Nihayat Aqdam
نهاية الإقدام في علم الكلام
Genres
وأما من حيث المعنى فما اشتمل عليه القرآن من غرائب الحكم وبدائع المعاني التي عجزت الحكماء والأوائل عن الإتيان بمثلها نوع آخر من الإعجاز خصوصا ممن نشأ يتيما بين الأميين من العرب ولم يقرأ كتابا ولم يدرس علما ولا تلقف من أستاذ ولا تعلم من معلم فلولا أنه وحي محض يوحى عليه وتنزيل نزل إليه وإلا فمن أين لطبع مجرد يجود بمثله وأيضا فما يشتمل عليه القرآن من قصص الأنبياء والمرسلين كيف جرت دعوتهم ومن أين أجاب كلمتهم ومن نكل عنهم إلى أي حال آل أمرهم فمن لم يسمع ذلك من أحد ولا خط كتابا بيمينه ولا طالع كتب الأنبياء والتواريخ والأخبار معجز ظاهر ودليل على أن الحق باهر وهذا في قصة الماضين فما قولك في الأخبار عن الغيوب مما سيكون في ثاني الحال مما رأيناه طابق الحال وصدق المقال إذا أخبر أنه يظهره على الدين كله وقد أظهر وأخبر أنه غلبت الروم وقد تحقق وغير ذلك من الأخبار وكذلك ما اشتمل عليه القرآن من أنواع العبادات والمعاملات من أحكام الحلال والحرام والحدود والقصاص والديات وأحكام السياسات إعجاز ظاهر إذ جمع فيها بين إصلاح المعاش ونجاة المعاد وبناها على قوانين كلية تجمع شمل العامة وتناظر عقل الخاصة ومن قرأ الكتب المنزلة من التوراة والإنجيل والزبور تبين له الفرق الظاهر بينها وبين القرآن إذ كل ما اشتملت عليه من الحقائق العقلية والأحكام الشرعية على بسطها اشتمل عليه القرآن بأوضح عبارة وأوضح إشارة على اختصاصه ومن أراد أن يتخطى عما أقررناه إلى مفردات الحروف وكيفيات تركيبها وما فيها من الحكم والمعاني قضى منها العجب وبالجملة القرآن بصورة ألفاظه وعباراته معجز وبمعنى حقائقه وعجائبه معجب وهو دليل ظاهر على حقيقة ذاته وصدق المتحدي بآياته.
قال أهل الزيغ والباطل لنا على مساق ما ذكرتموه من إعجاز القرآن سؤالان أحدهما أن القرآن بمعنى المقروء والمكتوب صفة قديمة عندكم والقديم لا يكون معجزا وبمعنى القراءة هو فعل القارئ وتلاوته وفعل العبد لا يكون معجزا.
فإن قلتم أن الرب تعالى يخلقه في الحال من غير كسب النبي قيل وفي أي محل يخلقه أفي لسانه ومن المعلوم أن الحرف والصوت القائم بلسانه ومخارج حروفه مقدورة له والمعجزة لا تكون مقدورة للعبد أم في محل آخر من شجرة أو لوح أو قلب ملك فالمعجزة ذلك المخلوق لا ما نطق به النبي فما هو معجزة لم نسمعه وما سمعناه ليس بمعجزة فما الجواب عن هذا السؤال.
والثاني أنكم قلتم وجه إعجاز القرآن فصاحته وجزالته ونظمه وبلاغته فما حدود هذه المعاني أولا حتى نبين حقائقها فنتكلم عليها أهي بإفرادها معجزة أم بمجموعها وقد رأينا كم اختلفتم في أن القرآن معجزة من جهة صرف الدواعي أم من جهة ما اشتمل عليه من بديع النظم والفصاحة ومن قال بالقسم الثاني اختلف في أن الفصاحة بديعة أم الجزاالة أم النظم ومن المعلوم الذي لا مرية فيه أن المعجز يجب أن يكون ظاهرا لكل من هو في حقه معجز ظهورا لا يستراب فيه البتة ومن قال منكم أنه معجز من حيث الفصاحة فقط جوز أن يكون في كلام العرب مثله من حيث النظم والجزالة ومن قال بالثاني فقد جوز المماثلة في الأول فلم يظهر ظهور انقلاب الجماد حيوانا والبحر يبسا والحجر الصلد عينا نضاخة إلى غير ذلك من معجزات الأنبياء عليهم السلام إذ ظهرت على قضية لم يبق للتردد فيها مجال.
Page 157