أما ما أشكل على الرجال من علة فسادنا فهو ما ينسبونه خطأ للتعلم وحقهم أن ينسبوه للتربية، يرى كثيرون أن العلم يهذب ولكني لا أعتقد ذلك، بل أصرح أن العلم والتربية منفصلان تمام الانفصال إلا في علوم الدين فقط، ودليلي على ذلك أن كثيرين من المبرزين والمبرزات في العلوم لا خلاق لهم، وأن الكتاب الواحد قد يدرسه معلمان مختلفان في فرقتين كل على حدة فتتعلم الفرقتان الكتاب، ولكن نجد أثر الهمة وعلو النفس في واحدة ولا نراه في الثانية، فهذا ناشئ من تأثير روح المعلم في تلاميذه لا من العلم، وإلا فلو كان من العلم لتساوت الفرقتان؛ لأن الكتاب واحد والعلم لا يختلف، يظن بعض الناس أن حسن التربية معناه تقبيل أيدي الزائرات وتكتيف اليدين خضوعا، ولكن ما أبعد هذا عن الحقيقة! التربية الحسنة هي التي تؤهل الشخص لأن يدرك نفسه من سواه، وما أحزم من قال: ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه! التربية الحسنة هي التي تعود الإنسان من صغره احترام الغير إذا استحق الاحترام، حتى ولو كان عدوا، فالتعليم لم يفسد أخلاق الفتيات، إنما هي التربية الناقصة، تلك التربية في الحقيقة يجب أن تكون من أعمال البيت لا المدرسة، ولما كانت بيوتنا لم تبلغ الدرجة التي تؤهلها لإحسان تربية الأطفال فقد وجب علينا أن نضاعف مجهوداتنا لإصلاح شأن أنفسنا ثم إصلاح النشء، ولا يتم ذلك في لحظة كما قد يتوهم، ومن الظلم أن نلقي مسئولية الفساد كلها على المدارس، فإن المدارس لها تأثير في التربية، ولكن ليس عليها كل الذنب، بل العيب في الأسر.
من عيوبنا نحن النساء أننا لا نكترث كثيرا بالنصح، فإذا قامت سيدة تريد تقرير مبدأ أو إظهار حقيقة قال أكثرنا: ما لها ولهذا؟! أو إن كانت تغار فلتعمل مثلنا، ومن غير ذلك من الألفاظ!
ومن عيوبنا السخرية والتهكم، فكثير منا تنتقد من تصادفه وتعيب عليه، لا عيبا حقيقيا يستدعي الانتقاد، ولكن لولوع بالانتقاد في ذاته، فربما انتقدت في ساعة واحدة اثنين على خصلتين متضادتين، ولا يمكن أن يكون الشيء ونقيضه منتقدا، فإذا رأت امرأة سمينة قالت: إنها (كالبرميل) وكيف تستطيع الحركة؟ وإن أبصرت بأخرى رفيعة قالت: إنها كعود الحديد تكسر يدها على ساقيها! وإذا وجدت سيدة قليلة الكلام قالت: إنها متكبرة، وإن سمعت أخرى تتكلم كثيرا عابت عليها وقالت: إنها تتصنع الخفة!
ومن عيوبنا الصلف والاغترار، كنت وأنا طفلة أحفظ قصيدة سمعتها، ولكني كنت أخلط فيها وألحن كثيرا غير عالمة بالطبع ما كنت واقعة فيه من الخطأ، وكانت زميلاتي الصغيرات لا يعرفن القصائد ولم يسمعن بها، فكنت إذا قلتها أمامهن عددنها غريبة عليهن ووسمنني بالذكاء! فما لبثت أن اغتررت بقصيدتي وصرت أفخر بها، حتى إذا ألقيتها ذات يوم أمام والدي أراني خطئي، وبين لي أنها كانت مجموعة نتف من هنا ومن هناك، لا ارتباط لأجزائها ولا قافية لها وأعطاني كتابا فيه شعر؛ فأدهشني أكثر لأنني كنت أحسب أن لا شعر في الدنيا إلا تلك النتف التي كنت استظهرتها، فلو كان تركني ولم يبين لي خطئي فربما كنت استرسلت في الغرور، والإنسان مهما بلغ من العلم لا يزال يقبل الزيادة فيه، ومهما كبر فيما يعرف فإنه لا يزال طفلا إزاء ما يجهل كالبحر تستعظم منه ما رأيت وما لم تره أعظم، وكيف أصلح خطئي إذا كنت لا أشعر به ولا أقبل نصيحة من يراه؟
يشكو الرجال من تبرجنا في الطرقات؛ وحق لهم لأننا خرجنا فيه عن المألوف والجائز، نحن نزعم أننا نحتجب ولكنا ما بلغنا حجابا ولا بلغنا سفورا، لا أريد أن نرجع لحجاب جداتنا، ذلك الذي يصح أن يسمى وأدا لا حجابا، فقد كانت السيدة تقضي عمرها بين حوائط منزلها لا تسير في الطريق إلا وهي محمولة على الأعناق، ولا أريد سفور الأوروبيات واختلاطهن بالرجال فإنه مضر بنا، إن نصف إزارنا السفلي اليوم مرط (جونيلة) لا يتفق مع كلمة حجاب ولا مع معناها ولا مع الحكمة منه، أما نصفه العلوي فهو كالعمر كلما تقدم قصر، كان الحجاب الأول قطعة واحدة تلتف بها المرأة فلا يظهر من هيئتها شيء، ثم طرأ عليه تكمش بسيط ولكنه كان واسعا يكفي لستر الجسم، ثم تفننا فيه فصرنا نضيق وسطه ونقصر رأسه، وأخيرا فصل له كمان وصار يلتصق بالظهور ولا يلبس إلا مع المشد، ويربط من أطرافه إلى الوراء، حتى تظهر منه الآذان ونصف الرأس أو أكثره فتبين الورود والرياحين والأشرطة المزين بها الرأس، أما البرقع فأشف من قلب الطفل، ما الغرض من الإزار؟ الغرض منه ستر الجسم والملابس، والزينة اجتناب الزينة التي نهى الله عنها، فهل يتفق هذا المئزر الحالي وقد أصبح (فستانا) يظهر النهدين والخصر والأعجاز، فضلا عن أن بعض السيدات ابتدأن يلبسنه أزرق وبنيا وأحمر؟ الأولى أن لا نسميه مئزرا بل (فستانا بطرطور) فإنه في الحقيقة كذلك، وعندي أن الخروج بدونه أدل على الحشمة؛ لأنه على الأقل لا يسترعي النظر، على أن مسألة الحجاب قد اختلف فيها الأئمة فإذا كان تفنن بعضنا هذا يراد به الاحتيال على الخروج بلا إزار فليس عليهن فيه من حرج إذا كشفن وجوههن بشرط ستر الشعر والجسم، وأرى أن أوفق لباس للخارج هو تغطية الرأس بخمار وسدل رداء أشبه (بالبالطو)، المسمى
cache poussiere
عند الفرنجة على الجسم إلى الكعب، ويكون طويل الكمين إلى المعصمين، وهذا اللباس مستعمل في الآستانة، كما وردت لي إحدى السيدات للخروج إلى المحلات القريبة، ولكن من يضمن لنا أننا لا نقصره ونضيقه حتى نمسخه (فستانا) آخر؟ وحينئذ تضيق بنا حيل الإصلاح.
لو أننا متربيات من صغرنا على السفور، ولو أن رجالنا مستعدون له، لأقررت بالسفور لمن تهواه، ولكن مجموع الأمة غير مستعد له للآن، وإن كان بعض نسائنا العاقلات لا يخشى من اختلاطهن بالرجال، إلا أننا يجب أن نتحفظ على غير العاقلات أيضا؛ لأننا سرعان ما نقلد وقل أن نبحث عن حقيقتنا فيه، ألا ترين أن تيجان الماس أصلها للملكات والأميرات فأصبحت الآن يلبسها المغنيات والراقصات؟! ولعل الشعراء يعدلون عن كنايتهم الملكات بياربة التاج فقد أصبحت تلك الكناية شاملة لسواهن!
على أن تفنننا في هذا المئزر الحالي هو في ذاته تقليد للأوروبيات، ولكنا فقناهن في التبرج؛ فإن المرأة منهن تلبس أبسط ما عندها عندما تكون في الطريق، وتلبس ما شاءت في البيت أو في السهرات، ولكنهن بخلاف ذلك يظللن أمام أزواجهن بجلباب بسيط جدا، ثم إذا خرجت إحداهن عمدت إلى أحسن ثيابها فلبسته، وأثقلت نفسها بالمصوغات وأفرغت عليها زجاجات العطر والطيب، ويا ليتها تقتصر على ذلك بل تجعل من وجهها حائطا تنقشه بالدهان وتصبغه بمختلف الألوان وتتكسر في مشيتها كأنها الخيزران فتفتن المارة، أو على الأقل يتظاهرون لها بأنها تفتنهم، إني واثقة أن أغلب هؤلاء المتبرجات يفعلن ما يفعلن وهن خاليات الذهن من سوء القصد، ولكن من أين للرائي أن يتبين حسن نيتهن ومظهرهن لا يدل عليه؟!
حجابنا يجب أن لا يحرمنا من استنشاق الهواء النقي، ولا من شراء ما يلزمنا إذا لم يقدر آخر على شرائه لنا ... ويجب أن لا يمنعنا عن تلقي العلم، ولا أن يكون مساعدا على فساد صحتنا أو سببا في تلفها، فإذا لم أجد في بيتي حديقة واسعة أو رحبة طلقة الهواء وكنت فرغت من العمل وأحسست من نفسي بملل أو كسل فلم لا آخذ نصيبي من هواء الضواحي المنعش الذي خلقه الله للكل ولم يحبسه في صناديق مكتوب عليها «خصوصي للرجال»؟! وإنما يجب أن نختار الاعتدال وأن لا نخرج للنزهة وحدنا اجتنابا للقيل والقال وألا نمشي الهوينى، وألا نلتفت يمنة ويسرة، وإذا لم يكن أبي أو زوجي يحسن اختيار ما أشتهيه من الملابس، غير الموجود لها عينة ولا يمكنه جلبها للمنزل، فلم لا يأخذني معه لاختيار ما يلزمني أو يدعني أشتري ما أريد؟! وإذا لم أجد من يحسن تعليمي إلا رجلا فهل أختار الجهل أم السفور أمام ذلك الرجل مع أخواتي من المتعلمات؟! على أنه ليس هناك ما يجبرني على السفور، بل إنه يمكنني التقنع والاستفادة منه وهل نحن في إسلامنا أعرق أصلا من السيدة نفيسة والسيدة سكينة - رضي الله عنهما - وقد كانتا تجتمعان بالعلماء والشعراء؟! وإذا اضطرني المرض لاستشارة طبيب، لا يمكن لإحدى النساء القيام بعمله، فهل أترك نفسي والمرض وقد يكون خفيفا فيعضل بالإهمال، أم أستشفيه فيشفيني؟
Unknown page