224

Nil Hayat Nahr

النيل: حياة نهر

Genres

بأن الله جعل لك على المهدية علامة، وهي الخال على خدي الأيمن، وكذلك جعل لي علامة أخرى: تخرج راية من نور، وتكون معي في حالة الحرب يحملها عزرائيل فيثبت الله بها أصحابي وينزل الرعب في قلوب أعدائي فلا يلقاني أحد بعداوة إلا خذله الله ... ثم قال لي النبي

صلى الله عليه وسلم : إنك مخلوق من نور عنان قلبي، فمن له سعادة صدق بأني المهدي المنتظر، ولكن الله جعل في قلوب الذين يحبون الجاه النفاق فلا يصدقون حرصا على جاههم ... والسلام عليكم.

وهكذا لم يبتدع المهدي رسالته الربانية فقط، بل توعد باسم الله جميع من هم في شك من أمره أو ينتقدونه، وكانت سياسته تستند إلى عقيدته ما دام القرآن دستورا مدنيا أيضا ، وما دام الشيوخ مفسرين للشريعة وحماة لهذه الشريعة الجديدة معا. وكان لهذا الزعيم الجديد بالقرآن - الذي هو أيسر لأولي الأمر المطلقين من التوراة - ما يرغب فيه من حكم، وفي القرآن:

وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ،

واقتلوهم حيث ثقفتموهم .

ظباء في الصحراء.

ويتدخل الحاكم المصري الجبان الذي خلف غوردون بعد الأوان، فيرسل مرافقه إلى الجزيرة ليدعو المهدي إلى الخرطوم، فاسمع تحاورهما: أنا المهدي، ويجب على الباشا أن يؤمن بي! - وكيف تثبت ذلك؟ - لما يحل وقت ذلك. - سيؤتى بجنود لمقاتلتك. - سيبتلعهم النيل.

وترسل باخرة مع ثلاثمائة رجل ومدفع لمحاربته، وإنها لترسو أمام الجزيرة؛ إذ يتنازع الضباط الثلاثة قيادة الكتائب، ولا تعرف الكتائب تلك الأرض فتسير قبل طلوع الشمس على غير هدى، ويباغتهم مريدو المهدي، ولا يجد المدفعي بارودا ولا قنابل على الضفة، ثم يطلق النار في الهواء إلى أن كسرت الحملة وعاد رجالها إلى الباخرة بعد أن هلك نصفهم، ويتحدث الناس في السودان عن انتصار المهدي العجيب.

والآن ينطلق الزعيم ليجمع في جميع الأوساط أكثر ما يمكن من الأنصار، وهو يبشر الفقراء بالشيوعية، وهو يقول بإلغاء الإتاوات والقضاء على كبار الملاك، وهو يشيد بفضائل الفلاح. وهذا ما أدى إلى انتهاب بعض الأغنياء وقتلهم، وهو في الوقت نفسه يجتذب أرباب رءوس الأموال ببراهين دينية ويصرح بأن الترك والألبان؛ أي الجباة والحكام، غير أهل ليعدوا مسلمين وأن إطاعتهم غير واجبة، ويخاطب هذا «الزعيم» مشاعر القوم الوطنية والاجتماعية على هذا الوجه فيجمع تحت رايته طبقات متعادية ومنافع متناقضة، ويضحك أغنياء النوبة منه ويسيرون معه لما يلوح من حمايته أموالهم ضد الفوضى، ويثق الصعاليك بكلامه الشيوعي الفخم، ويسر العرب بإمكان عودتهم إلى تجارة العبيد الذين لم يلبثوا أن تبرموا من حمل محرريهم الأوروبيين إياهم على العمل، والذين اعتقدوا خلاص أعدائهم الزرق، البقارة، من البيض، وهكذا كان جميع هؤلاء الناس يرجون إنقاذهم من وضعهم الموجب للقنوط.

ويحتاج المهدي إلى علم بعد الآن، وهو شبه الهمجي الذي يدرك قيمة العلم عند شباه الهمج، وتخفق أعلامه الخضر والحمر أمامه في أسفاره بين النيل الأبيض والأزرق أو في دارفور، ويزيد أتباعه بين يوم ويوم لوعده إياهم بما يودون، بيد أنه كان محتاجا إلى وكيلين، يضرب أحدهما بالسيف ويدعو الآخر إليه الناس، وهو - مع قيامه بالدعوة رأسا - وهو - مع عبادة ألوف الناس إياه - كان محتاجا إلى رئيس يدير أمر الدعوة.

Unknown page