وقد اقتطع وصف مجرى النيل من منبعه إلى مصبه بفصول تاريخية تشغل ربع النصف الأول من هذا الكتاب ونصف الشطر الثاني منه؛ وسبب هذا التفاوت في التوزيع هو عدم وجود تاريخ للنيل الأعلى تقريبا ووفرة معارفنا عن النيل الأدنى.
وكما رأيت فيولا وأسودا على ضفاف النيل الأعلى، وجمالا وحميرا على ضفاف النيل الأدنى، ترد للشرب مساء أبصرت موكبا متصلا لأشباح أولئك الذين عاشوا وسيطروا وألموا هنالك، وأبصرت تنازع الأديان والعروق في صحارى السودان وسهوبه، وفي مصر التي هي مصدر الإنسانية في الغرب.
وفي هذا الكتاب - كما في سيري الأخرى - لم آل جهدا في كتم المصادر التي رجعت إليها تحقيقا لانطباعاتي وإمعانا فيها، وذلك لعدي إظهار الذي أرى في رمز وإظهار الرمز في حادث منظور أهم من جمع التواريخ والأسماء التي يمكن كل واحد أن يجدها في المراجع الخاصة، وفي هذا السفر، كما في سواه، لم أدخر وسعا في تلوين ما يعبر المتخصص عنه بالأرقام والجداول، وفي هذا السفر لم أرغب في وصف ما يحدث عنه في الغالب، بل عملت على وصف ما يقف الأبصار ثم على تسميته، وفي الدرجة القصوى من الفصل الثالث فقط؛ أي في طور الأسداد الجازم من تلك الحياة، اضطررت إلى ذكر أرقام قليلة ذكرا مضبوطا معتذرا إلى القارئ، وهذا إلى أنني حولت كسور الأرقام إلى أصفار عند الضرورة، لما في ال «964 كيلومترا بين بحيرة نو والخرطوم» مثلا من وقف للنظر أقل من ال «1000 كيلومتر بينهما»، وكذلك لم تسو كتابة الأسماء الأفريقية في اللغات الأوروبية تماما.
ولم توضع الطبيعة والتاريخ في النصف الثاني من هذا الكتاب على المستوى الذي اتفق لهما في النصف الأول منه، ولا غرو، فالنهر في فتائه، كالإنسان في شبابه، يردد مؤثرات البيئة التي أوجدته، على حين ترى النهر في كهولته يكافح تطاول العالم الخارجي بسجيته، وللإقليم والبلد تأثير عظيم في ريعان الشباب، ثم يبدو تأثير الإنسان، وتقضي الضرورة بتحويل الخطة أكثر من قبل عند تناول نهر يجوب في شبابه من البقاع ما لا ترى له تاريخا ويجري في مشيبه من أقدم بلاد الدنيا تمدنا، وتبصر لمصر ستة آلاف سنة تاريخا، ولا تكاد تجد لأوغندة والسودان من التاريخ قرنا، وهكذا نخصص ثلاثة أرباع النصف الأول من الكتاب للطبيعة ونخصص ربعا منه للتاريخ، مع أن نصيب الطبيعة هو نصف الشطر الثاني منه، وذلك لما بين أسوان والدلتا من اختلاف قليل في المنظر والنبات والحيوان.
ومع ذلك تعالج الأقسام التاريخية من نصف الكتاب الخاص بمصر في كلمات جوامع ما لم تعارض موضوع الجميع، والأوصاف تحتل مكان الأفكار كما في تراجمي السابقة، والأحوال الاجتماعية في هذه الأوصاف تفضل الحروب صدارة، ومشاعر الناس فيها تفوق شأنهم أهمية، وهكذا يعطف في النصف السوداني عند الوصف على مشاعر الزنجي أو الفيل أكثر مما على الإنسان الأبيض، وهكذا يحاول إبراز التاريخ في مصر من حيث مقام الفلاح الذي عاش أوثق عشرة للنيل في كل زمن من عشرة ذوي الحكم، لا كما نظر إليه الملوك والفراعنة والسلاطين؛ وذلك لأن مصر هي بلد الدنيا الوحيد الذي يقضي كل ساكن حياته فيه تبعا للنهر في أي وقت كان؛ وذلك لأن الأسر المالكة تأتي وتستغل النهر وتزول، ولكن النهر، ولكن أبا البلد هذا، هو الذي يظل باقيا، وكان للنيل، كان لمولد الماء والحب هذا، من الشأن منذ ستين قرنا ما له في دور الأسداد والقطن الحاضر، ولم نأل جهدا في وصف الأديان والمعابد والمساجد مظهرين تأثيرها في الفلاحين، ومن الفلاحين يتألف شعب النيل الأدنى.
ومما يلاحظ على الخصوص سكوتي عن مواكب الصيد الأكبر التي لم أشترك فيها وامتناعي عن كل حوار إثنوغرافي، ويربط العلماء الذين بحثوا عن الشعوب التي استقرت بوادي النيل بعروق متباينة مناوبة، وأجد في هذا ما يزيدني حذرا من جميع النظريات العرقية، وأرى أن ما يحوم حول الحاميين والساميين من جدل علمي كاشف في كل خمس سنين ل «مراكز جديدة للحضارة» أقل وقفا لنظري من منظر بدوي على ضفة العطبرة أعجب من خلال أعطافه الرائعة بتوالد خمسة عروق أو ستة عروق، وذلك إلى أن مما يستحب إهماله دراسة مثل هذا التوالد في كتاب يقوم موضوعه على أمر نهر ولو كنا نبلغ بتلك الدراسة طائفة من الحقائق.
ومن ناحية أخرى أرى الشعوب المختلفة ألوانا ذات أهمية في زمن تعد فيه لتمثيل دور جديد في حياة النوع البشري، والنيل قد أثر في جميع هذه الأمور، وجميع هذه الأمور قد أثرت في النيل، ويقوم عملي الوحيد على إظهار الرمز الأكبر الذي يستخلص مما يحف بالنيل من قدر.
وقد قمت برحلات ثلاث متوالية بين سنة 1930 وسنة 1934 فأتيح لي بها أن أدرس جميع النيل بأوغندة والسودان، وأن أدرس النيل الأزرق في سفر بالقسم الغربي من الحبشة حيث بلغت منابعه، وأن أدرس في السودان مجراه الأدنى، وقد اكتفيت مضطرا برسم مجراه الأوسط بين بحيرة طانة وحدود السودان وفق ما رواه من الأنباء ثلاثة سياح أو أربعة سياح رأوا أجزاء من هذه البقعة التي لم يقع ريادها تقريبا، وقد استطعت بفضل ما حبتني به حكومات بلاد النيل الثلاث من عناية ووسيلة أن أنتفع كما أود بالخط الحديدي والطائرة والباخرة والشراع والبغل والحمار، وقد وضع الملك فؤاد باخرة تحت تصرفنا ، وسهلت الحكومة الإنكليزية رحلتنا بشتى الوسائل، وأرفقتنا الحبشة بحرس عسكري من قلابات.
وقد تم القسم الخاص بالحبشة قبل بدء النزاع في أفريقية الشرقية.
ومن بين ما لا يحصيه عد من المؤلفات الخاصة بمصر انتفعت في النصف الثاني من هذا الكتاب ب «تاريخ الأمة المصرية» على الخصوص، بهذا الكتاب الرائع الواقع في أربعة أجزاء، والذي نشر بإشراف غبريال هانوتو فأهدى الملك فؤاد نسخة منه إلي، ومما انتفعت به كتاب مس و. س. بلاكمن الممتع عن فلاحي مصر العليا، ومما انتفعت به مذكرة الأمير عمر طوسون المصري عن تاريخ النيل.
Unknown page