: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول الأنباري التنوخي المعروف والده بأبي بكر الأزرق ، قال : كان أبو عيسى أخو أبي صخرة جارنا ببغداد ، وكان عظيم الحال ، كثير المال ، تام الجاه ، شيخا من شيوخ الكتاب ، قد تقلد كبار الأعمال ، وخلف إسماعيل بن بلبل قديما على الوزارة ، فلما ولي محمد بن عبيد الله الخاقاني الوزارة قلد ديوان السواد ، فلما صرف بأبي الحسن علي ابن عيسى وورد أبو الحسن من اليمن والشام ، لما كان نفي إليه عقيب قصة ابن المعتز ، وتقلد الوزارة ، لم يره أهلا لديوان السواد ، ولأن صنعته لم تكن بالتامة التي تفي بهذا الديون ، ولم يمكنه صرفه لمكانه كانت له في الدار ، فكان يقصده بالغض في المجالس ، ولا يرفعه الرفعة التي يستحقها صاحب ديوان السواد ، وإذا أراد عملا من الديوان أو خراجا أو حسابا وقع إلى كتاب الديوان ، استدعاهم ، وخاطبهم وهو حاضر ، لا يكلمه في ذلك ، فيغض منه بهذا ، الغض الشديد ، فإذا أراد عملا يعلم أن صناعة أبي عيسى لا تفي به وأنه لا يمكنه الكلام عليه ، خاطبه فيه على رؤوس الأشهاد ، ليبين نقصة ويفتضح ، وإذا أراد مهما أحضر كتاب الديوان فخاطبهم فيه ، ليكون ذلك نهاية الغض منه . فلما طال ذلك على أبي عيسى ، جلس عنده يوما حتى لم يبق في مجلسه غيره ، وغير إبراهيم بن عيسى أخي الوزير . فقال له علي بن عيسى : هل من خاجة ؟ فقال : نعم ، إذا خلا مجلس الوزير . قال : فأخبرت عن إبراهيم إنه قال : لما سمعت هذا قمت وانصرفت فلما كان من الغد جئت إلى أخي ، فوجدت أبا عيسى في صدر المجلس ، حيث يستحق الديوان أن يكون وهو يأمر ، وينهي ، وينبسط ، ويتكلم ، والخطاب معه في الأعمال دون الكتاب ، وقد صار في السماء . فدعتني نفسي إلى مسألة الوزير عن ذلك ، فجلست إلى أن لم يبق في مجلسه غيري ، فقال : شيء تقوله يا بني ؟ فقلت : شيء من الفضول أريد أن أسأل الوزير عنه . فقال : إن كان فضولا فلا تسل عنه . قال : قلت لا بد . فقال : هات . قلت : استخلاك أمس أبو عيسى فأخليته ، ثم رأيت اليوم تعامله بضد ما كنت تعمله قبل هذا ، فما سبب ذلك ؟ . فقال : نعم ، إنه خاطبني بخطاب عظم به في عيني ، وكبر به في نفسي ، وعلمت صدقه فيه ، فرجعت له ، قال لي ، وقد خلا بي : أيها الوزير ، أنا رجل شيخ من شيوخ الكتاب ، عارف بمقدار ما أحسنه من صناعة الكتابة ، وتقصيري فيها عن الغاية ، وليس يخفي علي ما يعاملني به الوزير من الغض والهتك والتعريض للفضيحة في الصناعة ، ومخاطبة الكتاب في الديوان إذا أراد مهما ، ومخاطبتي إذا نزل معضل ، ويجب أن يعلم الوزير أيده الله ، أن حالي ، ومالي ، وباطني ، أكثر مما يقع له ، ويعرفه من ظاهري على كثرته ، وأني ما أتصرف طلبا للفائدة ، ولا خوفا من الفقر ، وإنما أريد الزيادة في الجاه ، واتصال نفوذ الأمر والنهي ، وقد عشت طول هذه السنين ، آمرا ، ناهيا ، مستورا في صناعتي ، ما تعرض لي أحد من الوزراء ، ولا تعرضت لهم ، وسلمت عليهم ، وسلموا علي ، ومهما عمله الوزير في من الغض فليس يمكنه أن يزيل من نفوس الخاصة والعامة ، أني خلفت إسماعيل بن بلبل على الوزارة ، وتقلدت كذا وكذا ، وأخذ يعدد كبار الأعمال التي وليها ، وأن مثل هذا لا يناط بعاجز ، ولا أن يستخرج من النفوس عظم محلي فيها ، مع سعة الحال ، وكثرة الضياع والمال ، ولا يمكنه في طمس محلي أكثر مما قد عمله ، وأنا بين أمور ، إما توصلت إلى إزالة ذلك عني بما لعله يثقل على الوزير ، وآثرت صفاء نيته فاستعفيت من العمل ، ولزمت بيتي ، فلم أكن فيه خاملا ولا ساقطا ثم حصلت حيث أختار ، من الكون في جملة أولياء الوزير أو أعدائه ، فإما أعفاني مما يستعمله معي ، وردي الخبر إلى العادة التي يستحقها من نصب في مثل منصبي ، أو أعفاني من العمل لألزم بيتي . فقلت له : يا أبا عيسى ، لن ترى بعد هذا شيئا تنكره ، ولن أكون لك إلا على أفضل محبتك ، فبكر إلى ليبين لك مصداق ذلك . فلما جاءني اليوم ، عاملته بما رأيته .
Page 25