كان الشارع الذي يسيران فيه طويلا على جانبيه مصابيح بالغة الطول، والطريق بشكل عام كأنه أحد الطرق المؤدية إلى مصر الجديدة. ولأول مرة منذ أن التقى بها سار وقد بدأ يضمن أنها له في تلك الليلة ما في ذلك شك ولا ريب. ولأول مرة يحس بالاطمئنان، وبأنه لم يعد ثمة داع للسرعة واللهوجة، وعليه أن يثق في نفسه وتصرفاته، ثقة الظافر الذي اطمأن إلى استكانة الفريسة بين مخالبه.
ولكن شيئا ما بدأ يستبد به ... شيء صغير رفيع لا يدري من أين جاءه، ودفعه لأن يتساءل: لماذا رضيت به السيدة هكذا ببساطة؟ كان واضحا أنها ليست من ذوات الأخلاق اللينة، ولا يبدو عليها أنها - حتى - صاحبت أي رجل آخر غير زوجها، بل لم تكن حتى امرأة «ستاتي» أو حريمي خالصة. كان لها طابع من يعملن، طريقة مشيها وكلامها، وحتى ابتسامتها فيها طريقة المرأة الجد الدوغري التي تعودت الاختلاط بالناس والرجال، ومعاملتهم معاملة الند للند، فلماذا تهاونت ورضيت به؟
خواطر كهذه سرعان ما بدأت تدور في عقله، وكلما دارت بدأ الشك يخالجه، بل جاءت عليه لحظة بدأ يحس فيها أن شعوره يخونه، وأن من الممكن أن تكون المرأة بريئة كل البراءة، وأنه هو الذي يصور الأشياء كما يحلو له. بل دفعه الخوف إلى أن يتأكد، وهكذا ازداد التصاقا بها واقترب بفمه من رقبتها، ثم ظل يلامس رقبتها بشفتيه حتى أحس بجلدها يقشعر تحت لفح أنفاسه، وحينئذ رفع فمه قليلا والتقت شفتاه بشفتيها وقبلها، وفوجئ بها تضمه هي الأخرى وتقبله.
وغمغم يقول: أريد أن أقبلك مرة أخرى.
وغمغمت هي الأخرى: وأنا أيضا.
وفارت الدماء في عروقه، هذه هي المرأة وإلا فلا. النساء في الشرق جثث لا نستطيع أن ننالهن إلا رغما عنهن، حتى لو كن يذبن غراما فيك. لا يرضيهن إلا أن يؤخذن عنوة، ولكن المرأة هنا، يا سلام، تقبل المرأة فتقبلك، تحضنها فتحضنك، تأخذها فتأخذك. هذا هو الشغل المضبوط، هذه هي المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة . وأمسك بيدها يعبث بها وقد بدأ يحس ناحيتها بألفة وحنان، واسترعت أصابعها الرفيعة، القوية من الضرب على مفاتيح الآلة الكاتبة حتما، انتباهه، ومن لمس الأصابع أحس بلحظة زمالة غريبة تربطه بها.
ووجد نفسه يسألها: البيت بعيد؟ - هنا بعد قليل.
كانا قد قطعا شوطا كبيرا، والشارع بدأت المصابيح التي فيه تقل وبدأ الظلام يكثر، وعلى عكس ما كان يتوقع درش أحس للظلام بألفة عجيبة، فقد كان كستار أسود كبير مسدل على البقعة وعلى النمسا، وحتى على أوروبا كلها، يكاد يحجبها ويجعله ينسى إحساسه بالغربة.
سارا مسافة أخرى طويلة ولم يبد على ملامحها أنهما قد اقتربا من البيت، وبدأ درش يحس بالقلق بطول المسافة، فالموقف بينهما - وكان قد بلغ درجة من السخونة - إذا طالت المدة عليه ربما يبرد، وربما يؤدي الطول إلى حديث، والحديث في موقف كهذا غير مستحب، بل في الواقع بالغ الضرر. - لا بد أن بيتك في آخر الدنيا! - إذن فقد وصلنا إلى آخر الدنيا.
وضحك، وضحكت هي الأخرى وهي تقول إن البيت في الشارع الجانبي القادم. وتنفس درش الصعداء، فحقيقة بعد خطوات قليلة دلفا إلى شارع متفرع ضيق، ومع ضيقه فقد كان يكتنفه صفان من أشجار طويلة جدا، ربما تكون أشجار الصنوبر التي درسها في الجغرافيا، وكان الشارع سكنيا صرفا مكونا من بيوت منخفضة متقاربة.
Unknown page