Nihayat Aqdam
نهاية الإقدام في علم الكلام
Genres
وأخطأت الأشعرية حيث رفعتهما عن العلم الذي ليس في نوعه ذميم وعن الجهل الذي ليس في نوعه حميد إذ السعادة والشقاوة الأبدية مخصوصتان بهما مقصورتان عليهما والأفعال معينات أو مانعات بالعرض لا بالذات وتختلف بالنسبة إلى شخص وشخص وزمان وزمان.
ثم زادت الصابئة على الفلاسفة بأن قالوا كما كانت الموجودات في العالم السفلي مرتبة على تأثير الكواكب والروحانيات التي هي مدبرات للكواكب وفي اتصالاتها نظر نحس وسعد وجب أن يكون في أثرها حسن وقبح في الخلق والأخلاق والعقول الإنسانية متساوية في النوع فوجب أن يدركها كل عقل سليم وطبع قويم ولا تتوقف معرفة المعقولات على من هو مثل ذلك العاقل في النوع " ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم " فنحن لا نحتاج إلى من يعرفنا حسن الأشياء وقبحها وخيرها وشرها ونفعها وضرها وكما كنا نستخرج بالعقول من طبائع الأشياء منافعها ومضارها كذلك نستنبط من أفعال نوع الإنسان حسنها وقبحها فنلابس ما هو حسن منها بحسب الاستطاعة ونجتنب ما قبح منها بحسب الطاقة فلا نحتاج إلى شارع متحكم على عقولنا بما يهتدى ولا يهتدي " أبشر يهدوننا " " ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون " فهذه مقالة القوم ولها شرح ذكرناه في كتابنا الموسوم بالملل والنحل.
وزادت التناسخية على الصابئة بأن قالت نوع الإنسان لما كان موصوفا بنوع اختيار في أفعاله مخصوصا بنطق وعقل في علومه وأحواله ارتفع عن الدرجة الحيوانية استسخارا لها فإن كانت أعماله على مناهج الدرجة الإنسانية ارتفعت إلى الملكية أو إلى النبوة وإن كانت على مناهج الدرجة الحيوانية انخفضت إلى الحيوانية أو إلى أسفل وهو أبدا في أحد أمرين إما فعل الجزاء أو جزاء على فعل كما يقولون كرد وباداشت فما بالنا نقول محتاج في أفعاله وأحواله إلى شخص مثله يقبح ويحسن فلا العقل يحسن ويقبح ولا الشرع لكن حسن أفعاله جزاء على حسن أفعال غيره وقبح أفعاله كذلك وربما يصير حسنها وقبحها صورا حيوانية وربما يصير الحسن والقبح في الحيوانية أفعالا إنسانية وليس بعد هذا العالم عالم جزا يحكم فيه ويحاسب ويثاب ويعاقب.
وزادت البراهمة على التناسخية بأن قالوا نحن لا نحتاج إلى شريعة وشارع أصلا فإن ما يأمر به النبي لا يخلو إما أن يكون معقولا أو لا يكون معقولا فإن كان معقولا فقد استغنى بالعقل عن النبي وإن لم يكن معقولا لم يكن مقبولا.
أجاب أهل الحق عن مقالة كل فرقة فقالوا للمعتزلة المعارضة غير صحيحة فإن ما ذكرناه من الفرق بين العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد والحكم بأن الكذب قبيح ظاهر لا مراء فيه وما ذكرتموه غير مسلم فإنه يستوي عند صاحب الحاجة طرفا الصدق والكذب وإن اختار الصدق لم يكن اختياره أمرا ضروريا ولا يقارنه العلم بوجوب اختياره ضرورة ولو استروح إليه فلداع أو اعتياد أو غرض يحمله على ذلك ومن استوى عنده الصدق والكذب في الملام في الحال والعقاب في ثاني الحال لم يرجح أحدهما على الثاني لأمر في ذاته.
وأما استحسان العقلاء إنقاذ الغرقى واستقباحهم للعدوان فلطلب ثناء يتوقع منهم على ذلك الفعل وذم على الفعل الثاني ومثل هذا قد سلمناه ولكنا فرضنا القول في حكم التكليف هل يستحق على الله ثواب وعقاب بعد أن علم أنه لا يلحقه ضرر ولا نفع من فعله.
وأما المتنازعان بالنفي والإثبات في أمر معقول قبل ورود الشرع وإنكار كل واحد منهما على صاحبه فمسلم لكن الكلام وقع في حق الله تعالى هل يجب عليه أن يمدح ويذم ويثيب ويعاقب على ذلك الفعل وذلك غيب عنا فبم يعرف أنه يرضى عن أحدهما ويثيبه على فعله ويسخط على الثاني ويعاقبه على فعله ولم يخبر عنه مخبر صادق ولا دل على رضاه وسخطه فعل ولا أخبر عن محكومه ومعلومه مخبر ولا أمكن أن تقاس أفعاله على أفعال العباد فإنا نرى كثيرا من الأفعال تقبح منا ولا تقبح منه كإيلام البرئ وإهلاك الحرث والنسل إلى غير ذلك وعليه يخرج إنقاذ الغرقى والهلكى فإن نفس الإغراق والإهلاك يحسن منه تعالى ولا يقبح وذلك منا قبيح والإنقاذ إن كان حسنا فالإغراق يجب أن يكون قبيحا فإن قدر في ضمن إهلاكه سر لم نطلع عليه أو غرض لم نوصله إليه إلا به فليقدر في إهلاكنا كذلك والفعل من حيث الصفات النفسية واحد فلم قبح من فاعل وحسن من فاعل.
Page 131