من الأنباء ما يترك في أعماق النفس أثرا لا يزول، ومن تلك الأنباء ما أثر في تأثيرا خاصا، وسأقصه فيما يلي: كنت يوما عند صاحبة لي، فسألتها عن سيدة كان لي بها معرفة قديمة، ولم أرها منذ زمن بعيد، فتنهدت وأجابت بلهجة المحزون أن تلك السيدة في أشد ما يكون من الأسى، وأنها لفرط حزنها وكثرة بكائها قد حل بها السقم؛ وذلك لأن زوجها عقد على امرأة أخرى وستزف إليه قريبا، فأخذ مني العجب مأخذه، ورأت صاحبتي دهشتي فقالت: لم تعجبين من ذلك الخبر؟ أليس كثير الحدوث عندنا مألوفا؟ قلت: نعم؛ ولست أعجب من حدوثه في ذاته وإنما العجب في أنه حدث لتلك السيدة، وهي على ما تعلمين على أحسن ما يكون عليه النساء من الخلق، وعلى جانب غير قليل من الجمال والعلم، وقد كنت أسمع منها أنها في راحة مع قرينها، وقد رأيتها بعيني تشتغل في بيتها، ولم يكن ينقصه شيء من النظافة والترتيب، ولها منه أطفال صغار؛ فماذا يريد الرجل فوق ذلك (تربية وعقل وملاحة وإنجاب)؟ فقالت محدثتي: إن ولدي تلك السيدة توفيا في شهر واحد وهذا ما حدا بالزوج إلى البحث عن أخرى، وقد خطب في نفس الشهر الذي فقد فيه ولديه، وامرأته الأولى أم جنين لم تكمل مدته بعد، فيا لقساوة الرجل! أكل ذنبها أن ولديها توفيا؟ وهل لم يكفها حزنها على فقدهما فيسدد إلى فؤادها المكلوم سهما آخر مسموما؟ وهل ضبط منها رسالة لعزريل تستزيره بها وتحثه على خطف فلذتي كبدها؟ وهل كان هذان المفقودان ولديها ولم يكونا كذلك له؟ نعم؛ إن الرجل أقوى عزيمة من المرأة وأشد احتمالا للمصائب، ولكن هب أنه جلد أفينسيه الجلد الشفقة، ويخطئ به الصبر مواضع الرحمة؟ اللهم إن هذا منكر لا يرضيك.
إذا احتاجت المرأة للمواساة والعطف في زمن ما فأشد ما يكون ذلك في أيامها السود، وهل أحلك من يوم تفقد فيه ولدين معا؟! فإذا ما اشتد حزنها وشاركها فيه القريب والغريب أيصح أن يتنصل عنها زوجها ويتركها هدفا لسهام الأرزاء والأشجان والحزينة زوجه والذاهبان ولداه؟ إنها إذا حزنت على أخ لها أو قريب كان من الواجب عليه أن يشاطرها الحزن حتى ولو ظاهرا، أما وهي محتسبة ابنها وابنه فمن أحق بتخفيف آلامها إذا خلا هو من مثلها؟! إنه إذا لم يحزن ولم يواسها فلم يكن أقل من أن يتركها ونفسها، كما قال الشاعر:
تخذتكم حصنا منيعا لتمنعوا
سهام العدا عني فكنتم نصالها
إذا كنتم لا تدفعون ملمة
عن النفس كونوا لا عليها ولا لها
ولكنه هو يتزوج عليها؛ يكلم قلبها الكسير فضلا عن أنه أقدم على أمر لا يضمنه، أفلا يجوز أن تكون امرأته الجديدة عاقرا فلا تلد، أو ولودا ويموت أبناؤها كالأولى؟! إن القدر لا يعاكس ولا يستطاع تحويله عند أمر كهذا؛ فالولادة والحياة والموت بيد الله لا ندري متى هو مانحها ومتى يقبضها، إن جوف تلك السيدة لا يسع شيئين في آن واحد: الجنين والشجن، ألا يكون زوجها جانيا عليها وعلى ولده الجديد إذا ما زاحمه البث فلفظه ميتا، ألا إن ذلك الزوج القاسي لجان في عرف القانون، جان في عرف المروءة، جان في عرف الإنسانية والحنان.
تذكرني تلك الحادثة المؤلمة بحادثة أخرى تشبهها، ذلك أن رجلا من ذوي الرتب عاف زوجته لأن أولادها منه كلهم بنات؛ فطلقها واقترن بأخرى على أمل إنجاب الذكور، فأتت له بأنثى ثم بأخرى، وهكذا أبى الله إلا أن يتم ما أراد، فكأنه استبدل بنات بغيرهن، ولكنه خسر ود امرأة صالحة كانت تحبه، وغير عليه قلوب بناته الشابات، وظن أنه كسب ود أخرى وما هو إلا واهم فيما زعم.
ليت شعري إذا فرضنا أن ولادة البنات عيب كما يرى بعضنا؛ فهل للمرأة يد في ذلك؟! ولماذا لا يعيب الرجل كما يعيبها؟ لماذا لا تعافه المرأة وتطلب إليه أن ينفصل عنها وتتزوج غيره لتلد ذكورا؟ إذا صح أن يتشبث أحد الزوجين بهذه الخرافة صح للثاني أيضا؛ إذ هما في حقها وبطلانها سيان.
إن لنا من شؤوننا البيتية الأخرى ما يكفي لشغلنا، ولنا من عاداتنا القديمة المستهجنة ما يبح في طلب إصلاحه صوتنا، فجدير بالرجال أن لا يشغلوا وقتنا وفكرنا بالشكوى من أعمالهم، وأظنهم يقع عليهم ظلم الحكومة مرة وضيق العيش أخرى، فلا يجدون من ينتقمون منه لأنفسهم سوانا، وما أخال محروبا أضعف منا سلاحا وأقل طلبا للثأر، فيا رب ألهم رجال حكومتنا السداد؛ فإن ظلمهم الأمة له أثر مضاعف فينا، ولعلنا لم نزد عن الرجل في شيء البتة إلا فيما يؤلم. إذن؛ لقد عكسوا آية القرآن القائلة:
Unknown page