: سمعت الأمير أبا محمد ، جعفر بن ورقاء ، بن محمد بن ورقاء الشيباني ، يحدث في سنة تسع وأربعين وثلثمائة ، قال : اجتزت بابن الجصاص ، بعد إطلاقه إلى داره من المصادرة بأيام ، وكانت بيننا مودة ومصاهرة ، فرأيته على روشن داره ، على دجلة ، في وقت حار ، من يوم شديد الحر ، وهو حاف حاسر ، يعدو من أول الروسن إلى آخره ، كالمجنون . فطرحت طياري إليه ، وصعدت بغير إذن ، فلما رآني استحيا ، وعدا إلى مجلس له . فقلت له : ويحك ما لك ، ما الذي قد أصابك ؟ . فدعا بطست وماء ، فغسل وجهه ورجليه ، ووقع ساعة كالمغشي عليه ، ثم قال : أولا يحق لي أ ، أن يذهب عقلي ، وقد خرج من يدي كذا ، وأخذ مني كذا ، وجعل يعدد أمرا عظيما مما خرج منه ، فمتى أطمع في خلفه ، ولم لا يذهب عقلي أسفا عليه ؟ . فقلت له : يا هذا إن نهايات الأموال غير مدركة ، وإنما يجب أن تعلم أن النفوس لا عوض لها ، والعقوا والأديان ، فما سلم لك ذلك ، فالفضل معك ، وإنما يقلق هذا القلق ، من يخاف الفقر ، والحاجة إلى الناس ، أو فقد العادة في مأكول ومشروب وملبوس ، وما جرى مجرى ذلك ، أو النقصان في جاه ، فاصبر ، حتى أوافقك أنه ليس ببغداد اليوم ، بعد ما خرج منك ، أيسر منك من أصحاب الطيالس . فقال : هات . فقلت : أليس دارك هذه ، هي التي كانت قبل مصادرتك ، ولك فيها من الفرش والأثاث ما فيه جمال لك ، وإن لم تكن في ذلك الكبر المفرط ؟ . فقال : بلى . فقلت : وقد بقي لك عقارك بالكرخ ، وقيمته خمسون ألف دينار . فقال : بلى . فقلت : ودار الحرير وقيمتها عشرة آلاف دينار . قال : بلى . فقلت : وعقارك بباب الطاق ، وقيمته ثلاثون ألف دينار . فقال : بلى . قلت : وبستانك الفلاني ، وضيعتك الفلانية ، وقيمتها كذا وكذا . فقال : بلى . فقلت : وما لك بالبصرة وقيمته مائة ألف دينار . فقال : بلى . فجعلت أعدد عليه ، من عقاراته ، وضياعه ، إلى أن بلغت قيمة سبعمائة ألف دينار . فقلت : وأصدقني عما سلك لك من الجوهر والأثاثوالقماش والطيب والجواري والعبيد والدواب ، وعن قيمة ذلك ، وقيمة دارك ؟ فأخذ يصدقني ، ويقوم ، وأحصي ، إلى أن بلغت القيمة لذلك ، ثلثمائة ألف دينار . فقلت له : يا هذا ، من ببغداد اليوم من يحتوي ملكه على ألف ألف دينار ؟ وجاهك عند الناس الجاه الأول ، وهم يظنون أن الذي بقي لك ضعف هذا ، فلم تغنم ؟ . قال : فسجد لله ، وحمده ، وبكى ، ثم قال : والله ، لقد غلب الفكر علي حتى نسيت جميع هذا أنه لي ، وقل في عيني ، لإضافتي إياه إلى ما أخذ مني ، ولو لم تجيئني الساعة ، لزاد الفكر علي حتى يبطل عقلي ، ولكن الله تعالى أنقذني بك ، وما عزاني أحد ، بأنفع من تعزيتك ، وما أكلت منذ ثلاث شيئا ، فأحب أن تقيم عندي ، لنأكل ونتحدث ونتفرج . فقلت : أفعل ، فأقمت يومي عنده وأكلنا ، وتحدثنا بقية يومنا .
Page 14