63

Nida Haqiqa

نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

Genres

ويتفق «الوجود والزمان» و«ماهية الحقيقة» في أن تطابق الحكم والموضوع أو تطابق الموضوع والحكم لا يعبر إلا عن وجه واحد من وجوه المشكلة، فالقضية أو العبارة التي تحكم على قطعة نقدية بأنها مستديرة ليست هي نفسها شيئا مستديرا، ولا هي من المعدن الذي صنعت منه القطعة النقدية، وليس الهدف منها (أي من العبارة) أن تصبح هي الشيء الذي تعبر عنه، بل أن تكشف عن الحالة التي يكون عليها هذا الشيء، أي أن العلاقة المميزة للحقيقة (أو الصدق) - وهي علاقة التطابق أو التوافق - علاقة من هذا النوع، كما - هي - عليه.

ولكن كيف يصبح هذا النوع من التطابق ممكنا من الناحية الأنطولوجية؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بالبحث في بناء الموجود الذي يصدر الحكم، والموجود الذي ينصب عليه هذا الحكم، وهذا يدل على أن هيدجر يدين كل تصور يرجع الحكم إلى مضمون «كامن» (أو مباطن ومحايث) في الذات التي تحكم، أي يدين كل تصور يرده إلى التمثل الذاتي،

130

وقد احتفظت رسالته عن ماهية الحقيقة بهذا المصطلح الأخير، ولكنها حافظت كذلك على معناه الاشتقاقي المباشر الذي يفيد المعرفة عن طريق «استحضار» الشيء المعروف أمام العارف أو إظهاره أمامه (وهو نفس المعنى الذي تنطوي عليه كلمة التمثل في العربية) ومعنى هذا مرة أخرى أن كلمة التمثل تستبعد فكرة التصور الذاتي التي نفهمها منها عادة، كما تستبعد فكرة البناء أو «التشكيل» الذي تقوم به الذات في فعل المعرفة كما يفهمه كانط وأتباعه من الكانطيين الجدد؛ ولهذا نرجو أن يلاحظ القارئ أن التمثل ليس له أي معنى نفسي، ولا يشير إلى أي فعل محدد من أفعال الوعي والشعور، وإنما يقصد به استحضار الشيء والدخول في مجاله والانفتاح على ظهوره وتكشفه قبل إصدار أي حكم عليه.

ونعود الآن إلى السؤال الذي طرحناه: كيف تقوم هذه العلاقة؟ ما الذي يسمح بالتطابق بين الحكم والموجود الذي ينصب عليه هذا الحكم؟

إن إمكانية التطابق - كما يؤكد هيدجر في «الوجود والزمان» و«ماهية الحقيقة» على السواء - تتطلب قبل كل شيء أن يتكشف الموجود الذي أصدر عليه حكمي على النحو الذي يكون عليه، وأن تكون لدي القدرة على الكشف عنه في حالته هذه،

131

بهذا يقوم الحكم على الاتجاه أو «المسلك» الذي يهدف إلى الكشف عن الموجود، أو إلى «تركه-يوجد» كما تعبر الرسالة التي بين أيدينا، هذا الاختلاف في المصطلح يستحق منا وقفة قصيرة؛ فقد كانت مهمة «الوجود والزمان» - كما بينا فيما سبق - هي التمهيد للسؤال عن «معنى الوجود»، وإن كان الكتاب قد اقتصر أو كاد على تحليل الموجود الإنساني (أو الدازاين) ولم ينظر إلى غيره من الموجودات إلا من خلال هذا التحليل، وقد حاول هذا التحليل أيضا أن يثبت أن الإنسان يحيا على حالين أساسيين، أحدهما يميل به عادة إلى وضعه في موقف الوهم والزيف وعدم الأصالة بالقياس إلى نفسه، كما ينزع به بطريق غير مباشر إلى نفس الموقف بالقياس إلى الأشياء، ذلك أن أسلوب انفتاح الموجود الإنساني هو الذي يحدد مدى ما يقدر على استحضاره وتمثله، كما يقرر أسلوب هذا الاستحضار والتمثل.

وهذا هو الذي عبرت عنه كذلك ماهية الحقيقة في صراحة ووضوح، فإذا تكلمنا عن معرفة الموجود على ضوء اتجاه أو مسلك يتسم عادة بالتنكر والزيف والوهم، تحتم علينا أن نبين خصائص المعرفة الحقة التي تستحضر الموجود على ما هو عليه أو بالأحرى تحاول أن تكشف عنه.

تجاوزت رسالة هيدجر عن «ماهية الحقيقة» هذا التحليل الوجودي أو الأساسي، واتجهت مباشرة إلى تناول علاقة الموجود المعروف أو القابل للمعرفة بالبناء الأصلي للموجود الإنساني، هذه العلاقة الأصلية التي تربط الإنسان بالأشياء هي الموضوع الأساسي الذي تدور عليه «ماهية الحقيقة»، وهي في صميمها علاقة متعالية، تقوم على البنية التي يتميز بها الإنسان من حيث هو كائن متعال أو «متخارج» أو «متواجد» خارج نفسه مع الأشياء، فالأصل أن الإنسان موجود «بالقرب» من الأشياء؛ لأنه في الأصل موجود «متخارج» أو «متواجد»، أي موجود على الدوام «خارج» نفسه، على نحو ما يفسر هيدجر كلمة الوجود المألوفة في اللغات الأوربية الحديثة،

Unknown page