نيويورك 80
فيينا 60
نيويورك 80
فيينا 60
نيويورك 80
نيويورك 80
تأليف
يوسف إدريس
نيويورك 80
1
Unknown page
هو :
من فضلك يا مدام، بالمناسبة ... أهذه هي الطريقة الصحيحة في الحديث إلى السيدات، أم يجب أن أقول يا «مام»؟ (نظرة مفاجئة منها، ثم دهشة، ثم امتعاض قليل.)
هي :
ولماذا لا؟ فليكن، قلها سيدتي إن شئت أو «مام» إن شئت ... لم لا؟ هذه طريقة شائعة جدا هنا.
هو :
سيدتي، من الواضح أنك ... أنك ...
هي :
أجل، أجل، لأختصر وقتي ووقتك، أنا
Call Girl
أتعرف معنى هذا؟ لأختصر وقتي أكثر، أنا ممن يسمونهم «المومسات». (رغم أن الإجابة لم تكن مفاجأة له، إلا أن الطريقة كانت منقضة سريعة، وعقله يعمل بسرعة البرق، يردد السؤال أو الإجابة عدة مرات، لا ليتأكد بل ليستوعب، بعدما استوعب وأنب نفسه على أنه هو الذي خجل، رفع رأسه وواجهها، كان وجهها يصنع زاوية 45 أفقيا ورأسيا، أما عيناه فقد كانتا في محجريهما، هذا صحيح، ولكن زاويتهما كانت في وضع المسقط الرأسي حيث الحدقة إلى أعلى، ولكنه كان كمن أصبح يرى ببياض عينيه.)
Unknown page
هو (مونولوج داخلي) :
مومس؟! لماذا يسمى كل شيء هنا باسمه تماما وعلى حقيقته؟ ألا يخجلون؟ على أية حال نحن أكثر أدبا، سموه نفاقا أو ادعاء، ولكنه أرحم من الحقيقة الصارخة، والأسماء التي بالضبط على مسماها، مومس! الكلمة بشعة بأية لغة تقال حتى لو كانت الفرنسية، ومومس سارترها الفاضلة، مومس، وابل من «التابوهات» والتابلوهات والمناظر يتساقط متوحشا كمطر نيويورك. (ولكن هناك حق.
والحق يجب أن يقال.
سيدته تلك التي خاطبها لا تمت إلى البغي شكلا أو موضوعا بأية صلة، ترتدي منظارا غير شمسي (نظارة نظر) على آخر صيحة، وهو يعبد مرتديات النظارات؛ عيون مرتدياتها في العادة تتضح وتدق وتفصح عن مكنونها من أخمص القدم إلى أدق شعيرات النوازع التي غالبا ما تتعلق بنيتها نحو الرجل.
مومس!
جديدة في الكار حتما، يبدو وكأنها لم تبدأ احترافها إلا منذ الأمس فقط، ولكن المحدد والمؤكد أن هذه فتاة داخلها مغناطيس قوي غير محترف يشدها إلى جنس الرجل، حتى قبل أن يشد الرجل إليها .)
هو (مونولوج خارجي) :
سيدتي، أو ما تنطقونه بالأمريكية «مام»؟ أريد أن أقول لك شيئا واضحا قويا ومنذ الآن: أنا جالس هنا قبلك، وقد لاحظت أنك حين جئت فتشت المكان بناظريك ورغم خلو معظم المقاعد اخترت الكنبة التي أجلس على طرف منها لتجلسي على الطرف الآخر، ثم لاحظت ثلاثة رجال على التوالي تركوا جلساتهم الانفرادية على البار وحاولوا التودد إليك. عن عمد كنت ألاحظك، بل بلغ من ملاحظتي أني رثيت لك وحمدت الله أنه لم يخلقني أنثى، ولم أختر من أنوثتي أن أكون نديمة رجال؛ فقد كان الرجل الأخير سمينا، مجعلصا، لا يصلح إلا للضرب على القفا، وقد لاحظت أيضا أنه يغريك ويذكر اسم الشركة ذات السمعة العالمية الرهيبة التي يعمل بها.
هي (مقاطعة) :
وكانت له رائحة.
Unknown page
هو :
شيء مؤسف ومقزز. ولكنك حرة، وأنت اخترت أن يختارك الرجال أو يفرضوا عليك اختيارهم. وأنت أيضا حرة، ولكن حريتك لا بد أن تتوقف هنا حيث أقول لك. إني أيضا لاحظت أنك رفضت الرجال وكان أغلبهم منتفخي المحافظ والأوداج؛ لأنك وضعت عينك علي، بل اختلست أكثر من نظرة لي أو ناحيتي. وأنا أحب أن أكون صريحا معك إلى آخر حدود الصراحة. أنا أحتقر تماما نوعك، ولا أستطيع أن أتصور أن إنسانة تبيع جسدها مهما بلغت حاجتها إلى النقود، وأنت لا يبدو أنك تتضورين جوعا، بالعكس في أصبعك خاتم من البلاتين لا يقل ثمنه عن الألف دولار. نوعك أشمئز منه، أحتقره، أتقيؤه وأنا أنظر إليه. وبصراحة أكثر، أنا لا أنتظر أحدا، لا صديقا ولا صديقة، ولكني متعب تماما وجلستي على طرف الكنبة مريحة وغير مستعد أبدا لتغييرها. (عجيب أمرها؛ تسمع، تستوعب، لا تغضب، وكأن الكلام تماما غير موجه إليها. خذي إذن.)
هو (مواصلا) :
أحتقر نوعك إلى الحد الذي لا يمكن أن يتصوره عقل كعقلك لا ينفعل حتى بالشتائم. وبلا لف أو دوران. لقد رفضت المتقدمين السابقين لك لأنك - لا أعرف لماذا؟ - واضعة عينك علي. وبكل وضوح أقول لك إني مستعد أن أصحب غوريللا ولا أصحبك أو حتى أكلمك، فالمسألة عندي مسألة مبدأ، وأنت وأمثالك أعتبرهن أعداء. لو كنت مجرما بالسليقة لقتلتهن. لست زبونك إذن ولن أكون، فإما أن تغادري المكان، وإما ابحثي لك عن زبون، فأنا يضايقني أن أكون السبب في خديعة حتى ولو كانت لمخلوقة مثلك. (استدارت ناحيته تماما، شده، المحترفات عنده كائنات ملطخات الوجوه بالماكياج المبالغ فيه، والشعر لا بد باروكة أو مصفف بطريقة تلفت النظر، هكذا كان يراهن ومن على بعد كيلو يتعرف على سحناتهن في القاهرة أو في أي عاصمة دنيوية أخرى. هذه الجالسة بجواره لا تضع إلا القليل جدا من الماكياج. وجهها طبيعي تماما أو يكاد، منظارها في استدارة أنثوية صارخة ولكنها غير مقصودة. لو صادفتها في مكان آخر لحسبتها نائبة رئيس العلاقات العامة في هيئة الأمم المتحدة (نائبة وليست رئيسة، فهي أبدا لا يمكن أن تكون إلا بين الخامسة والعشرين والثلاثين). لا ابتسامة دعوة صريحة لزبون. لا اهتمام صارخ بما يفعل أو يقول. أنفة وكبرياء دون افتعال. محترمة وكأنها تقدس عملها المحترم.) (بشبح ابتسامة أرجوانية تتواءم تواؤما أنيقا مع «روجها» غير اللامع، تقول):
هي :
أفهم من هذا أنك تريدني أن أغادر مكاني؟
هو :
أبدا أنا لم أقل هذا.
هي :
إذن لماذا لا تغادر أنت كنبتي؟
Unknown page
هو :
هذه ليست لك وليست لي، إنها ملك الكافتيريا، البار، وليس في نيتي أن أغير أبدا مقعدي.
هي :
المسألة إذن أنك لا تحب البغايا.
هو :
لا هن ولا أشباههن ولا حتى التي تقبل الحب لقاء عشاء أو هدية. إنه لشيء بغيض بغيض، وحتى لا يمت إلى الحيوانية نفسها. (أدرك أنها تستعمل طرف لسانها الناعم، لا، لا يمكن أن تكون قد بدأت الاحتراف من أمس، إنها أستاذة احتراف. الجملة التالية ستسحب الإجابة من لسانه مهما قاوم وعصلج. ماذا يفعل؟ هذه أول مرة في حياته يجلس فيها كتفا في كتف إلى محترفة، بله يبادلها الحديث. في إقامته في عاصمته وأسفاره تعرض للكثيرات، للهاويات بهدايا وللمحترفات بنقود، ولكنهن كن دائما خجولات، حساسات، ما إن يشيح بوجهه، أو تبدو عليه سيماء الامتعاض حتى ينصرفن عنه، إما بالنظر إلى الجهة الأخرى أو البحث بقرون الاستشعار الخفية عن زبون آخر، أو في أحيان بمغادرة الجلسة أو المكان. هذه نوع جديد، إما أنها واثقة من نفسها ولا ثقة «نيرون»، وإما أنه النوع الذي لا يخجل، ولكنه يخفف وطء التحايل، أو ربما لديها وقت تريد إزجاءه ... أو ... وهذا هو الاحتمال الذي يرضي الغرور حقيقة، فضلته أو تريد تفضيله، لا تداعب غرورك (أنت وليست هي) يا ولد.)
هي :
حقيقة لماذا لا تحب المحترفات؟!
هو :
لأني أومن أن الحب - حتى الجسدي - لا يشترى بمقابل. (ضحكة طويلة، فورية جدا، لا تشبه أبدا حتى ضحكات نساء نادي الجزيرة، أكثر تحفظا بكثير، على الأقل نابعة من القلب، يعقبها مباشرة، نفس جملته السابقة):
Unknown page
هو :
لأني أومن أن الحب - حتى الجسدي - لا يشترى بمقابل. (ضحكة أخرى، كمية السخرية فيها أوضح، وموضوع تحتها خط من رموش عينيها وكأنها تضحك على عبيط، أو على الأقل كلام عبيط.)
هو :
أفندم (بالعربي) ؟
هي :
نعم، ماذا تقول؟
هو :
أفندم؟
هي :
أية لغة هذه؟
Unknown page
هو :
لغة.
هي :
جريكي؟
هو :
لا.
هي :
بولندي؟
هو :
لا.
Unknown page
هي :
من أي بلد أنت؟ (لا أريد أن أنساق، طرف لسانها يتندي وكأنما بسائل معطر منزلق، خشونة لسانه، بدأ ريقها يزداد تمهيدا لما هو أخطر وأفدح، أن يجف تماما، لا يمكن أن يحدث هذا، تلك امرأة تبيع أعز ما تملك المرأة بنقود، تعامل جسدها على أنه كومة بطاطس، أو حزمة فجل. الاحتقار يتصاعد من جوفه ليملأ حلقه، حتى رائحتها (برفانها) ورائحته استحالتا إلى رائحة كرائحة سوق الخضار واللحمة في باريس «معدة باريس»، بل تهدد بأن تتحول إلى رائحة كرائحة رصيف الجلود على امتداد الطريق الخلفي لميناء الإسكندرية.)
هو :
أفندم؟
هي :
من أي بلد أنت؟ (جاوبها يا خجول بغلظة لكي تجلو.)
هو :
من مكان ما في العالم.
هي :
وماذا تعمل؟
Unknown page
هو :
أي عمل.
هي :
ماذا تعني أي عمل؟ كل إنسان لا بد له من عمل، ما عملك أنت؟
هو :
عمل من الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الأنيقون الحليقون المكومون أمامك على مناضد الكافتيريا البار.
هي :
بزنس مان؟
هو :
مان من غير بزنس.
Unknown page
هي :
تحاول أن تبدو غامضا، لماذا؟
هو :
لأني لا آتمنك.
هي :
حتى على نوع عملك؟
هو :
حتى على نوع عملي. (واجهته تماما، يا ألطاف الله! أجمل أنثى، ليس في الكافتيريا البار فقط، ولكن منذ وقت طويل لم يلمح (بله أن يتحدث ويجاور ويحاور ويترازل على فتاة بهذا الجمال)، لا ليست عيونا خضراء وشعرا ذهبيا وفما كفم برجيت باردو: لونها قمحي فاتح أحمر، ملامحها صاغها عقل حساس قاذف لاقط. ذلك الجمال الذي صاغه الله بحلاوة، وصاغته صاحبته وشكلت ملامحه بأحد ما يكون الذكاء بحيث مغنطته؛ تراه فتنجذب عيناك ولا تريم. فتاة كان تماما لا بد يحبها، بل من أجلها يترك أدق مهامه؛ فمن أجلها وأجل أمثالها يستضاع العمل ويضيع الرجل.
ولكنها تبيع جسدها، هذه التحفة معروضة للبيع.
فجأة ينبثق من داخله حب استطلاع ذئبي تاجر، كالسيدات المصريات المتجولات في أكسفورد استريت يحببن في التو أن يعرفن كم الثمن، وآخر ما يفكرن فيه الشراء.)
Unknown page
هو :
كم ثمنك؟!
هي :
لمرة أو لساعة أو لليلة أو لشهر؟
هو :
يا نهار أبوك أسود!
هي :
أنت تتكلم الإنجليزية بطلاقة، فلماذا هذه اللغة الغريبة؟ أأنت خائف أن تواجهني أيها ... ال... رجل الذي لا يحتمل فكرة أن تعرض عليه سيدة نفسها بمنتهى الصراحة والمواجهة والوضوح.
هو :
كنت أسبك. (بمنتهى بذل الجهد قالها.)
Unknown page
هي (بمنتهى البساطة والتفتح) :
أي نوع من السباب، لدينا في نيويورك أشهر أنواع السباب. (بول شيت) - أي تبويلة الثور - إلى كافة أنواع الإفرازات والفتحات والنتوءات.
هو (مكملا) :
وأجساد الأمهات والآباء والأخوات.
هي :
لا أفهمك.
هو (مهاجما) :
وهل تبويلة الثور مفهومة؟! كل الشتائم أصلها غير مفهوم، وحبذا لو لم تكن مفهومة؛ لأنها حينئذ تصبح أقذع أنواع الشتائم.
هي :
وهل كنت تشتمني؟
Unknown page
هو :
كنت أندهش شاتما. (وقرر أن يصمت، مهما حاولت لن يتكلم، استدار إلى الكافتيريا البار. معظم النساء الحاضرات لا تعرف إن كن محترفات أو غير محترفات . (لم يعد ثمة فارق على الأقل في هذا المكان الغاص.) أحتقر النساء الحاضرات والغائبات والجميلات والقبيحات.
كل منهن استعار منها (أو أعارها هو) قناعا منها، فقد كان من الواضح أنها تملك سبعين قناعا.
نظرت ناحيته، أطالت النظر، الابتسامة تحولت إلى ابتسامة «شغل» أو «شبه شغل».)
هي :
كنت تسأل عن ثمني؟ (احتار، يجيب ويفتح باب حديث واربه تمهيدا لإغلاقه؟! شيطان داخلي صغير جدا من حب الاستطلاع ينقر كتكوتيا قشرة إرادته التي لا تزال رقيقة كقشرة بيضة نيئة.
صمت.
أجابت بابتسامة أدركت بذكائها أنها حملتها أكثر مما ينبغي الموقف من «بيزنس»، رغم النور الخافت والمخفت والمصوب لمح في عينيها شيئا دقيقا جدا، واهنا جدا، ولكنه قطعا وبالتأكيد يمت إليه.
رئيس الجرسونات، بدلة سوداء أنيقة خليقة بسير مايلز لاميسون آخر مندوب سام لبريطانيا في مصر، ولكنه أكثر منه وسامة ونحافة واستقامة. وجهه صخري وكأنه كبير القضاة في محكمة نقض، جاد، أقبل عليها، ظنه على طريقة زملائه في عواصمنا جاء يطردها أو يستدعيها، فقد لمح أجمل شعر فضي - أجمل من شعر عمر الشريف - يهمس له من مقعده العالي في زاوية البار البعيدة. كان قفاه وشعره الخلفي المفضض المفلفل هو الذي يواجهه، إذ بعد همسته لل «ميتر دي بلاس» استدار مواجها رجلا سمينا بيضاويا أسمر يضع فوق رأسه غطاء آسيويا.
جاء الكونت جرسون، بوجهه الجاد الدءوب، انحنى على أذنها، بضع كلمات، استمعت، ابتسمت، هزت رأسها رافضة، ببطء، ونظرات موجهة إلى مقعد الداعي البعيد ومؤدبة أيضا ومبتسمة رفضت.
Unknown page
من الواضح أن اختيارها تم، وأنها استقرت عليه - نقبك على شونة - يا سيدتي المومس المحترمة.
ناحيته، بلا ابتسام.)
هي :
كنت تسأل عن ثمني؟ (كسر الكتكوت المستطلع قشر البيضة وأطل برأسه إطلالة مرعبة، إطلالة أول مرة تتفتح عليها عين كتكوت ما رأى العالم ولا رأى شيئا أبدا، وفجأة عليه أن يسأل ويعرف ثمن البغي الجالسة في بار الكافتيريا النيويوركية أكثر احتراما واحتشاما من - على الأقل - جاكلين أوناسيس، بل وأكثر جاذبية وجمالا. من ذلك النوع الذي يتحول فيه كتكوته المدهوش إلى ذئب كازانوفي جيجولي مستعد لكسر القشرة الأرضية كلها والدخول في الحال إلى منطقة فقدان الوزن والجاذبية الأرضية والشمسية والقمرية والمجرية حتى.)
هو :
نعم، كم ثمنك؟
هي :
للمرة مائة دولار، لليلة ثلاثمائة.
هو (مواصلا وكأنه عادل إمام أو فؤاد المهندس، فالريحاني رحمه الله كانت ستفر من عينه دموع المسكنة) :
وثمنك لشهر بأكمله؟
Unknown page
هي :
إذا أعجبتك ثلاثة آلاف (السعر هنا مخفض لأنه كما ترى بمعدل مائة دولار في الليلة الكاملة الواحدة).
هو :
وإذا لم تعجبيني؟
هي :
أعتقد أني أتحدث إلى رجل ذكي، كيف لا أعجبك لليلة وتريد السؤال عن ثمن شهر؟ (نبتت نقطة عرق باردة واحدة في أخدود رقبته من الخلف، وكأن شعر قفاه أمطرها، رذة صيف.
إنه أمام امرأة ذكية جدا، هذا ليس حوار بغايا. أول مرة رآهن كان طالبا في الجامعة، وكان زميله في الشقة يغواهن مثل أبيه، بل أحيانا كان الأب والابن يشتركان معا، واشتهر هو بحجرته واشتهرت كذلك شقتهم بين بغايا شارع قصر العيني والمنيرة وحتى المدبح، وكان فتيات آخر الليل، على الأقل أولئك اللاتي لم يظفرن بزبائن، قصيرات نحيفات متواضعات الملابس والهيئة، معظمهن فيما كان يعتقد يعانين من أمراض سرية، بل إنه عالج واحدة منهن من الجرب، وظلت الشقة تحفل برائحة الكبريت زمنا. كن يأتين، ثلاثا، أربعا وربما خمسا ينمن في الصالة، على البلاط، بلا غطاء، على الأقل هذا مأوى أحسن من الشارع وعمود النور، ما إن يضعن رءوسهن على البلاط حتى يذهبن في نوم عميق. واحدة منهن كانت تستيقظ وتوقظهن فزعة تصرخ من كابوس مزعج، فسرته لهم في لحظة رعب أنه عمها الذي رباها واعتاد أن يضربها وينالها، ولماذا الصراخ؟ لأني اعتدت على أن أنام مضروبة معتدى عليها، ولماذا الفزع؟ لأن النوم العادي يسبب لي الكوابيس، العادي يسبب الكوابيس؟ أجل، كابوس أن أموت؛ فالضرب يشعرني أني حية، والاعتداء يجعلني أهفو وأحلم وأعيش على أمل ليلة أخرى.
لك الله يا عوض، دفعه حب الاستطلاع ذات مرة لتفتيش كيس نقود واحدة منهن (فلم يكن لأيهن سوى واحدة - اسمها تحية - حقيبة يد) في الكيسة خمسة قروش وتعويذة زرقاء، وبضع «بنسات شعر» وخطاب قديم جدا من أخيها ليس فيه سوى إهداء السلام. أما المحير فهو زجاجة صغيرة مملوءة لآخرها بصبغة يود مركزة، حسبها تستعملها للتطهير بعد مزاولة الشغل، ولكن في الصباح كان حب الاستطلاع أقوى، فصبغة اليود كاوية لاهبة، اعترف لها بتفتيش الكيس، وسألها عن صبغة اليود الزجاجة، بلا دراما مستقاة من الأفلام، وبلا انفعال قالت: هذه لأشربها إذا أمسكوني.) - من؟! - بوليس الآداب. - ولماذا تشربينها؟ إن هي إلا بضعة أيام حبس ولا تستدعي الانتحار.
قالت: معظمنا لدينا زجاجات مثلها، ومن علمتني الكار علمتني احتياطيا حمل الزجاجة. - لتنتحري؟ - وإيه يعني! - تموتين؟! - إني أعيش كالكلبة، ولا يجري ورائي سوى كلاب الصائدين (تقصد أفقر صائدين، أفقر من الكلاب الضالة.) - إذن لماذا لا تزالين تعيشين، ولماذا لم تشربيها إلى الآن؟ - الروح حلوة، وهذه آخر ملجأ. - هل استعملتها؟ - لا، واحدة زميلتي عملتها. - وأفاقت؟! - لا تزال بالمستشفى، وعلى العموم ماذا يحدث؟ سيحدث واحد من اثنين إذا انزنقت: إما أن أشربها وأموت وأستريح من لف الشوارع ونوم البلاط والكي بأعقاب السجائر جلبا للمتع الجنسية الشاذة، وإما ألا أموت ويأخذوني إلى المستشفى، بوليس آداب القسم غصب عنه يأخذني إلى المستشفى، ورغم ما يصورونه من دخول أنبوبة غسيل المعدة فهو كله أنابيب وكله سائل وإدخال وغسيل، إنما المهم أني سأضمن أن أقضي عدة أيام بالمستشفى، أكل وشرب ونوم، ولا توجد رائحة رجال. - ولكنك ستخرجين مرة أخرى للكلاب الصائدين. - أي نعم، ولكني أنتهز فرصة وجودي بالمستشفى وأعبئ زجاجة أخرى من صبغة اليود المركزة. - من يعبئها لك؟ - التومرجي. - ببلاش؟ - لا شيء ببلاش. خمس دقائق مع التومرجي في مرحاض من مراحيض قصر العيني الكثيرة.
هي :
Unknown page
إنك تبدو ذكيا جدا، فراستك لم أرها في إنسان، ولكنك أحيانا تقول أشياء ... آه ... أشياء لا تتفق مع ذكائك، آه فهمت، أنت عالم، أستاذ جامعة أنت، لا، أنت أصغر من أستاذ، مخرج مسرح، كنت سأقول إنك ممثل. ولكني لم ألحظ أنك أديت معي لحظة واحدة من التمثيل، من أنت بالضبط؟ ومن أي بلد؟ وماذا تعمل؟ (مصرة هي أن ينزلق.)
هو :
وماذا يهمك يا سيدتي من أكون أو ماذا أعمل؟ لم أصبح بعد، ولن أصبح زبونا ينزلق، فماذا يفيدك أن تعرفي من أكون؟
هي :
لأننا نتحدث، إننا تحدثنا الآن نصف ساعة بأكملها، ولقد عرفت أنت من أنا، وللآن أنا لم أعرف من أنت، وهذا ... وهذا ...
هو :
قلة ذوق.
هي :
لا، اسمح لي هناك كلمة أليق ... الخوف، أنت خائف مني إلى غضاريف مفاصلك، أشعر بمشدات ركبك الداخلية ترتجف، ماذا يرعبك؟
هو :
Unknown page
صبغة اليود المركزة.
هي :
صبغة اليود المركزة؟
هو :
نعم، في حقيبة مومس مثلك.
هي :
حقيبتي ليس فيها من سوائل غير رائحة «الأستيلويدر» أحدث وأروع بارفان في العالم اليوم. شم. (فتحت الحقيبة، أخرجت زجاجة البارفان، فتحتها. أمسكت يده فجأة، صبت على ظهر يده نقطة، اشتعلت النار في الجلد وكاد يطلق صرخة تعبر الأطلنطي على متن كونكورد، بدا الألم المروع واضحا على معالمه.)
هي :
شمها، إنها أعظم بارفان اكتشفته سونيا ماجدلينا، شم. (شم رائحة تحت الإبط لسيدة لم تعتد النظافة، ورغم هذا فالجو يحفل خارج - نقطة جلده - ببارفان تسكر رائحته وتعم جو الكافتيريا البار، وتحيل رائحة المشروبات «وفواكه البحر» والدخان المتصاعد من السجائر والسيجار إلى بخور في معبد هندي لا يدخله إلا الرهبان، ليستعينوا بما تشيعه الرائحة من قدم ضارب في أعماق الكهنوت والأسرار، القدم جنبا إلى جنب مع حداثة حملت الإنسان إلى القمر وأطلقته أثيرا في أثير، ولكن بقعة جلده (يعيد شمها) مصدر هذا كله فلا يجد سوى رائحة تحت الإبط الحامض بالعرق، وينتقل البواخ المتصاعد منه يجعد ملامح وجهه ويغلق طاقتي أنفه ويحس بالمعدة وصلت للهاة اللسان.
تنظر هي إلى ملامحه مرة، تتحسس بفمها شما رائحة المكان، تضعه على ظهر يدها وتستسلم للرائحة تدغدغ وتخدر خياشيمها الفراشية، يستحيل وجهها هو الآخر إلى أثير، ثم يندك فجأة إلى سابع أرض إثر لمحة إلى ملامحه.)
Unknown page
هي :
إنه أغلى عطر في العالم، ألا تعرف هذا؟
هو :
أعرف.
هي :
أتعرف كم ثمنه؟
هو :
أجل.
هي :
كم؟
Unknown page
هو :
خمس دقائق في مرحاض من مراحيض قصر العيني.
2
هي :
أنت «معقد» يا عزيزي عقدة خطيرة، أتعرف لماذا تكره تماما أن تزاول الحب مع امرأة محترفة؟ (أن تتحدث مع شخص، حتى لو كنت تكرهه، وتمضي في الحديث فإنه يحدث رغما عنك وعنه نوع من المعرفة، والمعرفة تقلل رغما عنكما العداوة، أو بالأصح تدفع بها إلى مناطق عدم الانفعال المباشر، يعرف لماذا يكره المحترفات، ولا حاجة به أن يعرف المزيد.)
هو :
لأني أقدس الجسم البشري وبالتالي روح الإنسان.
هي :
ماذا تعني بتقديس الجسم البشري؟ أم تقصد الجنس البشري.
هو (لنفسه) :
Unknown page
يا بنت الحرام وربيبة الحرام، كفي عن تدقيق المعاني، فلا أنت برتراند رسل ولا رئيس المجمع اللغوي للتعبيرات السكس جسدية. نعم لأني أقدس الجنس البشري، وبالتالي أقدس الجنس نفسه والعقل نفسه والإحساس البشري نفسه، فأنا لست ثورا، والمرأة ليست معزة أو بقرة، ولأني لست كلبا ضالا والمرأة ليست كلبة مصابة بسعار.
هو (لها) :
أفهمت ما لم أنطقه؟
هي :
أنت نصف مثقف، رغم أني أعرف الآن عنك على الأقل ثلاثة أشياء!
أولا: أنت كاتب.
ثانيا: أنت لا زلت طفلا عاطفيا ونفسيا.
ثالثا: ويبدو أن السبب الحقيقي أنك استكثرت ثمني.
هو :
تريدين أن تزاولي طريقتكم المحببة: الهجوم والاتهام، لأقف أنا موقف المدافع قليل الحيلة.
Unknown page