صَحِيحا لبرهانين أَحدهمَا أَنه اجماع لَا خلاف فِيهِ من أحد وَمَا اخْتلف قطّ مسلمان فِي أَن مَا أجمع عَلَيْهِ جمع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم دون خلاف من أحد مِنْهُم اجماعا متيقنا مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ فانه اجماع صَحِيح لَا يحل لأحد خِلَافه وَالثَّانِي أَنه قد صَحَّ أَن الدّين قد كمل بقوله تَعَالَى ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾ واذ قد صَحَّ ذَلِك فقد بَطل أَن يُزَاد فِيهِ شَيْء وَصَحَّ أَنه كمل فقد اتفقنا أَنه كُله مَنْصُوص عَلَيْهِ من عِنْد الله ﷿ واذا كَانَ هُوَ كَذَلِك فَمَا كَانَ من عِنْد الله تَعَالَى فَلَا سَبِيل الى مَعْرفَته إِلَّا من قبل النَّبِي ﷺ َ - الَّذِي يَأْتِيهِ الْوَحْي من عِنْد الله والا فَمن نسب الى الله تَعَالَى أمرا لم يَأْتِ بِهِ عَن الله عهد فَهُوَ قَائِل على الله تَعَالَى مَالا علم لَهُ بِهِ وَهَذَا مقرون بالشرك وَوَصِيَّة ابيلس قَالَ الله تَعَالَى ﴿قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ﴾ وَقَالَ الله تَعَالَى ﴿وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بالسوء والفحشاء وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ﴾
فاذن قد صَحَّ أَنه لَا سَبِيل الى معرفَة مَا أَرَادَ الله تَعَالَى الا من قبل رَسُول الله ﷺ وَلَا يكون الدّين الا من عِنْد الله تَعَالَى فالصحابة رضى الله عَنْهُم هم الَّذين شاهدوا رَسُول الله ﷺ وسمعوه فاجمعهم على مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ هُوَ الاجماع المفترض اتِّبَاعه لأَنهم نقلوه عَن رَسُول الله ﷺ َ - عَن الله تَعَالَى بِلَا شكّ
1 / 20
ثمَّ نَظرنَا فِي القَوْل الثَّالِث وَهُوَ ان اجماع الصَّحَابَة اجماع صَحِيح وَأَن اجماع أهل عصر مَا مِمَّن بعدهمْ اجماع ايضا وان لم يَصح فِي ذَلِك عَن الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم اجماع فوجدناه بَاطِلا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من أحد ثَلَاثَة أوجه لَا رَابِع لَهَا
أما أَن يجمع أهل ذَلِك الْعَصْر على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم واما ان يجمعوا على مَا لم يَصح فِيهِ اجماع وَلَا اخْتِلَاف لَكِن اما على أَمر لم يحفظ فِيهِ عَن أحد من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم قَول وَأما على أَمر حفظ فِيهِ عَن بَعضهم قَول وَلم يحفظ فِيهِ عَن ساشرهم شَيْء فان كَانَ اجماع أهل الْعَصْر الْمُتَأَخر عَنْهُم على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فقد غنينا باجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم وَوَجَب فرض اتِّبَاعه على من بعدهمْ وَلَا يجوز أَن يزِيد اجماع الصحابه قُوَّة فِي ايجابة مُوَافقَة من بعدهمْ لَهُم كَمَا لاتقدح فِيهِ مُخَالفَة من بعدهمْ لَو خالفوهم بل من خالفهم وخرق الأجماع الْمُتَيَقن على علم مِنْهُ بِهِ فَهُوَ كَافِر اذا قَامَت الْحجَّة عَلَيْهِ بذلك وَتبين لَهُ الْأَمر وعاند الْحق وان كَانَ اجماع الْعَصْر الْمُتَأَخر على مَا صَحَّ فِيهِ اخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَهَذَا بَاطِل وَلَا يجوز ان يجْتَمع اجماع وَاخْتِلَاف فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة لِأَنَّهُمَا ضدان والضدان لَا يَجْتَمِعَانِ مَعًا واذا صَحَّ الِاخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَلَا يجوز ان يحرم على من بعدهمْ مَا حل لَهُم من النّظر وَأَن يمنعوا من الاجتمهاد الَّذِي أداهم الى الِاخْتِلَاف فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة اذا أدّى انسان بعدهمْ دَلِيل الى مَا أدّى اليه دَلِيل بعض الصَّحَابَة لِأَن الدّين لَا يحدث على مَا قُلْنَا قبل وَمَا كَانَ
1 / 21
مُبَاحا فِي وَقت مَا بعد موت النَّبِي ﷺ َ - فَهُوَ مُبَاح ابدا وَمَا كَانَ حرَام فِي وَقت مَا فَلَا يجوز بعده أَن يحل أبدا قَالَ الله تَعَالَى ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾
وبرهان آخر وَهُوَ أَن هَؤُلَاءِ أهل هَذَا الْعَصْر الْمُتَأَخِّرين وَمن وافقوه من الصَّحَابَة أَنما هم بعض الْمُؤمنِينَ بِيَقِين اذا لم يدْخل فيهم من روى عَنهُ الْخلاف فِي ذَلِك من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم واذ لَا شكّ فِي أَنهم بعض الْمُؤمنِينَ فقد بَطل ان يكون اجماع لِأَن الاجماع انما هُوَ اجماع جمع الْمُؤمنِينَ لَا اجماع بَعضهم لِأَن الله تَعَالَى نَص على ذَلِك بقوله تَعَالَى ﴿وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر﴾ وَإِذا اجْمَعْ بعض دون بعض فَهِيَ حَال تنَازع فَلم يَأْمر تَعَالَى فِيهَا بِاتِّبَاع بعض دون بعض لَكِن بِالرَّدِّ الى الله تَعَالَى وَالرَّسُول ﷺ فيطل هَذَا القَوْل بِيَقِين لَا مرية فِيهِ وَللَّه الْحَمد
ثمَّ نَظرنَا فِي الْقسم الثَّالِث وَهُوَ اجماع الْعَصْر الْمُتَأَخر على مَا لم يحفظ فِيهِ اجماع وَلَا خلاف بَين الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم لَكِن اما على حكم حفظ فِيهِ قَول عَن بعض الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم دون بعض أَو لم يحفظ فِيهِ عَن أحد مِنْهُم من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم شَيْء فوجدناه لَا يَصح لبرهانين
أَحدهمَا أَنهم بعض الْمُؤمنِينَ لَا كلهم وَلم يَقع قطّ على أهل عصر بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم اسْم جَمِيع الْمُؤمنِينَ لأَنهم قد سلف قبلهم خِيَار الْمُؤمنِينَ فاذن أهل كل عصر بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم انما هم بعض الْمُؤمنِينَ بِلَا شكّ وَعَلِيهِ فقد بَطل أَن يكون اجماعهم اجماع الْمُؤمنِينَ وَلم يُوجب الله
1 / 22
تَعَالَى علينا قطّ اتِّبَاع سَبِيل بعض الْمُؤمنِينَ وَلَا طَاعَة بعض أولى الْأَمر وَأما الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فانهم فِي عصرهم كَانُوا جَمِيع أولى الْأَمر اذ لم يتكن مَعَهم أحد غَيرهم فصح أَن اجماعهم هُوَ اجماع جَمِيع الْمُؤمنِينَ بِيَقِين لَا شكّ فِيهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَبَطل ذَلِك القَوْل جملَة اذ لَا يحل لأحد أَن يُوجب فِي الدّين مَا لم يُوجِبهُ الله تَعَالَى على لِسَان نبيه ﷺ َ - وَأَيْضًا فَأَنَّهُ لَا يجوز لأحد الْقطع على صِحَة اجماع اهل عصر مَا بعد الصابة رضى الله عَنْهُم على مَا لم يجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة بل يكون من قطع بذلك كَاذِبًا بِلَا شكّ لِأَن الْأَعْصَار بعد الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم من التَّابِعين فَمن بعدهمْ لَا يُمكن ضبط أَقْوَال جَمِيعهم وَلَا حصرها أَنهم ملاوا الدُّنْيَا وَللَّه الْحَمد من أقْصَى السَّنَد وخراسان وأرمينية وأذربيجان والجزيرة وَالشَّام ومصر وافريقية والأندلس وبلاد البربر واليمن وجزيرة الْعَرَب وَالْعراق والأهواز وَفَارِس وكرمان ومكران وسجستان وأردبيل وَمَا بَين هَذِه الْبِلَاد
وَمن الْمُمْتَنع أَن يُحِيط أحد بقول كل انسان فِي هَذِه الْبِلَاد وانما يَصح الْقطع على اجماعهم على مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة ببرهان أوضح وَهُوَ أَن الْيَقِين قد صَحَّ على أَن كل من وَافق من كل هَؤُلَاءِ اجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَهُوَ مُؤمن وَمن خَالفه جَاهِلا باجماعهم فَهُوَ كَافِر فقد سقط بذلك عَن أَن يكون من جملَة الْمُؤمنِينَ الَّذين اجماعهم اجماع وَلَيْسَ هَذَا الحكم جَارِيا على من خَالف أهل عصر هُوَ مِنْهُم وانما صَحَّ الْقطع على اجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم لأَنهم كَانُوا عددا محصورا مُجْتَمعين فِي الْمَدِينَة وَمَكَّة مَقْطُوعًا على أَنهم مطيعون لرَسُول
1 / 23
الله ﷺ َ - وَأَن من اسْتحلَّ عصيانة ﵇ فَلَيْسَ مِنْهُم بل هُوَ خَارج عَن الايمان مبعد عَن الْمُؤمنِينَ
فصح بِيَقِين لَا مرية فِيهِ أَن الاجماع المفترض علينا اتباعة انما هُوَ اجماع الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم فَقَط وَلَا يجوز ان يجمع اهل عصر بعدهمْ على خطأ لِأَن الله تَعَالَى قد ضمن ذَلِك لنا بقوله تَعَالَى ﴿وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم رَبك﴾ وَالرَّحْمَة انما هِيَ للمحسنين بِنَصّ الْقُرْآن فاذا كَانَ قطع على انه لم يكن خلاف فَهُوَ اجماع على حق يُوجب الرَّحْمَة وَلَا بُد واذا لم يكن قطع تَامّ باجماع على غير مَا يُوجب الرَّحْمَة بِنَصّ الْقُرْآن مَعَ مَا حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف ثَنَا أَحْمد بن فتح ثَنَا عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى ثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد ثَنَا أَحْمد بن عَليّ ثَنَا مُسلم بن الْحجَّاج ثَنَا سعيد بن مَنْصُور وَأَبُو الرّبيع الْعَتكِي وقتيبة قَالُوا ثَنَا حَمَّاد هُوَ ابْن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن أبي قلَابَة عَن أبي أَسمَاء الرَّحبِي عَن ثَوْبَان قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ َ - لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق لَا يضرهم من خذلهم حَتَّى يأتى أَمر الله وَزَاد الْعَتكِي وَسَعِيد فِي روايتهما وهم كَذَلِك
وَأخْبرنَا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله الْهَمدَانِي ثَنَا أَبُو اسحق الْبَلْخِي ثَنَا الْفربرِي ثَنَا البُخَارِيّ ثَنَا الْحميدِي ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم ثَنَا ابْن جَابر هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر قَالَ حَدثنِي عُمَيْر ابْن هاني أَنه سمع مُعَاوِيَة قَالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ َ - يَقُول لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي أمة قَائِمَة بِأَمْر
1 / 24
الله مَا يضرهم من كذبهمْ وَلَا من خالفهم حَتَّى يَأْتِي أَمر الله وهم على ذَلِك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى وَبِمَا ذكرنَا آنِفا فِي ابطال الْقسم الثَّالِث بَطل قَول من قَالَ أَن مَا صَحَّ عَن طَائِفَة من الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم وَلم يعرف عَن غَيرهم انكار لذَلِك فانه مِنْهُم اجماع لِأَن هَذَا انما هُوَ قَول بعض الْمُؤمنِينَ كَمَا ذكرنَا وَأَيْضًا فان من قطع على غير ذَلِك الْقَائِل بِأَنَّهُ مُوَافق لذَلِك الْقَائِل فقد قفا مَا لَا علم لَهُ بِهِ وَهَذَا اجرام قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا﴾ فليتق الله تَعَالَى كل امريء على نَفسه وليفكر فِي أَن الله تَعَالَى سَائل سَمعه وبصره وفؤاده عَمَّا قَالَه مِمَّا لَا يَقِين عِنْده بِهِ وَمن قطع على انسان بِأَمْر لم يوقفه عَلَيْهِ فقد وَاقع الْمَحْذُور وَحصل لَهُ الاثم فِي ذَلِك فان قيل هم أهل الْفضل والسبق فَلَو انكروا شَيْئا لما ستكتوا عَنهُ قُلْنَا وَبِاللَّهِ تالى التَّوْفِيق
هَذَا لَو صَحَّ لَك انهم كلهم علموه وسكتوا عَلَيْهِ وعذا مَا لَا سَبِيل الى وجوده فِي قَول قَائِل مِنْهُم أبدا لِأَن الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم تفَرقُوا فِي بِلَاد الْيمن وَمَكَّة والكوفة وَالْبَصْرَة والرقة وَالشَّام ومصر والبحرين وَغَيرهَا فصح ان من ادّعى فِي قَول روى عَن بعض الصَّحَابَة أما من الْخُلَفَاء أَو من غَيرهم ان جَمِيعهم عرفه فقد افترى على جَمِيعهم بِلَا شكّ وانما يقطع على اجامعهم فِيمَا يرى أَنهم عرفوه كالصوات الْخمس وَصِيَام شهر رَمَضَان والتحج الى الْكَعْبَة
1 / 25
وَتَحْرِيم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَالْخمر وَسَائِر مَا لَا شكّ فِي أَنهم عرفوه وَقَالَهُ بِهِ بِيَقِين لاشك فِيهِ هَذَا على أَن الْفتيا لم ترو إِلَّا عَن مائَة وَثَمَانِية وَثَلَاثِينَ مِنْهُم فَقَط وهم أُرِيد من عشْرين ألفا فَبَطل مَا ظَنّه أهل هَذَا القَوْل بِلَا تَحْصِيل
واما الحنفيون والكاليون والشافعيون المحتجون بِهَذَا اذا وَافق تقليدهم فهم أَشد خلق الله تَعَالَى خلافًا لطائقة من الصَّحَابَة لَا يعرف لَهُم مِنْهُم مُخَالف كخلافهم مَا صَحَّ عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس من ايجاب الْغسْل لكل صَلَاة أَو صَلَاتَيْنِ مجموعتين على الْمُسْتَحَاضَة وَعَن عَائِشَة أَن من يغْتَسل فِي كل يَوْم عِنْد صَلَاة الظّهْر وَلَا مُخَالف لَهُم يعرف من الصَّحَابَة ﵃ وَغير ذَلِك كثير يبلغ مِائَتَيْنِ من الْمسَائِل قد جمعناها وَللَّه الْحَمد فِي كتاب
نعم وخالفوا الاجماع الصَّحِيح الْمُتَيَقن كخلافهم جَمِيع الصَّحَابَة أَوَّلهمْ عَن آخِرهم فِي اجازتهم مُسَاقَاة أهل خَيْبَر الى غير أجل قائلين لَهُم وَلَكنَّا نخرجكم اذا شِئْنَا طول خلَافَة ابي بكر وَعمر وَلَا مخالفهم لَهُم أصلا وَغير ذَلِك كثير قد تقصيناه عَلَيْهِم أَيْضا وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
فصل
وَأما من قَالَ ان الاجماع اجماع أل الْمَدِينَة لفضلها وَلِأَن اهلها شهدُوا نزُول الْوَحْي فَقَوْل خطأ من وُجُوه أَحدهمَا أَنَّهَا دَعْوَى بِلَا برهَان وَالثَّانِي ان فضل الْمَدِينَة بَاقٍ بِحَسبِهِ وَالْغَالِب على أَهلهَا الْيَوْم الْفسق بل الْكفْر من غَالِيَة الروافض فَنَقُول وانا لله وانا اليه رَاجِعُون على ذَلِك وَالثَّالِث ان الَّذين شهدُوا الْوَحْي انما هم الصَّحَابَة رضى
1 / 26
الله عَنْهُم لَا من جَاءَ بعدهمْ من أهل الْمَدِينَة وَعَن الصَّحَابَة أَخذ التابعون من أهل كل مصر وَالرَّابِع أَن كل خلاف وجد فِي الْأمة فَهُوَ مَوْجُود فِي الْمَدِينَة على مَا قد سلف فِي كتبنَا وَالْحَمْد لله تَعَالَى كثيرا وَالْخَامِس ان الْخُلَفَاء الَّذين كَانُوا بِالْمَدِينَةِ لَا يَخْلُو حَالهم من اُحْدُ وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما أما أَن يَكُونُوا قد بينوا لأهل الامصار من رعيتهم حكم الدّين أَو لم يبينوا فان كَانُوا قد بينوا لَهُم الدّين فقد اسْتَوَى اهل الْمَدِينَة وَغَيرهم فِي ذَلِك وان كَانُوا لم يبينوا لَهُم فَهَذِهِ صفة سوء قد اعاذهم الله تَعَالَى مِنْهَا فَبَطل قَول هَؤُلَاءِ بِيَقِين وَالسَّادِس أَنه انما قَالَ ذَلِك قوم من الْمُتَأَخِّرين ليتوصلوا بذلك الى تَقْلِيد مَالك بن أنس دون عُلَمَاء الْمَدِينَة جَمِيعًا وَلَا سَبِيل لَهُم الى مَسْأَلَة وَاحِدَة أجمع عَلَيْهَا جَمِيع فُقَهَاء أهل الْمَدِينَة المعروفون من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ خالفهم فِيهَا سَائِر الامصار وَالسَّابِع انهم قد خالفوا اجماع اهل الْمَدِينَة وَغَيرهم فِي الْمُسَاقَاة كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي غير ذَلِك
فصل
واذا اخْتلف النَّاس على قَوْلَيْنِ فَصَاعِدا وَصَحَّ النَّص شَاهدا لأَحَدهمَا فَهُوَ الْحق واجماعهم فِي تِلْكَ المسئله هُوَ الْحجَّة اللَّازِمَة لِأَنَّهُ اجماع أهل الْحق واجماع اهل الْحق حق
فصل فِي نَوْعَيْنِ من الاجماع
غذا اجْتمعت الامة على اباحة شَيْء اَوْ تَحْرِيمه اَوْ ايجابه ثمَّ
1 / 27
ادّعى بَعضهم ان ذلتك الحكم تقد انْتقل لم يلْتَفت الى قَوْله تإلا بِنَصّ وَألا فَقَوله بَاطِل لِأَنَّهُ دَعْوَى لَا اجماع مَعهَا وَلَا نَص من كتاب وَلَا سنة فَهِيَ سَاقِطَة لقَوْله تَعَالَى ﴿قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ قصح ان من لَا برهَان لَهُ فَلَيْسَ صَادِقا أعنى فِي ذَلِك
وَأما اذا جَاءَ نَص بِحكم مَا ثمَّ خص الاجماع بعضه فَوَاجِب الانقياد للأجماع فان ادّعى مُدع ان ذَلِك التَّخْصِيص متماد وَخَالفهُ غَيره فاواجب قطع ذَلِك التَّخْصِيص وَالرُّجُوع الى النَّص اذ هُوَ الْبُرْهَان
برهَان ذَلِك ان دَعْوَى التَّخْصِيص هَاهُنَا عَارِية من الاجماع وَمُخَالفَة للنَّص فَهِيَ بَاطِلَة
فَالْأول نُسَمِّيه اسْتِصْحَاب الْحَال كَقَوْلِنَا فِيمَا ادَّعَاهُ قوم من فسخ النِّكَاح بالعنة وابالعيب قد صَحَّ النِّكَاح باجماع فَلَا يَزُول الا بِنَصّ اَوْ اجماع
وَالثَّانِي نُسَمِّيه أقل مَا قيل مثل ان النَّص ورد تَحْرِيم الْأَقْوَال ثمَّ جَاءَ اجماع باباحة شَيْء مِنْهَا فَلَا نُبيح مَا قَالَه قَائِل فِي ذَلِك بِزِيَادَة على مَا اباحه الاجماع فَهَذَا حكم الاجماع وَبَينه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فصل فِي الْكَلَام فِي حكم الِاخْتِلَاف
وَأما اذا لم يَصح اجماع فقد وَجب وُقُوع التَّنَازُع وَالِاخْتِلَاف لما ذَكرْنَاهُ من قَول الله تَعَالَى ﴿وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول﴾ الْآيَة وَلقَوْله تَعَالَى ﴿وَلَا يزالون مُخْتَلفين إِلَّا من رحم رَبك﴾
1 / 28
وَلما وصفناه من أَنه اذا لم يكن اجماع فَلَا بُد من الْخلاف ضَرُورَة لِأَنَّهُمَا متنافيان اذا ارْتَفع احدهما وَقع الآخر وَلَا بُد واذا كَانَ كَذَلِك فالمرجوع اليه هُوَ مَا افْترض الله تَعَالَى علينا الرُّجُوع اليه من الْقُرْآن وَالسّنة بقوله ﷿ ﴿فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر﴾ وَقَالَ ﷿ عَن نبيه ﷺ َ - ﴿وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى﴾ فصح ان كَلَامه كُله ﵇ عَن وَحي من الله تَعَالَى اذا كَانَ فِيمَا تعبدنا بِهِ خالقنا تَعَالَى لقَوْله ﵇ ﴿أَنا أعلم بِأَمْر دينكُمْ﴾ الحَدِيث وَقَالَ تَعَالَى ﴿وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم﴾ فصح أَنه لَا يحل التحاكم عِنْد الِاخْتِلَاف الا الى الْقُرْآن وَالسّنة
فصل فِي النَّقْل الْمُتَوَاتر
فَأَما الْقُرْآن فمنقول نقل الكواف والتواتر وَأما السّنة فَمِنْهَا مَا جَاءَ متواترا وَمِنْهَا خبر الْآحَاد الْعدْل عَن مثله وَقد يَقع فِيهِ الْعدْل عَن العدلين وَعَن الثَّلَاثَة وَالثَّلَاثَة عَن الْوَاحِد وَهَذَا كثير وَهُوَ صَحِيح مُسلم مَوْجُود حَيْثُ طلب
فَأَما مَا نقل نقل الكواف فَلَا يخْتَلف اثْنَان من الْمُسلمين فِي وجوب الطَّاعَة لَهُ وان كَانَ بَعضهم قد خَالف فِي تَفْصِيل ذَلِك فنقلوا قَوْلهم وأخطأوا بِيَقِين
فصل فِي خبر الْوَاحِد وأنواعه
فَأَما مَا نَقله واححد عَن وَاحِد فينقسم أقساما ثَلَاثَة
1 / 29
احدها مَا نَقله الثِّقَة عَن الثِّقَة حَتَّى يبلغ رَسُول الله ﷺ وَمِنْه مَا ينْقل كَذَلِك وَفِيهِمْ رجل مَجْرُوح أَو سيء الْحِفْظ أَو مَجْهُول وَمِنْه مَا نقل كَذَلِك وَالْقطع فِي طَرِيقه مثل ان يبلغ الى التَّابِع ثمَّ يَقُول قَالَ رَسُول الله ﷺ َ - فَهَذَا هُوَ الْمُرْسل وَأَن يَقُول تَابع أَو من دونه قَالَ فلَان الصاحب عَن رَسُول الله ﷺ َ - وَذَلِكَ الْقَائِل لم يدْرك ذَلِك الصاحب فَهَذَا هُوَ الْمُنْقَطع
فَنَظَرْنَا فِي هَذِه الْوُجُوه فَوَجَدنَا قوما يَقُولُونَ انها كلهَا سَوَاء وانها كلهَا يجب الْآخِذ بهَا وَهَذَا قَول جُمْهُور الحنفيين والمالكيين وَهَذَا خطأ لِأَن الْمُرْسل والمنقطع لَا يدْرِي من رَوَاهُ واذا لم يعرف من رَوَاهُ أثقه هُوَ أم غير ثقه فَلَا يحل الحكم فِي الدّين بِنَقْل مَجْهُول لَا يدْرِي من هُوَ وَلَا كَيفَ ححاله فِي حمله للْحَدِيث
فقد يكون ثِقَة صَالحا وَيرد حَدِيثه اذا كَانَ مغفلا غير شابط وَلَا مُسْتَقِيم الحَدِيث سِيمَا اذا كَانَ كَاذِبًا اَوْ دَاعيا الى بِدعَة وكل هَذَا لَا يُؤمن فِي الْمَجْهُول الَّذِي يحْتَج بِهِ فِي الْمُرْسل وَقد أمرنَا تَعَالَى بترك مَا لم نعلم قَالَ تَعَالَى ﴿وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم﴾ فَمن اخذ مَا اخبر بِهِ عَمَّن لَا يدْرِي من هُوَ فقد قَالَ عَليّ الله وعَلى رَسُوله ﷺ َ - مَا لَا علم بِهِ وَهَذَا لَا يحل وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَجْهُول الْحَال
1 / 30
وَأما مَا رَوَاهُ الْمَجْرُوح فالمجروح فَاسق وَقد قَالَ تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين﴾ وَمن حكم بِرِوَايَة مَجْهُول من مُرْسل اَوْ مَوْقُوف أَو مَجْهُول الْحَال فقد أصَاب قوما بِجَهَالَة وان لم يتثبت فليصبح على مَا فعل من النادمين
قَالَ أَبُو مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى وَمن صَحَّ عَنهُ أَنه يُدَلس الْمُنْكَرَات على الضُّعَفَاء الى الثِّقَات فَهُوَ اما مَجْرُوح واما حكمه حكم الْمُرْسل فَلَا يجوز قبُول رِوَايَته وَلقَائِل ان يَقُول انه ادون حَالا من صَاحب الْمُرْسل لِأَنَّهُ قد يُرْسِلهُ عَن ثقه وَقد يُرْسِلهُ عَن غير ثِقَة فأخذنا بالآحوط فِي الْكَشْف عَن حَال الْمُرْسل عَنهُ وَلَيْسَ المدلس للمنكرات كَذَلِك فَهُوَ أَحَق بِالرَّدِّ مِنْهُ
وبالجمله فَلَا يحل أَن نخبر عَن الله تَعَالَى وَلَا عَن رَسُوله ﷺ َ - إِلَّا بِمَا أَمر الله تَعَالَى ان يخبر عَنهُ بِهِ وَلم يَأْتِ نَص قُرْآن وَلَا سنة صَحِيحه وَلَا اجماع على وجوب قبُول خبر مُرْسل وَلَا مُنْقَطع وَلَا رِوَايَة فَاسق وَلَا مَجْهُول الْحَال عَن الله تَعَالَى وَلَا عَن رَسُوله ﷺ َ - فَلم يبْق الا مارواه القثة مبلغا الى رَسُول الله ﷺ َ - فَنَظَرْنَا فِي هَذَا فوجنا برهانين يُوجب الله تَعَالَى بهما قبُوله وَلَا بُد
أَحدهمَا قَول الله تَعَالَى ﴿فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون﴾ فأسقط الله ﷿ عَن جَمِيع الْمُؤمنِينَ أَن يتفرقوا للتفقه فِي الدّين وانذار قَومهمْ بِمَا تفقهوا فِيهِ والطائفة فِي لُغَة الْعَرَب الَّتِي بهَا نزل الْقُرْآن وَقَالَ تَعَالَى
1 / 31
مخبرا عَنهُ ﴿بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين﴾ هِيَ بعض الشَّيْء وَلم يخص قطّ بِلَفْظ الطَّائِفَة عددا دون عدد بل هِيَ لَفظه تقع على الْوَاحِد وعَلى أَكثر من الْوَاحِد الى مَا يُمكن وجوده وَلَو آلَاف آلَاف اذا كَانُوا مصافين الى غَيرهم
وبيقين نَدْرِي أَن الله تَعَالَى لَو أَرَادَ تَخْصِيص عدد دون عدد لبينه واذ لم يبين ﷿ ذَلِك بِيَقِين نَدْرِي أَنه أَرَادَ الْوَاحِد فَصَاعِدا اذ محَال ان ينفرنا تَعَالَى ويلبس علينا قَالَ تَعَالَى ﴿تبيانا لكل شَيْء﴾ فصح قبُول نذاره الْوَاحِد الثِّقَة النافر للثقة فِي الدّين والآخذ بنذارته لحذر مَا يخَاف من عِقَاب الله تَعَالَى فِي الْمعْصِيَة وَقبُول النذارة لَيْسَ الا رِوَايَة مَا يحمل النَّاذِر
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَيْسَ إِلَّا فَاسق اَوْ عدل فَسقط قبُول الْفَاسِق بقوله تَعَالَى ﴿إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين﴾ فَلم يبْق الا الْعدْل فصح يَقِينا وجوب قبُول نذارته وَقبُول قَوْله فِيمَا روى لنا مِمَّا تفقه فِيهِ وبلغه الين عَن رَسُول عَن لله ﷺ َ - مبلغا ثِقَة عَن ثِقَة اَوْ ثِقَة عَن اكثر من وَاحِد اَوْ اكثر من وَاحِد عَن ثِقَة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
والبرهان الثَّانِي هُوَ اجماع جَمِيع الامم مؤمنها وكافرها على ان رَسُول الله (صل) بعث رسله الى الْقَبَائِل والملوك داعين الى الله ﷿ وَبعث الى كل جِهَة أَمِير يعلمهُمْ دينهم وَينفذ عَلَيْهِم احكام الله تَعَالَى فِي التَّعْلِيم لَهُم تَعْلِيم الصَّلَاة واحكامها وَالصَّوْم واحكامه وَالزَّكَاة واحكامها وَالْحج واحكامه وَالْجهَاد واحكامه والأقضية
1 / 32
فِي خصوماتهم ونكاحهم وطلاقهم وبيوعهم وَمَا يحل من ذَلِك وَمَا يحرم وَمَا يلْزم وَمَا يحل وَيحرم من المآكل والمشارب والملابس هَذَا مَالا خلاف فِيهِ فاذا قد الزمهم ﵇ طَاعَة اولئك الْأُمَرَاء وَهُوَ ﵇ حَيّ غَائِب عَنْهُم فقد صَحَّ ان ذَلِك يكون بَاقِيا الى يَوْم الْقِيَامَة
وَبعد مَوته ﵇ بِيَقِين شكّ فِيهِ لِأَنَّهُ تخبر عدل لَازم وَلَا فرق فان اعْترض معترض بِحَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ وَأَنه ﷺ لم يصدقهُ حَتَّى سَأَلَ النَّاس فَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَن ذَا الْيَدَيْنِ انما أخبر النَّبِي ﷺ َ - بِخَبَر عَن فعل النَّبِي ﷺ َ - لَا عَن غَيره وأعلمه أَنه ﵇ وهم وَلم يقدر عَلَيْهِ وَالسَّلَام انه وهم وامكن ان يكون ذَا الْيَدَيْنِ وهم فَلهَذَا تثبت النَّبِي ﷺ َ - لَا لما عدا ذَلِك والا فَلَا خلاف فِي أَنه ﵇ كَانَ يَأْتِيهِ الْوَاحِد عَن قومه فيصقه وَيعْمل بِخَبَرِهِ وَيبْعَث مَعَه المخاطبة والوالي وَنَحْو ذَلِك وانه كَانَ يبْعَث الْمُصدق وَحده اَوْ اثْنَيْنِ فَيقوم الْحجَّة بذلك على من أَتَاهُ الْمُصدق وَيلْزمهُ اداء صدقته اليه وَهَكَذَا فِي كل شَيْء من الدّين
فان قيل الرَّسُول والأمراء كَانَت تَأتي مَعَهم وقبلهم وبعدهم بخبرهم قُلْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
لَا شكّ فِي أَن الرفاق لم تأت بِجَمِيعِ الآحكام الَّتِي يُخْبِرهُمْ بهَا الْأُمَرَاء وَالرسل فَبَطل هَذَا الِاعْتِرَاض بِيَقِين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
فصل الْعدْل السيء الْحِفْظ لَا يجوز ان تقبل رِوَايَته
لِأَن الله تَعَالَى أمرنَا بِقبُول نذارة من تفقه فِيمَا سمع وَمن سَاءَ حفظَة لم يتفقه فِيمَا سمع اذ التفقه انما هُوَ الْفَهم والتدبر فِيمَا حمله من الْآمِر الشَّرْعِيّ على صرافته حَسْبَمَا حمله اذ من الْمحَال ان يكون من سَاءَ حفظَة وَلم يتَيَقَّن مَا حمله تفقه
1 / 33
فِيمَا لم يتَيَقَّن مِمَّا لم يضبطه وَالْمَرْأَة وَالْعَبْد وَالْأمة فِي كل مَا ذكرنَا سَوَاء لعُمُوم قَوْله تَعَالَى ﴿طَائِفَة﴾ وَقد صَحَّ الأجماع على أَن النِّسَاء وَالْعَبِيد والاماء يلْزمهُم الدّين كَمَا يلْزم الآحرار وَالرِّجَال وَلَا فرق وان اخْتلفت الْأَحْكَام فِي بعض ذَلِك بِدَلِيل لَا بِغَيْر دَلِيل
فصل
فاذا جَاءَ خبر الرَّاوِي الثِّقَة عَن مثله مُسْندًا الى رَسُول الله ﷺ َ - فَهُوَ مَقْطُوع بِهِ على أَنه حق عِنْد الله ﷿ مُوجب صِحَة الحكم بِهِ اذا كَانَ جَمِيع رُوَاته مُتَّفقا على عدالتهم أَو مِمَّن ثبتَتْ عدالتهم وان اعْترض معترض فِي بَعضهم مِمَّن لم يَصح اعتراضه أَو اعْترض بِمَا لَا يَصح الِاعْتِرَاض بِهِ برهَان ذَلِك قَول الله تَعَالَى ﴿إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون﴾ وَقد صَحَّ بِيَقِين افتراض الله علينا قبُول مَا رَوَاهُ لنا الثِّقَات وَمن الْبَاطِل الْمُتَيَقن مَعَ حفظ الله تَعَالَى الدّين ان يلْزمنَا قبُول شَرِيعَة باطله لم يَأْمر الله تَعَالَى هُوَ بهَا قطّ
هَذَا امْر قد أمناه بِضَمَان الله تَعَالَى ذَلِك لنا وَهَذَا بِخِلَاف شَهَادَة اشهود لِأَن الله تَعَالَى لم يضمن لنا قطّ ان الشُّهُود لَا يشْهدُونَ غلا الْحق بل قد بَين لنا رَسُول الله ﷺ َ - انهم قد يشْهدُونَ بباطل اذ يَقُول ﵇ فَمن قضيت لَهُ من حق أَخِيه بِشَيْء فَلَا يَأْخُذهُ فانما اقْطَعْ لَهُ قِطْعَة من النَّار وَمن الْمَعْلُوم ان كل من حَاكم اليه ﷺ َ - لم يكن بخصام اثْنَيْنِ فَقَط احدهما الحن بحجته من الآخر ابدا وانما يكون الحكم مرّة بِشَهَادَة من توجب الْحق شَهَادَته وَمرَّة يتَعَيَّن الحكم بِفضل لحن خطاب احدهما على الآخر
1 / 34