Nida Haqiqa
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Genres
حياة خالية من الأحداث الخارقة، وتجربة الفكر نفسه مع صراعه مع الوجود والحقيقة هي الحدث الوحيد الذي يتخللها ويحدد ملامحها ويوضح تأثيرها، بل ثورتها، التي غيرت خريطة التفكير الفلسفي في القرن العشرين، ومحاولاتها الدائبة لاستكشاف التراث الغربي والحوار المستمر معه والإنصات من جديد لنداء الوجود الذي انبعث من نصوص فلاسفة الإغريق وغيرهم من الفلاسفة والشعراء المحدثين، ولا يزال يهيب بنا - في زمن المحنة الذي نعيش فيه - أن ننتبه إليه ولا ننساه.
حياة وهبها صاحبها للعمل وحده، فكان العمل هو الحياة، ولعلها أن تكون شبيهة من بعض الوجوه بحياة مواطنه العظيم كانط؛ ملل ورتابة لا حد لهما من الخارج، وثورة لا حد لها من الداخل، وسواء تلمسنا خيوطها الأولى في أول كتاب أهدي إليه وهو طالب صغير فكان أول ما شد انتباهه لمسألة الوجود (ونقصد به كتاب الفيلسوف النمسوي فرانز برنتانو عن المعنى المتعدد للوجود عند أرسطو) أو في كتاب هسرل «البحوث المنطقية» الذي ظل يقرؤه ويقرؤه سنوات طويلة قبل أن يتعرف على صاحبه ويعمل معه ويلمح فيه بصيص النور، أو في رسالته الجامعية الثانية عن «نظرية المقولات والمعنى عند دونس سكوتس»، أو في محاولاته المبكرة لتفسير نصوص الفلاسفة اليونان، وبخاصة أفلاطون وأرسطو وهيراقليطس، واكتشافهم من خلال القراءة المتأنية لما بين السطور، والاستماع لما لم يقولوه من ثنايا أقوالهم، والاقتراب منهم بغير أفكار أو معلومات مسبقة شأن كل منهج «ظاهرياتي» أصيل، وسواء تتبعنا هذه الخيوط التي يتألف منها نسيج فكره في كتابه الأكبر «الوجود والزمان» الذي يعد من أهم الأعمال الفلسفية التي ظهرت في هذا العصر، فبدأت عصرا جديدا، أو بلغنا آخر كتاب صدر له فيما نعلم عن «موضوع الفكر 1969م»؛
3
لو فعلنا هذا لوضعنا أنفسنا في هذا النهر الذي لم تهدأ حركته ولا انقطع تدفقه ولا مال عن وجهته، ولشعرنا بالإشكال الوحيد الذي التزمه وسار بأقصى طاقته وجهده «على الطريق» إليه دون أن يعبأ بالصعاب أو يكترث بالنتائج، فكل همه أن يبقى على الطريق، ويصمد للسؤال ويشركنا فيه، وهل نحن في النهاية إلا السائل والمسئول؟
لتكن الصفحات التالية تمهيدا لهذا الفكر، مصباحا صغيرا يهدي إلى هذا الطريق، أما السير على الطريق نفسه فهي مسئولية يتحملها القارئ وحده، ولا بد أن يترك له أمر الحوار مع كل عمل من أعمال هذا المفكر على حدة.
خير ما نفعله إذن هو أن نتابع هيدجر على طريقه لكي نقدر بعد ذلك مدى أصالة فكره وتأثيره على الحياة الفلسفية والعلمية المعاصرة، ومن حسن الحظ أن الفيلسوف نفسه سيوفر علينا مشقة هذه الرحلة، فقد نشر في سنة 1963م مقالا عنوانه «طريقي إلى الظاهريات» «الفينومينولوجيا» ضمنه بعد ذلك كتابه «حول موضوع الفكر».
بدأت دراسته الجامعية في الفصل الدراسي الشتوي بين سنتي 1909م و1910م في كلية اللاهوت من جامعة فرايبورج، وأتاحت له دراسة اللاهوت من الوقت والفراغ ما يسمح له بإشباع نهمه إلى الفلسفة التي كانت تشغل حيزا محدودا من تلك الدراسة، وكان من نصيب كتاب هسرل «بحوث منطقية» أن يجد نفسه كالغريب الوحيد بين المجلدات اللاهوتية المكدسة على مكتبه في المعهد الديني الذي كان يعيش فيه! كان الطالب الشاب قد تعرف من بعض المجلات الفلسفية على أثر فرانز برنتانو على أسلوب هسرل ومنهجه في هذا التفكير؛ ولهذا بدأت محاولاته المتعثرة في فك طلاسم الفلسفة بقراءة رسالة هذا الفيلسوف النمسوي عن «المعنى المتعدد للموجود عند أرسطو» (1862م)، وأوحت إليه الرسالة بهذا السؤال الذي ظل يلح عليه منذ 1907م: إذا كانت للموجود معان عديدة، فأيها هو المعنى الأساسي؟ ما معنى الموجود؟ أهناك فارق بينه وبين الوجود؟ وشاءت له الصدفة وهو في نهاية المرحلة الثانوية أن يطلع على كتاب «عن الوجود» ألفه «كارل بريج» الذي كان أستاذا للعقائد أو علم الأصول بنفس الجامعة «فرايبورج»، كان الكتاب قد ظهر سنة 1896م، ومن حسن حظ الطالب الصغير أن وجد في نهايته نصوصا عديدة اختارها المؤلف من كتابات أرسطو وتوماس الأكويني واللاهوتي اليسوعي الإسباني سواريز (1548-1617م)، إلى جانب المصطلحات والتصورات الأساسية في الأنطولوجيا (علم الوجود بما هو موجود).
وبدأت محاولات هيدجر لاستيعاب «البحوث المنطقية» والتماس الجواب عن المسائل التي أثارتها في نفسه رسالة برنتانو السابقة، غير أن هذه المحاولات ضاعت سدى؛ إذ اكتشف بعد ذلك أنها تنكبت السبيل الصحيح، وبقي الكتاب صامتا لا يبوح بسره، وإن ظل يأسره بجماله وسحره، ثم تخلى عن دراسة اللاهوت بعد أربعة فصول دراسية، واختار أن يقف جهده ووقته على الفلسفة، وإن لم يمنعه هذا من مواصلة الاستماع إلى محاضرات «بريج» الذي أيقظ فيه الاهتمام باللاهوت التأملي وشد انتباهه بأسلوبه الحي في التعليم، وكان المعلم سمحا كريما، فأذن له أن يصحبه في نزهاته، وسمع منه لأول مرة في حياته عن تأثير شيلنج وهيجل على اللاهوت التأملي تأثيرا يفوق مذاهب المدرسيين في العصر الوسيط ، وهكذا أتيح لهيدجر - كما سيقول فيما بعد - أن يستوحي اللاهوت كثيرا من أفكاره، وبدا له في هذه المرحلة من حياته أن هيكل الميتافيزيقا يقوم على التوتر بين الأنطولوجيا واللاهوت (الذي ظل موجع القلب لتخليه عن دراسته).
غير أن مشاغله اللاهوتية سرعان ما توارت في الظل أمام المحاضرات التي كان يلقيها بالجامعة أحد أعلام المدرسة الكانطية الجديدة في منطقة بادن جنوبي ألمانيا، وهو هينريش ريكرت (1863-1936م)، كانت مهمة الفلسفة في نظر الأستاذ الجليل هي البحث عن مملكة القيم الموضوعية الخالدة، وإبراز أشكال المعنى أو النماذج المعنوية التي تنبني عليها الحضارة، وتؤلف مملكة وسطى بين عالم الواقع وعالم القيمة، وبيان الفروق الدقيقة بين علوم الحضارة وعلوم الطبيعة، وكان لهذا الأستاذ من الوفاء وطيبة القلب ما جعله يخصص بعض تمريناته العملية لدراسة فلسفة تلميذه إميل لاسك (1875-1915م) الذي سقط في الحرب العالمية الأولى، وترك وراءه كتابين هما «منطق الفلسفة ونظريات المقولات» دراسة عن «مجال سيطرة الشكل المنطقي» (1911م)، و«نظرية الحكم» (1912م)، وكلاهما يعبر عن جهوده في إعادة تأسيس الميتافيزيقا على نظريته عن «مقولات المقولات»، كما يشهد بتأثره الواضح ببحوث هسرل المنطقية التي ظلت موصدة الأبواب في وجه هيدجر! ودفعه هذا إلى معاودة النظر في البحوث المنطقية، ولبث السؤال الأساسي يؤرقه: ما هو المنهج الفكري الذي يسمي نفسه بالظاهريات (الفنومينولوجيا)؟ كان الجزء الأول من البحوث المنطقية قد ظهر في سنة 1901م، وهو - كما يعلم القارئ - يدور حول دحض النزعة النفسية في المنطق على أساس أن نظرية التفكير والمعرفة لا يمكن أن تقوم على علم النفس، وإلا انتهت إلى الشك والنسبية. أما الجزء الثاني الذي ظهر في العام التالي فهو يتناول الوصف الخالص لأفعال الوعي التي ينهض عليها بناء المعرفة، وقال هيدجر لنفسه: إنها النزعة النفسية مرة أخرى! ولو كان الأمر غير ذلك، فما الذي يدعو هسرل لوصف أفعال الوعي والحديث عن تحديد أستاذه برنتانو للفروق المختلفة بين الظواهر النفسية؟ ثم ما هذا الوصف الظاهرياتي لأفعال الوعي والشعور؟ ما الذي يميز الظاهريات، إن لم تكن منطقا ولا علم نفس ؟ أهي حقا نسق فكري جديد ومنهج يستحق التقدير والاهتمام؟ وكيف السبيل إلى تحقيق هذا المنهج؟
راحت دوامة الأسئلة تدور في فراغ لا مخرج منه، بل لم يكن في استطاعته في تلك السن المبكرة أن يصوغها بمثل هذا الوضوح، وجاءت سنة 1913م فأنقذته من التمزق؛ فقد بدأ هسرل في إصدار حولية الفلسفة والبحث الظاهرياتي، وكان أول عدد منها يضم كتابه الذي حدد ملامح فلسفته وبين طموحها وشمول منهجها، ونقصد به كتابه «أفكار (لتأسيس) ظاهريات خالصة وفلسفة ظاهرياتية».
Unknown page